بعد أن غيَّرت الثورة الفرنسية وجه فرنسا وهدَّدت النظام القديم لأوروبا بأكمله، خاضت سلسلةً من الحروب ضد ممالك أوروبا بهدف رئيسي يتمثَّل في حماية الثورة ونشرها أيضاً، ثم التوسُّع بالاستيلاء على مزيد من الأراضي. سيطر نابليون بونابرت على المشهد طيلة السنوات اللاحقة، وكان عدو فرنسا يتمثَّل في 7 تحالفات من الدول الأوروبية.
في البداية، تمكَّن نابليون من تحقيق النجاح، محوّلاً انتصاره العسكريّ إلى انتصارٍ سياسي، حيث تقلّد منصب القنصل الأول ثم أعلن نفسه إمبراطوراً لفرنسا.
لكنّ ثمة حروباً أخرى كان يتعيَّن عليه خوضها، ربما إذا أخذنا بعين الاعتبار مدى اعتماد مكانة نابليون على تحقيق الانتصار العسكري وميله إلى خيار العنف والحرب لحلّ القضايا، فضلاً عن أنَّ ممالك أوروبا كانت لا تزال تنظر إلى فرنسا باعتبارها عدواً خطيراً.
في هذا الموضوع من موقع ThoughtCo الأمريكي سنتعرّف على تاريخ الصراع بين أوروبا والثورة الفرنسية.
أصول العداء للثورة الفرنسية
عندما أطاحت الثورة الفرنسية بملكية لويس الـ16 وأعلنت أشكالاً جديدة من الحكم، وجدت فرنسا نفسها على خلاف مع بقية دول أوروبا. كانت هناك انقسامات أيديولوجية -ملكيات الأسرات الحاكمة والإمبراطوريات التي تعارض التفكير المؤيد للنظام الجمهوري الجديد جزئياً. كذلك، كانت هناك انقسامات عائلية، حيث اشتكى أقارب أولئك المتضرّرين. لكن دول وسط أوروبا كانت ترغب أيضاً في تقسيم بولندا فيما بينها، وعندما أصدرت النمسا وبروسيا "إعلان بيلنيتز" في عام 1791 -الذي طالب أوروبا بالتحرّك لاستعادة الملكية الفرنسية- صيغت الوثيقة حقاً لمنع نشوب حرب. ومع ذلك، أساءت فرنسا تفسير تلك الخطوة وقرَّرت شن حرب استباقية دفاعية في أبريل/نيسان 1792.
حرب الثورة الفرنسية مع جميع ممالك أوروبا
كانت هناك إخفاقات فرنسية أولية. فقد استولى الجيش الألماني على مدينة فردان الفرنسية وتقدَّم بالقرب من باريس، واندلعت مذابح سبتمبر/أيلول ضد السجناء الباريسيين. ثم تصدّت لهم القوات الفرنسية قبل أن يمضوا قدماً في بلوغ أهدافهم.
في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1792، أصدرت الجمعية الوطنية الفرنسية تعهدّاً بمساعدة جميع الأشخاص المُتطلّعين إلى استعادة حريتهم، والذي كان مفهوماً جديداً للحرب ومبرراً لإنشاء مناطق فاصلة متحالفة حول فرنسا.
بعدها بشهرٍ آخر أصدروا مرسوماً يقضي بأنَّ القوانين الثورية لفرنسا –من بينها إسقاط جميع الطبقات الأرستقراطية وإلغاء امتيازاتها- كان لابد من نشرها إلى الخارج بقوة جيوشهم. كذلك، أعلنت فرنسا عن مجموعة من "الحدود الطبيعية" الموسّعة للبلاد ركّزت على الضمّ بدلاً من مجرد "التحرير". على الورق، وضعت فرنسا على عاتقها مهمة معارضة، إن لم يكن إسقاط، كل ملك لتضمن البقاء في وضعٍ آمن!
في ذلك الوقت، اتحدّت مجموعة من القوى الأوروبية المعارضة لهذه التطورات بالطبع لتُشكّل التحالف الأول، وهو بداية 7 تحالفات أوروبية أخرى تشكّلت لمحاربة فرنسا قبل نهاية عام 1815.
تصدَّت ممالك النمسا وبروسيا وإسبانيا وبريطانيا وهولندا للثورة الفرنسية، ما تسبَّب في حدوث انتكاسات للفرنسيين، الأمر الذي دفعهم لإعلان "التجنيد الشامل"، فقد أُلحق جميع الفرنسيين بالجيش على نحوٍ فعال. وفُتح فصل جديد في الحرب وبدأ حجم الجيش يتزايد بصورةٍ كبيرة.
صعود نابليون بونابرت وهزيمة أوروبا مرة أخرى
حقَّقت الجيوش الفرنسية الجديدة عدة انتصارات ضد جيش التحالف الأول، مما أجبّر بروسيا على الاستسلام ودفع الآخرين للتراجع. اغتنمت فرنسا الفرصة حينها لتصدير الثورة، وأصبحت هولندا تُعرف باسم الجمهورية الباتافية.
في عام 1796، تم تقييم الجيش الفرنسي المرابط على حدود إيطاليا باعتباره ضعيف الأداء وجرى تعيين قائد جديد له يُدعى نابليون بونابرت، الذي برزت مهاراته لأول مرة في حصار مدينة طولون، وكان عمره حينها 27 عاماً فقط.
هزم نابليون القوات النمساوية والقوات المتحالفة معها في مناورةٍ مذهلة واضطرت النمسا إلى توقيع معاهدة كامبو فورميو، التي بموجبها استولت فرنسا على هولندا النمساوية وعزّزت وضع الجمهوريات المتحالفة مع فرنسا في شمال إيطاليا. كذلك، سمحت لجيش نابليون، وللقائد نفسه، باسترداد مبالغ كبيرة من الثروة المنهوبة.
مُنح نابليون بعد ذلك فرصة لمتابعة حلمٍ بدأ بهجومٍ كبير في الشرق الأوسط لتهديد الإمبراطورية البريطانية في الهند.
أبحر نابليون إلى مصر على رأس جيشٍ كبير في عام 1798. وبعد تحقيق نجاحٍ أوليّ، فشل الجيش الفرنسي بقيادة نابليون في حصار عكا. وفي حين تكبَّد الأسطول الفرنسي خسائر فادحة في معركة النيل (أبوقير البحرية) في مواجهة الأسطول الإنجليزي بقيادة الأدميرال نيلسون، كان جيش نابليون في مصر في وضعٍ حرج إلى حد كبير، حيث لم يستطع الحصول على تعزيزات ولم يتمكّن من المغادرة.
ترك نابليون -قد يقول بعض النقاد إنَّه تخلّى- هذا الجيش ليعود إلى فرنسا عندما بدا أنَّ ثمة انقلاباً عسكرياً على وشك الحدوث.
أصبح نابليون بونابرت القنصل الأول لفرنسا عام 1799. وتحرَّك بعد ذلك ضد قوات التحالف الثاني، الذي ضمَّ من جديد: النمسا وبريطانيا وروسيا والإمبراطورية العثمانية وعدداً من الدول الصغيرة الأخرى وتشكَّل هذا الحلف بالأساس لاستغلال غياب نابليون.
انتصر نابليون في معركة مارينغو عام 1800. ومع الانتصار الحاسم للجنرال الفرنسي مورو في معركة هوهينليندن ضد النمسا، تمكَّنت فرنسا من هزيمة التحالف مرةً أخرى. كانت النتيجة صعود فرنسا باعتبارها القوة المهيمنة في أوروبا، وأصبح نابليون بطلاً وطنياً وبرزت مؤشرات نهاية محتملة لحالة الحرب والفوضى التي صاحبت الثورة.
الحروب النابليونية
عاشت بريطانيا الملكيّة وفرنسا النابليونية منذ ذلك الحين في حالة سلامٍ لفترةٍ وجيزة ولكن سرعان ما تنازعتا من جديد.
خطَّط نابليون لغزو بريطانيا وجمع جيشاً لتنفيذ ذلك، لكنَّنا لا نعرف إلى أي درجة كان جاداً في المضي قدماً نحو فعل ذلك. لكنّ خطط نابليون أصبحت عديمة الجدوى عندما هزم نيلسون الأسطول الفرنسي مُجدَّداً بانتصاره الباهر في معركة "طرف الغار"، محطماً قوة نابليون البحرية. من هنا، تشكَّل تحالف ثالث في عام 1805 ضمَّ النمسا وبريطانيا وروسيا. لكن انتصارات نابليون في معركة "أولم" ثم انتصاره العظيم في معركة "أوسترليتز" دمّرا النمساويين والروس وكتب نهاية التحالف الأوروبي الثالث، مرةً ثالثة على يد نابليون.
في عام 1806، كانت هناك انتصارات نابليونية أخرى على بروسيا في معركة "يينا- أويرشتيد"، وفي عام 1807، اندلعت معركة "إيلاو" بين جيش التحالف الرابع من البروسيين والروس ضد نابليون. وبسبب حلول ليالي الشتاء القاتمة، كاد نابليون يُقبض عليه، فيما يُعد أول انتكاسة كبيرة للجنرال الفرنسي. أدَّى هذا المأزق إلى اندلاع معركة فريدلاند، حيث هزم نابليون روسيا وأنهى التحالف الرابع!
تشكَّل التحالف الخامس وحقق نجاحاً من خلال إضعاف قوة نابليون في معركة أسبرن-إيسلينغ عام 1809، عندما حاول نابليون شق طريقه عبر نهر الدانوب. لكنّ نابليون أعاد تجميع صفوف قواته وحاول مرة أخرى وخاض معركة "فاغرام" ضد النمساويين.
