تخيَّل أن اللغة التي تتحدثها تجعلك تدرك الوقت بطريقة مختلفة، هل يبدو لك ذلك أمراً غير طبيعي؟
أشارت بعض الأبحاث الحديثة إلى أن اللغات التي تميز بين المستقبل والحاضر تجعل المتحدثين بها أقل تخطيطاً وتوفيراً وقلقاً بشأن البيئة مقارنة بغيرهم.
لكن، من أين تأتي هذه الفرضية؟ وما خلفيتها؟
الفراغ
كان بنيامين لي وورف مفتشاً في إحدى شركات التأمين ضد الحرائق، ولاحظ أن اللغة قد تتسبب في مشكلات تضر بسلامة الناس، فعلى سبيل المثال يتصرف الناس بلا مبالاة مع عبوات الغاز الفارغة، لأنها بمفهومنا اللغوي "فارغة".
على الرغم من أنها في الواقع ممتلئة بأبخرة الغاز، ولذلك تحدث بعض حالات الانفجار حين يتم التعامل معها بشكل سيئ.
قضى وورف بعض الوقت مع السكان الأصليين لهنود الهوبي في شمال شرقي أريزونا، ولاحظ أن لغتهم لا تميّز نحوياً بين المستقبل والماضي، وأنها لا تحسب الفترات الزمنية.
بملاحظة ممارساتهم الثقافية، توصَّل وورف إلى استنتاج مهم، مفاده أن الهوبي يرون الزمن بصورة مختلفة تماماً عنّا، وأن المفاهيم التي تبدو بديهية بالنسبة لنا، مثل (غداً يوم جديد)، ليس لها معنى بالنسبة لهم، وكان نشره تلك الأفكار في عام 1939 سبباً في تغيير فلسفة اللغة.
أطلق وورف مصطلحاً من مقترحات وورف ومعلمه، وهو أستاذ بجامعة ييل يدعى إدوارد سابير، ظهر ما كان يسمى فرضية النسبية اللغوية، المعروفة باسم النسبية اللغوية.
تعني هذه الفرضية أن اللغة يمكن أن تؤثر في طريقة تفكيرنا، لدرجة أننا لا نستطيع التفكير في الأشياء التي لا تسمح لنا لغتنا بالتحدث عنها.
في عام 1983، نشر الباحث إيكيهارت مالوتكي كتاب Hopi Time، وهو كتاب ضخم يشرح بالتفصيل بحثه عن الهوبي ولغتهم، والتأثير الذي تسببه بعض الكلمات التي تعبر عن مرور الوقت.
في السنوات الأخيرة، أثبت بعض اللغويين مدى تأثير المفردات التي نستخدمها في طريقة تفكيرنا في الأشياء.
نجد مثلاً أن تجارب عالِمة النفس ماريا سيرا قد أظهرت أنه في بعض اللغات تشير إلى شيء ما (مثل الملعقة) بصيغة التأنيث، يميل متحدثوها إلى وصف هذا الشيء بمصطلحات مرتبطة بالمرأة، في حين يحدث العكس مع الأشياء المذكرة.
لغتنا تمثل هويتنا
تقول ليرا بوروديتسكي، العالِمة الإدراكية بجامعة ستانفورد، في حديث لـTED: "جمال التنوع اللغوي هو أنه يكشف لنا مدى براعة ومرونة العقل البشري".
جمعت الباحثة بيانات مثيرة للاهتمام عن كيفية احتياج الأشخاص الذين يتحدثون اللغات التي تستخدم الكلمة نفسه لعدة ألوان، إلى مزيد من الوقت لتمييز الألوان، مقارنة بأولئك الذين توجد في لغتهم كلمة منفصلة لكل لون.
لا توجد هذه السمة في الإنجليزية أو الإسبانية على سبيل المثال، ولا تميز اللغة الفرنسية بين "لقد فعلت ذلك" و "فعلت ذلك". لكن هل يعني ذلك أن متحدثي الفرنسية لديهم مفهوم مختلف عن الماضي؟
الواقع الاقتصادي
في البلدان ثنائية اللغة، تكون اللغة التي يتحدثها أفراد الأسرة في المنزل مرتبطة بحس المسؤولية لديهم تجاه المستقبل، لكن كما أوضحت جولي سيدفي، يمكنهم اختيار اللغة، لأنهم يفضلون الثقافة.
هناك أيضاً مسألة تصنيف اللغات؛ إذ تصنِّف الدراسات اللغةَ الإنجليزية من اللغات التي تولي قواعدها أهمية كبيرة لأزمنة المستقبل، على النقيض من لغات مثل الألمانية والفنلندية والصينية، إذ عادة ما يستخدم متحدثو تلك اللغات أشكال المضارع للحديث عن المستقبل.
وهناك ثقافات لا تميز بين الحاضر والمستقبل في تصريفات الأفعال مثل شعوب البيراها الذين يعيشون بغابات الأمازون، والهادزا أو الهادزابي التي تعيش في شرق إفريقيا، وهذه الشعوب لا تقدّر قيمة الادخار للمستقبل.
تتطلب قواعد الإنجليزية والفرنسية والإيطالية تمييز الماضي عن الحاضر، في حين ليست هناك أي أزمنة على الإطلاق في لغة الماندرين وغيرها من أشكال اللغة الصينية، هل هذا يعني أن الصين مهتمة بماضيها أكثر من فرنسا أو إيطاليا أو إنجلترا؟
عندما يكون هناك فرق في إحدى اللغات بين زمنين، فإن اختيار أحدهما سيؤثر في طريقة تفكيرنا في شيء ما.
فعندما لا تتطلب لغة ما التمييز بين زمنين، فاعلم أنه لا يزال من الممكن التمييز بين الأزمنة ولكن ببذل مجهود ذهني أكبر، وهو ما يدفعنا إلى القول إنه ليس مستبعَداً أن يكون للأسلوب اللغوي في الحديث عن الزمن أثر على سلوكنا وطريقة تفكيرنا فيما يتعلق بالماضي والمستقبل.