"كان رجل دولة شريفاً، خدم كلاً من الشعب والدولة 33 عاماً، واجه خلالها مشاكل كبيرة، إلا أنها كانت أيضاً سنوات من الابتكار والتقدم الذي حققته الدولة العثمانية في مجالات التعليم والنقل وكذلك الصحة والاتصالات".
هكذا وصف رئيس البرلمان التركي السابق بن علي يلدريم، السلطان العثماني الرابع والثلاثين عبد الحميد الثاني في ذكرى وفاته بالعاشر من فبراير/شباط 2019. وفي هذا التقرير نقرأ كيف أسهم السلطان عبدالحميد الثاني في تغيير شكل الدولة العثمانية التي كانت تعاني حين أصبح سلطاناً إلى الأفضل.
فمن هو السلطان عبد الحميد الثاني؟
وُلد عبد الحميد الثاني بإسطنبول في 21 سبتمبر/أيلول 1842. قضى طفولته وشبابه في فترة التنظيمات وهي فترة الإصلاحات بالإمبراطورية العثمانية التي شهدت فيها الدولة العثمانية تطورات وإصلاحات فكرية وثقافية كبيرة.
أحب العلم وتحدث عديداً من اللغات وضمن ذلك الفرنسية والعربية والفارسية، وسافر مع عمه السلطان عبدالعزيز إلى أوروبا ومصر، وتوسعت رؤيته للعالم من خلال هذه السفريات.
حكم عبد الحميد الثاني الإمبراطورية العثمانية 33 عاماً، وعندما تولى العرش في 31 أغسطس/آب 1876، كانت الإمبراطورية تواجه مشاكل كثيرة، بسبب التهديدات الأوروبية في الداخل والخارج، لكنه حاول جاهداً الاهتمام بتطوير البلاد في المجالات كافة، متأثراً في ذلك برحلاته لأوروبا، لكنه كان حريصاً أيضاً على عدم سريان الفكر الغربي في بلاده، فحاول الدمج بين التطوُّر والتقدّم الأوروبي والقيم والتقاليد الإسلامية، فهل نجح في ذلك حقاً؟.
أول دستور في الدولة العثمانية مستوحى من التجربة الأوروبية
بدأ المثقفون والكُتَّاب العثمانيون الشباب، في فترة التنظيمات، بالمطالبة بالإدارة الشرعية متأثرين في ذلك بأوروبا والتطور السياسي القائم فيها آنذاك.
كما كان رأي الصدر الأعظم آنذاك مدحت باشا، بأن الحكم الدستوري وتشكيل مجلس يعترف بوضع جديد للمسيحيين ووضع مبادئ دستورية للمساواة بين رعايا الدولة دون النظر إلى أديانهم- سيخفف من الضغوط الأوروبية الخارجية.
أيضاً كانت هناك حاجة لبناء الدولة على أسس اجتماعية راسخة، ولذلك وافق السلطان عبد الحميد الثاني على إصدار أول دستور أو القانون الأساسي كما كان اسمه، في 23 ديسمبر/كانون اﻷول عام 1876، لكنّه أيضاً أوقف العمل بهذا الدستور بعدها بفترةٍ وجيزة، خوفاً من تنامي الحركات التحررية داخل السلطنة التي قد تستغل العمل بالدستور في الإطاحة به.
الجامعة الإسلامية في مواجهة التدخل الغربي
تبنَّى السلطان عبد الحميد الثاني سياسة الوحدة الإسلامية، من أجل معارضة التدخل الغربي في الشؤون العثمانية؛ وتكوين قوة سياسية إسلامية تقاوم توغل الغرب في المواقع الإدارية والسياسية بالدولة العثمانية.
لهذه الأسباب تأسست الجامعة الاسلامية، التي عُرفت فيما بعد بجامعة إسطنبول، في عام 1900.
تبرعات السلطان التي ساعدت في تحقيق النهضة
باستخدام أمواله الخاصة، قام ببناء مستشفى شيشلي للأطفال ودار العجزة للتمريض، وكلاهما لا يزال يعمل في إسطنبول حتى الآن.
ومدَّ خطوط التلغرف إلى كل أنحاء الدولة على نفقته الخاصة، في وقت لم يصل فيه التلغراف لبعض الدول الأوروبية، وعمل تجارب لغوّاصة في إسطنبول على نفقته الخاصة، في وقت لم تكن فيه دول أوروبية تعرف معنى الغواصة، لكنّ ذلك لم يمنع الدولة من السقوط بعد عزله بأقل من 20 سنة.
حلمه الذي حققه أردوغان
كان السلطان عبد الحميد الثاني أول من اقترح ربط شطري إسطنبول الآسيوي والأوروبي، ووضع أفكار وتصاميم من أجل ربط القارتين بممرٍ تحت الماء، لكن الإمكانات وقتها لم تسمح له بتنفيذ حلمه.
