في غفلةٍ من التاريخ، راح مُلك بني عُثمان بعدما غزا دولتهم تيمور لنك، تضعضعت الدولة العثمانية تماماً بعدما أُسر وقتل بايزيد يلدريم (الصاعقة)، وبدأت مرحلة "الفترة" في التاريخ العثماني؛ لأنها فترة كانت بلا سلاطين، تنازع الإخوة وتحاربوا على الورثة المُنهكة لأبيهم بايزيد الصاعقة.
برز على مسرح الأحداث "مُحمّد الأوّل" أو محمّد چلبي، ثالث أولاد بايزيد. استطاع مُحمّد أن يسيطر على الدولة المُفتتة تماماً من جديد، قاتل إخوته وأعمامه واستطاع توطيد حكمه عبر عدّة حروب مع ملوك المسيحيين، وعدة مفاوضات أخرى. اعتبره المؤرِّخون "المؤسس الثاني للدولة العثمانية" بعد عثمان الأوّل مؤسس الدولة.
حكم مُحمّد ثماني سنوات فقط، ووافته المنيّة، وهنا برز دور ابنه ذو الثمانية عشر ربيعاً فقط، مُرادُ الثاني. توفي السلطان فكتم الصدر الأعظم خبر وفاته 41 يوماً حتى يستطيع الشاهزاده مراد ولي العهد الوصول لأدرنة، عاصمة الدولة العثمانية آنذاك.
وصل مُراد، ودفن والده مقابل الجامع الأخضر الذي بناهُ في حياته، ومن هنا بدأت رحلة مراد الثاني في تكملة التأسيس الثاني للدولة العثمانية، بعد وفاة أبيه.
مراد الثاني.. السلطان الشاب الطموح
بدأ السلطان الشّاب رحلته بإخضاع الإمارات التركمانية في الأناضول، التي كانت خرجت من سلطة الدولة العثمانية بعد مقتل بايزيد، كما أعاد سيطرة الدولة على كامل القلاع والحصون بمنطقة الروملي والتي كانت الدولة البيزنطية استولت عليها من جديد.
بعدما استتب له حكمه، وبعد مرور 20 عاماً من سلطنته، أخذه طموحه بالسيطرة على بلاد البلقان وضمّها للدولة العثمانية، لكنّه أخفق هذه المرة إخفاقاً كبيراً، فقد عقد البابا إيجين الرابع تحالفاً بين عدة ملوك غربيين لمحاربة الدولة العثمانية، وهو ما قد كان بالفعل، بقيادة ملك المجر هونياد، الذي استطاع هزيمة مراد الثاني.
انتهت المعركة بتوقيع اتفاقية هدنة لمدة 10 سنوات، في هذه الأثناء وقع حادثٌ جلل في حياة السلطان مراد الثاني؛ فقد توفي ابنه الأكبر وولي عهده "علاء الدين أولو". شعر السلطان بالزهد في أمور الحكم والسلطنة، فقرر قراراً ربما لم يسبق له أحدٌ من الملوك: أن يستقيل من السلطنة.
استقال مرة فاضطرته الحرب للرجوع!
قرَّر مراد الثاني اعتزال الناس والعزلة في مدينة مانيسيا، ويقال إنّه انضمّ لإحدى التكايا الصوفيّة، كان هذا عام 1444 م، اعتزل وترك السلطنة لابنه الصغير، مُحمّد الفاتح، الذي كان في الرابعة عشرة فقط من عمره.
استغلّت الدول الأوروبيّة اعتزال السلطان الذي كان يخرج على رأس الجيوش، وتسليمه الحكم لسلطانٍ صغير لن يستطيع قيادة الجيوش ولا السيطرة على الجنود، وبدأوا في ترتيب تحالفٍ أوروبيٍّ آخر يجمع قوات المجرد وبلغاريا وكولونيا وألمانيا وفرنسا والبندقية وبيزنطة.
أرسل كبار رجال الدولة للسلطان مراد يستغيثون به، ويطلبون منه العودة لقيادة جيوش الدولة العثمانية في هذه المعركة، وأرسل السلطان الصغير لوالده يدعوه لقيادة الجيوش، لكنّ السلطان مراد أخبره أنّ الدفاع عن السلطنة من واجبات السلطان وهو ليس سلطاناً.
هنا أرسل محمد الصغير رسالته الأخيرة لوالده "إن كنّا نحنُ البادشاه (السلطان)، فإنّا نأمرك: تعالوا على رأس جيشكم. وإن كنتم أنتم فتعالوا ودافعوا عن دولتكم". فعاد السلطان مراد من فوره إلى أدرنه، وجهّز الجيوش والتقى الجيشان في مدينة فارنا.
استطاع السلطان مراد هذه المرة أن يهزم الجيوش الأوروبية كاملةً، وقُتل الملك المجري فلاديسلاوس، ويقال إنّ السلطان مراد هو من قتله بنفسه في ساحة المعركة، أمّا هونيادي القائد العام فقد هرب من المعركة، مخلِّفاً وراءه 15 ألف قتيل، حسب بعض المصادر.
بالطبع لم يسكت كبار رجال الدولة، ولا قادة الجُند، فقد طالبوا السلطان مراد بعد انتصاره بالعودة للسلطنة، لكنّه عاد دون أن يخلع ابنه، فضغطوا عليه مراراً حتّى نزل على رغبتهم، وعاد للسلطنة، لكنّه لم يتحملها أكثر من خمسة أشهر وعاد أدراجه لمانيسيا معتزلاً الحياة ومتفرغاً للعبادة!
مرة أخرى، أجبره الانكشاريون للرجوع للسلطنة
بعدما عاد هذه المرة لمانيسيا، بدأ الجند الانكشاريون – العصب الحقيقي للدولة العثمانية – في محاولاتٍ منهم لإعادة السلطان، بدأوا يثيرون بعض المشكلات والاضطرابات في العاصمة، بالنسبة للانكشاريين يجب أن يكون سلطانهم فارساً يخرج معهم على رأس الجيوش ويقود المعارك، وهو ما ليس متوفراً في السلطان الصغير حينها محمد الفاتح.
اضطرّ السلطان مراد الثاني للعودة مرةً أخرى، متخلياً عن عزلته التي طلبها، عاد سلطاناً يقودُ الجيوش ويحكم الإمبراطورية المترامية، بعد خمس سنواتٍ فقط من عودته الثانية، صعدت روحه، واستقرّ في عزلةٍ إجباريّةٍ هي الموت.
بالإجمال حكم مراد الثاني 28 عاماً، وتوفي وعمره 47 عاماً، في سنة 1451، تاركاً السلطنة خلفه لسلطانٍ شابٍ طموح في سن الثانية والعشرين، سيملك الدولة العثمانية ويقودها بعد ثلاث سنوات فقط من حكمه إلى السيطرة على عاصمة الدولة البيزنطية "القسطنطينية" التي تحوّلت الآن وأصبحت "إسطنبول".
بالإضافة لحنكته وقدرته السياسية التي جعلته يهزم شرق أوروبا كاملةً في معركة فارنا، فقد كان مراد الثاني محباً للعلوم والفقه والشعر أيضاً، وترك لنا التاريخ بعضاً من الأبيات الشعرية التي كتبها "تعالوا نذكر الله.. لأننا لسنا بدائمين في الدنيا".
وقد كان السلطان دائم الارتباط بالشعراء والأدباء، وقد وصفه المؤرخ يوسف آصاف بأنه: "كان تقيّاً صالحاً، وبطلاً صنديداً، محبّاً للخير، ميَّالاً للرأفة والإحسان".