«العباقرة» و «الدحيح».. أشياء لا قيمة لها!

عربي بوست
تم النشر: 2019/07/31 الساعة 14:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/07/31 الساعة 15:03 بتوقيت غرينتش
"الدحيح" يقدم معلومات جميلة، ولكنها بلا منهجية وبلا تأصيل وبلا رسالة

بعمر خمس سنوات تقريباً كانت المرة الأولى التي تطأ فيها قدماي أرض الحرم المكي، ولفتت نظري مشاهدُ كثرٌ، نسيتها جميعاً باستثناء مشهد واحد: أولئكم الشيوخ الذين التزم كل واحد منهم عموداً من عواميد الحرم، وتحلَّق حوله طلبة من أقطار الأرض كافة يستمعون إلى ما أفاء الله عليه من العلم الذي تنوعت حلقاته، فواحد لحديث رسول الله، وثانٍ لتفسير كتاب الله، وثالث لتبيان علم المصطلح، ورابع للغوص في بحور الفقه وهكذا.. وبزيادة الرقم في عداد عمري تناقص الرقم في عدد الحلقات وعدد الطلاب وتنوُّعهم المهول، وباتت تقتصر غالباً على سكان مكة فقط، لما استجد من الاتجاهات الأمنية لدولة آل سعود، ولسبب آخر -هو مربط الفرس في مقالنا هذا- ألا وهو: توافر مصادر المعرفة بشكل هائل، حتى تصوَّر عموم الناس أنهم لم يعودوا في حاجة إلى بذل الجهد أو التضحية بالوقت وتحمُّل المشاق والصعاب لطلب العلم والاستماع إليه! لتنشأ في أوساطنا حالة دعونا نطلق عليها: الفيض المعلوماتي.

الفيض المعلوماتي..

ما هي حالة الفيض المعلوماتي هذه؟ وما علاقتها ببرنامجي "العباقرة" و "الدحيح"؟ وهل هي حالة مضرَّة تستدعي القلق أم مفيدة تبعث على الطمأنينة والفخر؟ تعالوا كما عودناكم أن نستعرض كل هذه الاستشكالات، وأن نجيب عن هذه الاستفهامات في نقاط سريعة:

ارجع بعجلة الزمن 20 سنة إلى الخلف، ولاحظ كمية المشقة التي كان يتكبدها طلبة الدراسات عليا من الماجستير والدكتوراه على سبيل المثال، للوصول إلى المراجع والمصادر و "مظان البحث"، حتى إن أحدهم قد يضطر إلى قطع آلاف الأميال والسفر إلى دول أخرى، واستخراج تصاريح للدخول لدوائر معرفية ومكتبات، فقط لتجميع مصادر بحثه. أما الآن فبنقرة زر واحدة يستطيع الباحث الوصول إلى المصادر التي يريد والتي لا يريد، بتصفُّح العم جوجل.

وهذا ما نصفه بحالة الفيض المعلوماتي: توافر كمية كبيرة جداً جداً من المعرفة متاحة للجميع دون قيود أو شروط، وفوق حاجتهم وفوق قدرتهم أحياناً على الاستيعاب. هل الوصول إلى هذه النقطة شيء محمود!

حينما يقع سلاح المعرفة في يد الأشخاص الخطأ..

– إن الإجابة الحاسمة عن السؤال أعلاه بقطع التأكيد أو بالنفي المطلق، أمر غير ممكن، لكن دعني أختصر لك كل المناقشات الطويلة، لأخبرك بأنه في الغالب الوصول إلى هذه النقطة أمر غير محمود، لماذا؟ دعني قبل الإجابة أحكي لك قصة قصيرة!

سافر مجموعة من التابعين آلاف الأميال، حتى يطلبوا الحديث عند السيدة عائشة رضى الله عنها، فلما ذهبوا لها في اليوم الأول روت لهم حديثاً واحداً فقط، وفي اليوم الثاني حديثاً واحداً فقط، وفي الثالث استمر الأمر على ما هو عليه وروت لهم حديثاً واحداً فقط، واستثقل القوم أن يقطعوا كل هذه المسافات لتُحدِّثهم بحديث واحد في اليوم، فقرروا في اليوم الرابع أن يطلبوا منها أن تحدثهم بأكثر من حديث، ولكن أم المؤمنين رفضت أن تحدثهم أصلاً ولو بحديث واحد كالأيام السابقة! وقالت لهم: لا تكثروا حجج الله عليكم! 

في مثال آخر يبرز سيدنا حذيفة بن اليمان رضى الله عنه، الذي كان يرفض تحديث الناس بأخبار الفتنة إلا قليلاً قليلاً، وحذَّره عمر من ذلك، لكنه حدَّث بها قبل وفاته رحمه الله، حتى لا يكون ممن كتموا العلم، ومثله مثل كثير من الصحابة، لم يحدثوا الناس بكل الأخبار عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى لا يفتَن الناس، ولم يخبروا بما حفظوه عن نبي الرحمة إلا قبل وفاتهم، حتى لا تبقى السُّنة النبوية حبيسة الصدور!

مما سبق نستنتج من المثالين وبكل وضوح، أن حالة الفيض المعلوماتي التي نمر بها شيء ضار جداً، فالمعرفة كالسكين لو لم تُضبط وتقنَّن تَقتل ولا تفيد، وتضر ولا تنفع! المعرفة المطلقة من دون منهجية، من دون رسالة، من دون تدرج، قنبلة فتاكة موقوتة، تزلزل المجتمع وتفككه ولا تبني.. تخيَّل معي -أخي القارئ- شخصاً يقرأ لابن رشد ثم ينتقل إلى ابن القيم، وبعد برهة ينتقل مباشرة إلى القراءة لأبي حامد الغزالي دون قاعدة متينة وضبط وتأسيس، شخص كهذا لا أستبعد حينما يرى من أمور قد تبدو له ظاهرياً كتناقضات، أن يشكك في الإسلام ذاته والاتجاه للاقتناع بأفكار تشكيكية وإلحادية!

تخيَّل -أخي القارئ- قراءة شخص من العامة في فنون التشريح من دون التدرج في دراسة الطب، ماذا سيصنع لنا؟ سيُنتج قاتلاً متسللاً hitman ومصاص دماء بدلاً من طبيب.

بعبارة أخرى: كمية المعلومات المنثورة في كل مكان هنا وهناك، بحيث يقرأ كل من هبَّ ودبَّ أي معلومة دون وضعها في مكانها الصحيح وإطارها اللازم، يُنتج لنا مسوخاً من المثقفين كالموجة التي تطلُّ علينا هذه الأيام، وأسراب من مدَّعي المعرفة وخزَنة المعلومات لا أصحاب الفكر والوعي الحقيقي الذي يبني ويسهم في دفع عجلة المجتمعات للأمام.

مثلث أركان المعرفة الحقة..

للمعرفة الحقة ثلاثة أركان، أولها: المعلومة ذاتها، وثانيها: المنهجية التي تدرس من خلالها هذه المعلومة، ورسالة يكون من أجلها هذا العلم، وفي حالتنا نحن كمسلمين فرسالتنا معروفة وهي عمارة الأرض!

برامج المعلومات العامة ومسابقاتها رغم كوني مشاركاً عنيفاً فيها ولن أتوقف، لكن هل أؤيد انتشارها؟ لا، هل تصنع مثقفين؟ لا، هل تصنع علماء؟ لا، فيض المعلومات هذا لا يعد ثقافة ولا يعتبر معرفة ولا يصنَّف علماً، مجرد مخزن يجمع من دون اختيار ودون تصفية، لنكن منصفين فميزة هذه البرامج أنها تشجعك فقط على القراءة وتدفعك إليها، ولكن يلزم أن تكون خطوة إلى ما بعد ذلك، والانتقال إلى التعلم والقراءة المنهجية.

كما قلنا عن "العباقرة"، نحكي كذلك عن "الدحيح"، فبعيداً عما يدور في أوساط مواقع التواصل الاجتماعي ودوائر النقاش عن السمة الإلحادية للبرنامج من عدمها، فهذا ليس معيار الحُكم عليه، وسأمتنع عن التعليق أصلاً، فليس من دورنا أن نحاسبه أو أن نتهمه بهذا الأمر، بل سنحكم على البرنامج من إطار معرفي معلوماتي بحت بعيداً عن توجهات مُقدِّمه الأيديولوجية والدينية. "الدحيح" يقدم معلومات جميلة، ولكنها بلا منهجية وبلا تأصيل وبلا رسالة، وهذا أقرب إلى تسطيح العلوم من تبسيطها، كل يوم غرفة من البحر، هذه الفيديوهات لا أنصح بتركها أو مقاطعتها، بالعكس مشاهدتها جزء جيد حين توضع في إطار التسلية وإنهام شغف المعرفة، ولكنها لم ولن تكون كافية أو مثرية! قارِن مثلاً منهجية "الدحيح" وسياسته التحريرية مع برنامج "ألش خانة" حينما قدَّم معلومات سياسية، كيف قدَّمها؟ في إطار متكامل ومنهجية راسخة، وهذا المثال المعرفي الذي نتمنى استمراره وانتشاره.

ودمتم أصدقائي..

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
حذيفة الخولي
مهندس وكاتب مصري
مهندس بترول يهوى الكتابة والتدوين في القضايا الاجتماعية والحقوقية وخاصة تلك التي تمس الشباب والطلاب، عضو المرصد المصري لحقوق الإنسان، وصاحب المقال الأفضل على مستوى الجامعات المصرية 2018.
تحميل المزيد