انتصر نابليون في المعركة واضطر أرشيدوق النمسا إلى بدء محادثات سلام معه. أصبحت معظم أوروبا في ذلك الوقت إما تحت السيطرة الفرنسية المباشرة أو متحالفة معها.
كانت هناك حروب أخرى –فقد غزا نابليون إسبانيا وعيَّن شقيقه ملكاً عليها، لكنَّه نتيجة لذلك أثار حرب عصابات وحشية وعزَّز وجود جيش ميداني بريطاني ناجح بقيادة ويلنغتون- لكن ظل نابليون سيد أوروبا إلى حد كبير. إذ أنشأ كيانات جديدة مثل اتحاد نهر الراين، وتوَّج أفراد من أسرته على عروش ولايات هذا الاتحاد.
كارثة روسيا تُلقي بظلالها على نابليون وفرنسا
بدأت العلاقة بين نابليون وروسيا في الانهيار، وقرَّر نابليون التحرّك بسرعة لردع القيصر الروسي وإخضاعه.
لذا، حشد نابليون ما كان على الأرجح أكبر جيشٍ يُجمَّع على الإطلاق في أوروبا، وبالتأكيد كان قوة كبيرة للغاية تفوق إمكانية دعمها على نحوٍ كافي.
لاحق نابليون الجيش الروسي المتقهقر إلى داخل عمق روسيا بحثاً عن انتصارٍ سريع وحاسم، قبل أن يفوز بالقتال الأكثر دموية في "معركة بورودينو" ثم استولى على موسكو. لكنَّه كان انتصاراً باهظ الثمن، حيث أُحرقت موسكو واضطر نابليون إلى التراجع جراء معاناة برد الشتاء القارس الروسي، وتضرَّر جيشه بشدة وانهار سلاح الفرسان الفرنسي.
السنوات الأخيرة لنابليون بونابرت
مع تراجع قوة نابليون بصورة واضحة، تشكَّل تحالف سادس جديد في عام 1813 وانطلق عبر أوروبا، محرزاً تقدّمًا حقيقاً لأول مرة منذ زمن، حيث كان نابليون غائباً، وتراجع في المناطق الخاضعة لنفوذه.
أُجبر نابليون على التراجع لأنَّ ولاياته المتحالفة انتهزت الفرصة للتخلّص من الاستبداد الفرنسي. وشهد عام 1814 دخول قوات التحالف السادس إلى حدود فرنسا، وتخلّي حلفاء نابليون في باريس عنه، فضلاً عن العديد من قادة جيشه. اضطر نابليون إلى الاستسلام ونُفي إلى جزيرة إلبا.
المائة يوم
مع توافر وقت كافٍ للتفكير خلال فترة نفيه في إلبا، قرَّر نابليون المحاولة مُجدَّداً وعاد إلى أوروبا عام 1815، بعد 10 شهور فقط من نفيه.
حشد نابليون جيشاً وزحف إلى باريس، مجتذباً أولئك الذين أرسلوا ضده إلى صفوفه وحاول حشد الدعم من خلال تقديم تنازلات ليبرالية.
لكنَّه سرعان ما وجد نفسه يواجه تحالفاً آخر ضمَّ النمسا وبريطانيا وبروسيا وروسيا، وهو التحالف الأوروبي السابع في الحروب الثورية الفرنسية والحروب النابليونية.
اندلع القتال في معركة "كواتر براس" ومعركة "ليني" قبل معركة "واترلو" الحاسمة، حيث صمد جيش التحالف بقيادة ويلنغتون في مواجهة القوات الفرنسية بقيادة نابليون حتى وصل جيش بروسي بقيادة بلوخر لمنح جيش التحالف التفوّق الحاسم. هُزم نابليون وتراجع وأُجبر على التنازل عن العرش مرة أخرى.
السلام النسبي بعد القضاء على الثورة الفرنسية ونابليون
أعيدت الملكية إلى فرنسا، واجتمع قادة أوروبا في مؤتمر فيينا لإعادة رسم خريطة أوروبا. وعلى هذا النحو، انتهت فترة حروب عاصفة استمرت على مدى عقدين، وشهدت أوروبا فترة من الهدوء والسلام حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام 1914.
جنَّدت فرنسا 2 مليون مواطن، هلك منهم ما يصل إلى 900 ألف شخص. تتباين الآراء حول ما إذا كانت الحرب قد دمرت جيلاً كاملاً، البعض يجادل أنَّ معدَّل التجنيد الإجباري لم يمثَّل سوى جزء بسيط من مجموع السكان المحتمل، في حين يشير آخرون إلى أنَّ الخسائر البشرية وقعت على نحوٍ كبير في فئةٍ عمرية واحدة.