وقد تحقق حلمه عام 2016 في عهد الرئيس أردوغان، الذي افتتح نفق أوراسيا الرابط بين شقَّي مدينة إسطنبول الآسيوي والأوروبي والممتد لـ4.5 كيلومتر أسفل بحر مرمرة.
وقد أعطى السلطان عبد الحميد الثاني أهمية كبيرة للرياضة، وتأسست أكبر ثلاثة أندية في كرة القدم التركية -فناربهشه، وغلطة سراي، وبشكتاش- خلال فترة حكمه.
الحلم الذي آمن به الجميع فتحقق.. ولكن!
سعى السلطان عبد الحميد الثاني إلى ربط الأقاليم العثمانية بشكلٍ أكبر بإسطنبول، عاصمة الدولة التاريخية، وتوفير الحماية لها. كما سعى لتوفير الأمن للحجاج الذين كانوا يتوجهون من إسطنبول إلى الديار المقدسة عبر قوافل تستغرق شهوراً وتتعرّض لخطر السرقة.
لذلك في عام 1900، أمر ببناء خط سكة حديديبة يربط إسطنبول بمكة المكرمة والمدينة المنورة واليمن عبر دمشق.
في البداية، قُدرت التكلفة الإجمالية لمشروع "سكة حديد الحجاز" بأربعة ملايين ليرة عثمانية، وكانت هذه تكلفة ضخمة على الدولة العثمانية، التي لم تتمكن من الحصول على قروض أوروبية من أجل المشروع.
لذلك جُمعت التبرعات من أجلها وبدأ السلطان نفسه بالتبرع، فضلاً عن الأسرة الحاكمة ورجال الدولة البارزين، وحتى عموم المواطنين تبرعوا بمبالغ كبيرة.
وصل خط سكة الحديد إلى المدينة المنورة المقدسة في عام 1908، وبلغ طول الخط 1464 كيلومتراً، وكان حلمه أن يمتد الخط إلى مكة، لكن للأسف لم تكن هناك إمكانية لتنفيذ هذه المشروعات الكبرى في وضعٍ متهالك.
السلطان الذي وقف في وجه المشروع الصهيوني
سَنَّ السلطان عبد الحميد الثاني تشريعات لمنع هجرة اليهود إلى فلسطين، ورفض محاولات استيطانهم في القدس.
وقد أغراه اليهود بتسديد كل ديون الدولة العثمانية مقابل حصولهم على وطن في فلسطين، لكنه رفض عرضهم بكل قوة.
في عام 1876، أصدر مذكرة قانونية بعنوان "مذكرة الأراضي العثمانية"، تنص على منعه بيع الأراضي العثمانية -خاصة الفلسطينية- لليهود، وجهز وحدة شرطة خاصة لتنفيذ هذا المنع ومتابعته.
حقوق المرأة مكفولة ولكن بشروط!
اهتم السلطان عبد الحميد الثاني بتعليم المرأة وفتح المدارس أمامها، لكن منع اختلاطها بالرجال وألزمها بالحجاب الشرعي عند خروجها للشارع.
حاول أن يقف ضدّ سريان الفكر الغربي في نظام التعليم، فاستبعد مادة الأدب الغربي والتاريخ العام من البرامج الدراسية، وجعل التعليم يقتصر فقط على تدريس التاريخ الإسلامي وضمنه العثماني، ووضع دروس الفقه والتفسير في مدارس الدولة، لكنّ هذا أيضاً لم يمنع سقوطه أو تحوُّل الدولة من بعده تجاه النموذج الأوروبي بعض الشئ، إذ انّ المجتمع العثماني حينها كانت قد تغلغلت فيه الكثير من الأفكار الفرنسية والأوروبية بخصوص الديموقراطية وحقوق المرأة.
الحاكم الذي لم يرضخ قط
بدا واضحاً لليهود ولأوروبا أن هذا الرجل لا يمكن استمالته أبداً لتحقيق مطامعهم في فلسطين والدولة العثمانية والسيطرة على أملاكها، واتفقوا على أنه لا بد من إسقاطه بأي شكل؛ ونُسجت حوله عديد من المؤامرات، خاصة من قِبل الجمعيات التي تدعمها الحركات الصهيونية والماسونية.
لكن أيضاً كانت بعض حركات التحرر الوطني المتأثرة بالأفكار الغربية كانت قد بدأت تنمو، واستطاعوا عبر الكثير من الصراع مع السلطان عبدالحميد وبوليسه السري، أو يتوصّلوا إلى عزله في 27 أبريل/نيسان 1909 بعد 33 عاماً من الحكم، وحل محله شقيقه الأصغر محمد الخامس، الذي لم يعد له أي سلطة تذكر.
في الليلة نفسها التي خُلع فيها، أُرسل السلطان المعزول إلى سالونيك باليونان. وبعد ثلاث سنوات، في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1912، أُعيد عبدالحميد الثاني إلى إسطنبول، حيث أمضى أيامه الأخيرة بقصر بيليربي، في حي أوسكودار بالمدينة.