كانت الحرب بين إيران والعراق، التي استمرت في فترة الثمانينيات، من أكثر نزاعات أواخر القرن العشرين دموية؛ إذ قُدِّرَت الخسائر البشرية من كلا الجانبين بمئات الآلاف من البشر.
وفي بعض الأحيان، أبدت مناطق القتال في هذه الحرب ما هو أكثر من مجرد تشابه عابر مع ساحات المعارك في الحرب العالمية الأولى؛ إذ امتدت أنظمة الخنادق للطرفين المتقاتلين لمسافة أميال على طول خط الجبهة، وشنت هجمات بأسلحة كيميائية باعتبارها وسيلة للهجوم والدفاع معاً. فكانت في الأساس حرباً برية واسعة النطاق.
وعلى الرغم من ذلك، كان الجانب البحري من الحرب هو أكثر ما تتردد أصداؤه اليوم، مع بدء تصاعد التوترات مرة أخرى بين إيران من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة من جهة أخرى.
حرب الناقلات
وفقاً لمجلة History Today البريطانية، عرف استهداف إيران والعراق للسفن التجارية لبعضهما، وتحديداً ناقلات النفط، باسم "حرب الناقلات"، وكانت الهجمات التي شنتاها ضد بعضهما من أطول الهجمات استمرارية على السفن التجارية منذ الحرب العالمية الثانية، فقد أسفرت عن مقتل ما يزيد على 44 بحاراً مدنياً، وتدمير مئات السفن التجارية، وخسائر اقتصادية ضخمة.
تلخصت أهمية الحرب تلك في الخطر الذي تشكله مثل هذه الهجمات على الاقتصاد الدولي، الذي يعتمد بشدة على صادرات دول الخليج من النفط التي تمر عبر مضيق هرمز المحصور، والأهم هو أن حرب الناقلات كان من الممكن أن تتفاقم لأكثر من ذلك، بعد أن تورطت قوى خارجية في النزاع بهدف ضمان حرية الملاحة.
ومنذ بداية الأعمال العدائية بين الطرفين خلال الفترة من 1981 وحتى 1983، كانت الضربات العراقية المضادة للسفن متقطعة، واستهدفت بالأساس السفن الإيرانية شمالي الخليج.
وتنفيذاً لهذه العمليات، استخدمت القوات الجوية العراقية طائرات "ميغ-23″، و"ميراج إف-1″، ومروحيات "سوبر فريلون" مدجَّجة بصواريخ "إكزوست" المضادة للسفن، ما عكس التفكير الاستراتيجي الأعمق للعراقيين.
البلاد الأجنبية في قلب النزاع
وفي مايو/أيار 1982، كانت ناقلة النفط التركية "Atlas 1"، التي كانت تحمل نفطاً إيرانياً من جزيرة خارج، أول ناقلة تتعرض للقصف في هذه الحرب، فوجدت الناقلات الأجنبية نفسها أيضاً داخل الصراع بين البلدين.
وفي عام 1984، ساهم قرار فرنسا بمد العراق بطائرات من طراز "سوبر اتندارد" في تمكين العراق من زيادة مدى ضربات صواريخ "إكزوست" المضادة للسفن، وكذلك البدء في تكثيف عملياتها ضد مرافق الصادرات النفطية الإيرانية.
وتزامن تصعيد استهداف العراق للسفن مع تلاشي آمالهم بتحقيق فوز سهل ضد حكومة الثورة الإسلامية في إيران، ونظراً لأنَّ التعثر والاستنزاف كانا يتزايدان على ساحة القتال البرية ضد عدو يُحتمل أنه أكثر قوة، فكان هذا يعني أنَّ العراقيين مضطرون لتجربة مجموعة عمليات أكثر التواءً، وعليه ضرب صاروخ "إكزوست" العراقي سفينة Neptunia الليبيرية، في فبراير/شباط 1985، لتصبح بذلك أول ناقلة نفط تغرق نتيجة قصف صاروخي.
حرب برية.. لكن البحر غيّر مسار الصراع
وبينما تركز التأثير الأكبر للجهود العراقية على الناحية البرية، اعتُبِرَت هذه الضربات المضادة للسفن، وتحديداً ضد ناقلات النفط الإيرانية، وسيلة لفرض ضغط اقتصادي على النظام الحاكم الإيراني.
وقدَّر العراقيون أنَّ شنهم هجوماً على خط الإمداد الحيوي الإيراني هذا سيدفع إيران للتصعيد؛ مما سيقود في النهاية إلى تدخل دولي لحماية حرية الملاحة.
