ليست ياسمين تركي من النوع الذي يسير مع القطيع. ففي الوقت الذي يُستهلَكُ فيه أغلب زملائها من المعماريين في البنايات الخرسانية، تحاول المهندسة المعمارية ذات الخمسة وأربعين عاماً إنقاد القصور الطينية في الجزائر وأن تعيد تعريف الجزائريين على المواد الأكثر تواضعاً، التي بدأ أسلافهم استخدامها قبل 15 قرناً: الطين القديم الأملس.
من خلال عملها مع وزارة الثقافة، تخوض ياسمين تركي غمار سباقٍ للحفاظ على تراث المعمار الطيني الفريد (يوجد 10 آلاف منزل منها في مدينة ﺗﻴﻤﻴﻤﻮن وحدها، وهي المكان الذي تستقر فيه)، بما فيها "القلاع الأمازيغية، والحصون المسماة القصور الطينية في الجزائر ".
لكن المخاطر أكثر مما قد يظن المرء. في البداية، نظراً إلى ارتفاع درجات الحرارة وتضاؤل الموارد المتاحة، تحذر ياسمين تركي من أنَّ الناس قد يهلكون في الواقع داخل منازلهم الخرسانية -التي تحبس الحرارة، على عكس القصور الطينية في الجزائر الأكثر مسامية وبرودة- لا سيما إذا توقفت الجزائر الغنية بالنفط عن تقديم الدعم على الطاقة، الذي يجعل أسعار مبردات الهواء معقولة.
اختاروها لإنقاذ قصبة الجزائر الشهيرة
ياسمين تركي ، ملوحة بيديها المزينة بحلي من الفضة، تقول إنَّها صارت مهتمة بالعمارة الطينية للمرة الأولى في التسعينيات، عندما كانت تدرس في المدرسة المتعددة التقنيات للهندسة المعمارية والعمران بالجزائر. وحصلت بعد ذلك على شهادة الدراسات المعمقة من المعهد الفرنسي للتخطيط الحضري في باريس، وبعدها على درجة الدكتوراه من المدرسة الوطنية للهندسة المعمارية في بيل فيل باريس، وتركزت رسالتها على الحفاظ على الإرث العمراني الريفي والحضري في الجزائر.
وعام 2003، اختارتها وزارة الثقافة الجزائرية لتكون مسؤولة عن ترميم "قصبة الجزائر"، التي بُنيت بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، وتعد من مواقع التراث العالمي بقائمة اليونسكو.
تقول ياسمين تركي إنَّ الأبحاث عرَّفتها على "المنطق" الخاص بالعمارة و القصور الطينية في الجزائر ، التي تعتمد على الموارد الطبيعية المتاحة، وتمتلك خصائص حرارية تتناسب بصورة مثالية مع الظروف الصحراوية القاسية.
التراث بالنسبة للمهندسة المعمارية هو برهان على فطنة السكان المحليين. ولا تغفل أنَّ الجزائر كانت بلداً مُسْتَعْمَرَاً، وعندما كانت مُسْتَعْمَرَة حاول المُسْتَعْمِرُون انتهاك هذه الهوية الثقافية.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، صارت الخرسانة واسعة الانتشار، فقد أدخلتها فرنسا وتبنتها ضمن توجهاتها المعاصرة، والآن لم يعد يتذكر كيفية البناء بالطين سوى عدد قليل من الجزائريين. تقول المهندسة المعمارية: "يعتقد الناس أنَّ الطين هي مادة (بناء) من الماضي (السحيق)".
لذا جعلت مهمتها في الحياة إنشاء سِجِل للمباني الباقية والمساعدة في الحفاظ عليها، وفي الوقت ذاته تزود أكبر قدر ممكن من الأشخاص بالمهارات الضرورية لإعادة اتصالهم مع إرثهم. ولكن في البداية، وتحديداً عام 2006، كان عليها إقناع الوزارة بتمويل دراستها في المعهد الوطني للتراث الثقافي في باريس، إضافة إلى دراسات عليا لمدة عامين في المركز الدولي للعمارة بالطين في غرونوبل بفرنسا (CRAterre).
حماية القصور الطينية في الجزائر واجبها
اشتهرت ياسمين تركي هناك بأنَّها "مُلِحّة"، لكن نشيطة في الوقت نفسه، حسب وصف منسِّقة مشروعها الدراسي باكونيرينا راكوتومامونشي.
توضح راكوتومامونشي أنَّ البرنامج كان الوحيد من نوعه على المستوى المهني في المجال المعماري، ويستثمر في شخص واحد لينشر بعد ذلك المعرفة في وطنه. وعام 2012، أقنعت ياسمين وزارة الثقافة بمسؤوليتها عن حماية التراث العمراني الذي تركه أسلافهم.
وافقت الوزارة على تمويل منظمة Capterre، وهي منظمة أسَّسَتها بنفسها لتنسيق خطة العمل التي وضعتها البلد من أجل ترميم العمارة الطينية.
وتصف ياسمين تركي الأمر، أثناء تدخينها سيجارة، بأنَّه استراتيجية متعددة الجوانب، تبدأ بورش عمل تُعَرِّفُ أي شخصