في يوم بارد بفصل الشتاء منذ 410 أعوام، أعدَّ غاليليو غاليلي قائمة تسوق لرحلته القادمة إلى البندقية من مدينة بادوا الإيطالية. للوهلة الأولى، تبدو كتلك التي نجدها أحياناً منسيّة في جيوبنا، مكتوبة على ظهر رسالة غير مهمة تلقاها مؤخراً.
تبدأ القائمة بما يلي:
- حذاء جلدي وقبعة صغيرة لفنتشنزو (ابنه)
- أغراض لمارينا (شريكته)
- العدس والحمص الأبيض والأرز والزبيب والقمح
- سكر، فلفل، قرنفل، قرفة، بهارات، مربى
- صابون وبرتقال
- مشطان من العاج
- Malgavia (نوع من النبيذ مستورد من اليونان) من السيد جوفاني فرانسيسكو ساغريدي (أحد أعز أصدقائه في البندقية)
تُعدّ هذه القائمة ثمينة، لأنها بخط يد عبقري مدينة بيزا، ولأنها تدعونا إلى تخيل حياته اليومية.
ولكن هناك سبب آخر يجعلها مثيرة للاهتمام، نجده في الأشياء غير العادية، وحتى الغامضة، التي كتبها بعد ذلك، مثل:
- كرتَي مدفع
- أنبوب أرغن من القصدير
- Trípoli
- قطع من المرآة
- قلفونية
كما وجدت فيها أنواع مختلفة من المرايا، وقطعة من آلة موسيقية وأجزاء من أسلحة حرب.. أشياء لا تتضمنها قوائم التسوق الحالية بكل تأكيد!
لكن بالطبع لا ننوي جميعنا قبل إحدى الرحلات تحويل ما كان يباع حينها كلعبة إلى أداة، من شأنها أن تغير رؤيتنا للكون على الأرض وفي الفضاء.
اللعبة التي وسعت آفاق النظر
في عام 1608، وصل الصراع الوحشي الذي دام 40 عاماً بين الهولنديين والإسبان إلى طريق مسدود.
وكان الجانبان يائسين لإيجاد شيء يمنحهما تفوقاً عسكرياً، وفق ما نشرته النسخة الإسبانية لشبكة BBC.
تروي القصة أنه في يوم من الأيام، في مدينة ميدلبورغ الإقليمية بهولندا، كان هناك صانع شاب للنظارات يدعى هانز ليبرشي، يشاهد عميلتين تلعبان بزوج من النظارات.
كانت لإحداهما عدسة محدبة، النوع المستخدم في النظارات لتكبير الأجسام، وكانت تستخدمها لرؤية أداة الطقس. لكن عندما كانت تبعدها عن عينيها، تصبح الصورة مشوشة.
كانت الفتاة الأخرى تحمل عدسة مقعرة وتضعها أمام محدّب. ولدهشتها، أصبحت الصورة التي كبّرتها العدسة الأولى واضحة مرة أخرى.
فيما بعد، أخذ ليبرشي أنبوباً ووضع هاتين العدستين معاً في الاتجاه الصحيح وأدرك أن هذه الأداة ستكون مفيدة للهولنديين في المعركة؛ إذ ستمكّنهم من رؤية الغزاة الإسبان أبعد بكثير من قدرة عيونهم على الرؤية.
ووُصف الجهاز بأنه "المراقب"، وسرعان ما طلب من السلطات الهولندية الحصول على براءة اختراع حصرية، مقتنعاً بأن ذلك سيحقق له ثروة.
ولكن لسوء حظه، قرر المسؤولون الحكوميون أن الفكرة كانت بسيطة للغاية لمنحه براءة الاختراع والاعتراف كمخترع.
عدسة تجسس تتحول لأول تلسكوب
مع محاولة ليبرشي الفاشلة لتسجيل براءة اختراعه، لم يبق المنظار سراً أكثر من ذلك. ليس فقط الاختراع، المعروف الآن باسم "عدسة التجسس"، والذي كان يباع كلعبة، ولكن الفكرة انتشرت في جميع أنحاء أوروبا، حتى وصلت إلى هذا الرجل الذي كان يخطط في بادوا لرحلة إلى البندقية.
في ذلك الوقت، كان غاليليو معلّم رياضيات في الرابعة والأربعين من عمره ولم يكن مهتماً بعلم البصريات.
ولكنه أخذ اللعبة، وتمكن من تكبير الأشياء مرتين أو 3 مرات على الأكثر، وطبَّق معرفته بالمنطق والحساب لتحليل الظاهرة وتجربة العدسات بنفسه.
وفي غضون يوم واحد، أصدر نسخته الخاصة من المنظار، كما قال لأصدقائه في إحدى الرسائل.
"بوضع عيني على العدسة المقعرة، رأيت أشياء كبيرة وقريبة على نحو فعال. بدت كلما لو أنها على بعد ثلث المسافة الحقيقية وأكبر تسع مرات من النظر إليها بالعين المجردة".
لم يكن غاليليو مدفوعاً بالضرورة بالفضول الفكري البحت؛ فقد كان شغوفاً بالشهرة والقوة والمجد، وتحقيق كل ما يحتاجه لإثارة إعجاب العائلات الحاكمة، مثل آل ميديتشي، أو دوقات مدينة البندقية.
سر التلسكوب التاريخي
كان المنظار المقرّب الأصلي الذي صنعه غاليليو أداة تقريبية، وكان تكبيره بالكاد 3 مرات من حجم الجسم الحقيقي.
وفقاً لرسالة كتبها إلى دوق البندقية، تمكنت محاولته الثانية من زيادة الحجم 9 مرات، أو 8، كما سجل لاحقاً في أطروحته "Sidereus nuncius" المعروفة باسم Sidereal Messenger.
عند كتابته عن هذين المنظارين، قدّم تفاصيل عن طرق الصنع، ولكن على الإصدار الذي صنعه لآل ميديتشي، الأنيق والمحسّن والملفوف بجلد أحمر جميل، لم يكشف إلا عن بعض الأدلة العامة حول التحسينات على الذي كان موجوداً بالفعل في السوق.
حتى الرسم المطبوع على "Sidereus nuncius" كان مشفّراً.
ولا غرابة في ذلك؛ فربما كان يدرك بالفعل الحاجة إلى الحفاظ على إنجازاته لنفسه.
في ذلك الوقت، كان المتخصصون في البصريات يحتفظون بأسرار سنفرة وصقل العدسات بحذر، حتى لا يتعرضوا لخطر سلب إنجازهم العلمي والمالي.
هذا هو السبب الآخر الذي يجعل قائمة التسوق الخاصة به ثمينة للغاية.
رمال ليبيا جزء من قائمة غاليليو
لا تكشف هذه القائمة عن المكونات اللازمة لإنشاء واحد من أعظم كنوز علم الفلك فحسب؛ بل تكشف أيضاً عن المعرفة المتعمّقة التي اكتسبها غاليليو حول تصنيع النظارات والعدسات لتمييزها عن تلك التي كانت موجودة بالفعل.
هكذا بات الجزء الغامض من القائمة منطقياً.
لم يكن ينوي شراء كُرات مدفعية أو القوالب لصنعها، ولكن لصنع مدفع كولفرين Culverin (سلاح مدفعية يعود لتلك الحقبة) يبلغ قطره نحو 5 سنتيمترات، لأنه كان يفكر في استخدام ذلك أو شيء مشابه لتشكيل الأسطح المقعرة والمحدبة للعدسات.
فيما يتعلق بـTripolitan، كان يشير إلى نوع من الرمال مصنوع من هياكل عظمية للكائنات البحرية المجهرية تسمى شعوعيات والتي عُثر عليها في الأصل في ليبيا، بالقرب من طرابلس، ومن هنا جاءت تسميتها.
ومنذ العصور الوسطى كانت تستخدم لصقل وتلميع الزجاج أو الأسطح المعدنية.
أما القلفونية فقد كانت تُستخدم كمطاط، إما لتثبيت العدسة مؤقتاً على شيء ما وإما لفركها وتنظيفها، لأنها مادة صمغية طبيعية تُستخرج من بعض الأشجار.
ساعدت هذه العناصر وتسعة عناصر أخرى في هذه القائمة التاريخية على معرفة المواد والأساليب التي استخدمها غاليليو لصنع واحد من أشهر التلسكوبات في التاريخ، والذي وفقاً لـ Sidereus Nuncius، يمكن أن يكبّر من حجم الصورة أكثر من 30 مرة.
لم تُغيِّر أداته الثورية حياته إلى الأبد فحسب؛ بل كذلك علاقة الإنسان بالكون، بعد أن وجهها إلى السماء، إلى مملكة الآلهة، واكتشف عالماً لم يره إنسان آخر من قبل.
وما رآه كان مذهلاً للغاية.
قطع الشك باليقين: الأرض تدور حول الشمس
لقد رأى أن سطح القمر، بعيداً عن كونه كروياً تماماً كما قال أرسطو ( الاعتقاد الذي كان لا يزال يُعتبر صحيحاً بعد نحو 2000 عام من وفاته)، "مليء بتجويفات وبروز، ولا يختلف كثيراً عن سطح الأرض.
اكتشف أن درب التبانة كانت، في الواقع، "سلسلة من النجوم التي لا حصر لها"، وأدرك أن كوكب المشتري لديه أربعة أقمار خاصة به، وأن كوكب الزهرة له أطوار مشابهة للقمر، حتى إنه لاحظ عيوباً في الشمس.
حتى ذلك الحين، تصرف الفلكيون، كما كتب غاليليو بإحباط، "كما لو أن الكتاب العظيم للكون قد كُتِب كي لا يُقرأ من قِبل أحد سوى أرسطو".
لكن كل اكتشاف قام به كان يضع مزيداً من الشكوك في كل ما كان معروفاً؛ ودفع غاليليو إلى الشك في أن ما قاله عالم الفلك البولندي نيكولا كوبرنيكوس قبل نصف قرن (آنذاك) كان صحيحاً؛ أن الأرض تدور حول الشمس.
والآن نراقب ما هو أبعد من النجوم
مع صنع هذه الأدوات، فجأة أصبح بإمكان الجميع أن ينظروا إلى السماء، وهذا ما غيَّر طريقة تفكيرنا في الحقيقة والأدلة، وقواعد العلوم.
تمكن العلماء والهواة من رؤية الأشياء بأنفسهم، لذلك لم يعد عليهم قبول سلطة الآخرين دون اختبارها.
أي إن التلسكوب أدى إلى إضفاء الطابع الديمقراطي على المعرفة، فتوسَّع عالمنا كما لم يحدث من قبل، كما تغيّر فهمنا لمكاننا فيه.