كان صدام حسين، الرئيس العراقي آنذاك، ينظر للتدخلات الدولية والإقليمية على أنها وسيلة لحماية حكمه ضد دولة إيران التي أخذ نشاطها يتزايد.
وبدأت إيران فعلياً بالرد على التصعيد العراقي في عام 1984، وذلك بشن هجمات من ناحيتها على السفن التجارية المرتبطة بالعراق، منها السفن التي تحمل أعلام دول خليجية وأجنبية أخرى. وكان الهدف من هذه الاستراتيجية الإيرانية هو معاقبة العراق وحلفائه الخليجيين، وفي الوقت نفسه إجباره على التراجع عن حملته المضادة للسفن.
إيران تهاجم.. بإمكانيات قليلة
ونظراً لافتقار إيران لأنظمة "إكزوست" الصاروخية المتطورة، اعتمدت على مجموعة من الأسلحة الصغيرة المحمولة على مركبات، مثل بنادق "مافريك" و "إيه إس 12".
ومع تعزيز إيران قدراتها العسكرية، وتوسيع مرمى أهدافها، بدأت الملاحة الدولية تشعر بالعواقب، وأكثر من تأثر تحديداً كانت دول الخليج المجاورة للعراق، التي بدأت حركتها الملاحية تعاني من هجمات إيران.
وشعرت السلطات الكويتية تحديداً بأنها مهددة، فطلبت من أمريكا تغيير الأعلام التي ترفعها السفن الكويتية لدرء الضربات الإيرانية، ما أسفر عن تدخل بحري بقيادة الولايات المتحدة عام 1987.
أمريكا تحمي السفن الكويتية.. وتدفع الثمن
تدخلت البحرية الأمريكية، وجرت عملية تبديل الأعلام، إذ حملت السفن الكويتية أعلاماً أمريكية بدلاً من أعلامها الوطنية، و رافقتها سفن أمريكية أثناء قطعها مياه الخليج ذهاباً وإياباً، حتى تكبدت القوات الأمريكية خسائر بشرية وصلت إلى 37 قتيلاً من طاقم الفرقاطة الأمريكية في عملية الحماية تلك.
سقط الضحايا نتيجة قصف بالخطأ من جانب العراق، ومن المفارقة أنَّ هذه الضربة العراقية على سفينة "يو إس إس ستارك" هي التي ضغطت على واشنطن لإقحام قواتها البحرية في الخليج لحماية الملاحة الدولية ضد الضربات الإيرانية.
وساعد التدخل الأمريكي على احتواء المقاتلات الإيرانية المضادة للطائرات، وكفَلَت للسفن الدولية حرية الحركة في مياه الخليج، وفرضت في النهاية ضغوطاً متزايدة على طهران للسعي لإحلال السلام مع جيرانها.
ولم يمر التدخل الأمريكي دون معارضة الإيرانيين، وشكَّل استخدام الألغام المضادة للسفن في البداية تحدياً من نوع خاص للقوات الأمريكية، إذ شهدت هذه الجولة من الحرب صدامات بين القوات الأمريكية ونظيرتها الإيرانية، بما في ذلك تفجير لغم بحري في الفرقاطة "يو إس إس صامويل بي روبرتس"، وإغراق القوات الأمريكية لفرقاطة إيرانية، وإسقاط طائرة نقل ركاب مدنية إيرانية عن طريق الخطأ.
كان التغيير في ميزان القوى في الخليج، الذي نتج عن التدخل الأمريكي، واحداً من الأسباب التي أجبرت إيران على وقف الأعمال العدائية في 1988.
ولم تتسبب حرب الناقلات في إغلاق مضيق هرمز، ولم تؤثر كثيراً على صادرات النفط من الخليج أو تؤدي لزيادة مطردة في أسعار النفط. فوفقاً لبعض التقديرات، لم تعُق الحملات المضادة للسفن لإيران والعراق أكثر من 2% من السفن المارة عبر الخليج.
ومنذ هذه المعارك التي شهدتها الثمانينيات، استثمر الحرس الثوري الإيراني بقوة في مجموعة من القدرات العسكرية المضادة للسفن؛ منها: غواصات، وألغام، وأسلحة مضادة للسفن، وأعداد هائلة من قوارب الهجوم السريع؛ وذلك بهدف تكثيف التكتيكات القتالية.
لكن يظل التهديد الذي يواجه الملاحة البحرية وحرية تدفق السفن عبر مضيق هرمز ماثلاً باستمرار. ومع ذلك، ففي وجه التدابير المضادة الأمريكية والدولية، تبقى قدرة إيران على غلق مضيق هرمز لفترات طويلة غير مؤكدة.