قيس بن الملوح لم يكن الشاعر الوحيد الذي سلبه العشق لباب عقله، فقد حطَّم فراق لبنى قلب قيس بن ذريح أيضاً، حتى سُمي بمجنون لبنى، الذي خلَّف لنا هو الآخر إرثاً شعرياً يروي قصة هيامه ومعاناته من الحب وآلام الفراق.
فما هي قصة قيس بن ذريح الذي مات مكلوماً بعد موت محبوبته بثلاثة أيام؟
قصة قيس بن ذريح ولبنى
عاش قيس بن ذريح الليثي الكناني في القرن الأول من الهجرة في بادية الحجاز، وقد كان أخاً للحسين بن علي من الرضاعة، وقد كان قيس شاعراً، زاده هيامه بلبنى بلاغة وفصاحة.
التقى الحبيبان ظهيرة يوم حار، عندما كان قيس ماراً ببني كعب ليقضي بعض حوائجه، وقد ألهبه الحر فاقترب من خيمة مستسقياً أهلها، فقدمت إليه فتاة فارعة الطول، بارعة الجمال، ساحرة العينين جرعة ماء، زادته ظمأً، بعد أن أشعلت نيران الحب بداخله.
منذ تلك اللحظة هام قيس بلبنى، وبات طيفها يلاحقه أينما ذهب، حتى لم يعد يطيق صبراً للاجتماع بها، ونظم فيها أشعاراً تنافس في روعتها تلك التي نظمها ابن الملوح في غرام ليلى.
الحسين بن علي وسيطاً بين المحبين
لم يعد غرام قيس بلبنى سراً، فقد بات القاصي والداني يعلم ما يكنّ قيس من الهوى، بعد سماع أشعاره التي تصف هيامه ولوعته.
وعندما أخبر قيس بن ذريح أباه أنه يريد أن يتزوج لبنى، رفض والده في البداية، فذريح لا يملك ولداً سوى قيس، وقد كان كثير المال، ولم يُرد أن تخرج أمواله للغرباء، فأصرَّ عليه أن يتزوج قيس واحدة من بنات عمه بحجة أنهن أولى به.
ولما يئس قيس من أبيه، قصد الحسين بن علي، شاكياً إليه حاله، فقال له الحسين: أنا أكفيك.
فمضى معه إلى أبي لبنى، الملقب بالخزاعي، خاطباً إياها لقيس.
أعظم الخزاعي مجيء الحسين إلى داره، لكنه قال لما سمع طلبه: يا ابن بنت رسول الله، ما كنت لأعصي لك أمراً، وما بنا عن الفتى رغبة، ولكن أحب الأمرين إلينا أن يخطبها ذريح علينا، وأن يكون ذلك عن أمره، فإنا نخاف أن يسمع أبوه بهذا فيكون عاراً ومسبة علينا.
فأتى الحسين ذريحاً، وقومه مجتمعون، فقال: يا ذريح، أقسمت عليك بحقي إلا خطبت لبنى لابنك قيس، فجاوبه الأب بالسمع والطاعة.
وتزوج الحبيبان، إلا أنهما لم يُرزقا بالأطفال، وكان هنالك ما ينكد عليهما صفو حياتهما، فلو أنهما عاشا بسعادة وهناء لما كان بين يدينا اليوم واحدة من أعظم قصص الحب عند العرب.
طلاق قيس ولبنى
كان قيس من أبرّ الناس بأمه، إلا أن زواجه ألهاه عن بعض ذلك، مما أثار حفيظة والدته، التي بدأت محاولاتها لتفريق الحبيبين.
لم تستطع أم قيس إقناعه بالطلاق من لبنى، لكنها وجدت سبيلاً آخر عندما مرض قيس مرضاً شديداً، برئ منه بعد فترة، فتوجهت إلى والده وقالت: لقد خشيت أن يموت قيس ولم يترك خلفاً، وقد حرم الولد من هذه المرأة، وأنت ذو مال، فيصير مالك إلى الكلالة، فزوِّجه غيرها، لعل الله عز وجل يرزقه ولداً، وألحت عليه في ذلك.
بعد هذا الاقتراح عكف الوالدان على محاولة تزويج قيس بأخرى، بحجة أن لبنى لا تنجب الأولاد، ولما رفض قيس أن يفعل ما يسوء زوجته أقسم عليه والده إلا أن يطلقها.
وبلغ الأمر بذريح أنه أقسم ألا يُظله سقف بيت أبداً ما دام قيس متزوجاً بلبنى، فأصبح يقضي يومه في العراء تحت الشمس، محاولاً الضغط على ولده، الذي كان يقف طوال اليوم إلى جانب والده، يُظله بردائه حتى تغيب الشمس.
ويقال إن ذريحاً مكث سنة على هذه الحال، إلى أن طلق قيس زوجته.
وقال ليث بن عمرو، إنه سمع قيس بن ذريح يقول ليزيد بن سليمان: هجرني أبواي اثنتي عشرة سنة، أستأذن عليهما فيردّاني، حتى طلقتها.
الخليفة أهدر دمه
يقال إنه لما رحلت لبنى إلى أرض قومها بعد أن أنهت عدتها، تبع قيس موكبها وهو يبكي ويقبل التراب منشداً:
وما أحببت أرضكم ولكن أقبل أثر من وطئ الترابا
لقد لاقيت من كلف بلبنى بلاء ما أسيغ له الشرابا
إذا نادى المنادي باسم لبنى عييت فلا أطيق له جوابا
ومرض قيس بعد فراق لبنى مرضاً شديداً، وبات يذكر اسمها ويغزل عنها الأشعار ليلاً نهاراً، ولما يئس ذُريح من ابنه استشار قومه في دائه، فاتفقت آراؤهم على أن يأمروه بالتجول في أحياء العرب، فلعل عينيه تقعان على امرأة تستميل قلبه، فأقسموا عليه أن يفعل ففعل.
وبينما كان ماراً بحي من فزارة رأى فتاة كالبدر حسناً، فلما سألها عن اسمها، قالت: لبنى، فسقط مغشياً عليه.
ارتاعت الفتاة منه، ونضحت وجهه بالماء، فلما أفاق سألته عن نسبه فقال قيس بن ذريح فقالت: عرفناك، قيس لبنى، وأقسمت عليه أن ينال من طعامهم، وبعد أن زار بيت أخيها أقسم عليه أن يقيم عندهم شهراً.
أعجب الفزاري بقيس، وألح عليه بطلب الصهارة حتى وافق، خصوصاً بعد أن علم والداه بالأمر وزادا عليه الإلحاح.
ولما بلغ لبنى أن قيساً تزوج سواها، وهي التي رفضت الكثير ممن تقدموا لها أملاً في عودته، غمها الخبر الذي سمعته، ووافقت على الزواج من خالد بن خلدة الغطفاني.
لم يكن زواج قيس السبب الوحيد الذي دفع لبنى للقبول، فقد كان والد لبنى قد اشتكى قيساً إلى معاوية، أنه يتغزل بابنته، ويروي محاسنها بعد طلاقهما، فكتب معاوية إلى مروان أن يهدر دم قيس، فخشيت عليه أن يقتله أهلها ووافقت على الزواج من الغطفاني.
لقاء ألهب الجروح القديمة
شاءت الأقدار أن يلتقي الحبيبان مجدداً بالصدفة، فقد روي أن قيساً قصد المدينة لبيع واحدة من إبله، فاشتراها زوج لبنى وهو لا يعرفه.
ثم قال له ائتني غداً في دار كثير بن الصلت أقبضك الثمن، فجاء وطرق الباب فأدخله وقد صنع له طعاماً، وقام لبعض حاجاته، ولما دخلت لبنى الدار بُهت وجهه وجلس ساكناً دون أن يتكلم، ثم انفجر بالبكاء وخرج مسرعاً، فناداه زوج لبنى: ويحك ما قصتك، ارجع اقبض ثمن ناقتك وإن شئت زدناك، لكن قيساً لم يُجبه وركب بعيره ومضى.
وكان أمر قيس قد اشتهر في المدينة، وغنّى شعره المغنون، وبات الصغير والكبير يحفظ ما قال قيس بلبنى، مما أثار غضب زوجها، الذي انطلق إليها معاتباً، فقالت له: يا هذا إني والله ما تزوجتك رغبة فيك، ولا فيما عندك، ولقد علمت أني كنت تزوجته قبلك، وأنه أُكره على طلاقي، ووالله ما قبلت بك إلا بعد أن أهدر السلطان دم قيس، فخشيت أن يقتله أهلي فقبلت بك، ففارقني إن شئت.
كظم الغطفاني غيظه، وخرج دون أن يردّ على لبنى التي باتت تجهش بالبكاء كل يوم منذ أن رأت قيساً.
مات بعدها بـ3 أيام
ألهب لقاء لبنى مشاعر قيس، التي لم تسكن أصلاً، وشكى حاله ثانية للحسين، فاجتمع الحسين بن علي بن أبي طالب وأخوه الحسن وابن أبي عتيق وجماعة من قريش، وتوجهوا إلى دار الغطفاني، الذي أعظم مجيئهم، فقالوا: جئناك بأجمعنا في حاجة، فقال: هي مقضية كائنة ما كانت، فقالوا: تهب لنا زوجتك لبنى وتُطلقها، فقال: فإني أشهدكم أنها طالق ثلاثاً.
ثم سأل القوم أباها فردّها على قيس.
بقيت لبنى عند قيس حتى ماتت، وقيل إنه يوم مماتها أكبّ على قبرها يبكي حتى أغمي عليه، فحمله أهله إلى داره، فلم يزل عليلاً مكلوماً لا يفيق ولا يجيب ثلاثة أيام، حتى مات بعدها، ودفن بجوار محبوبته.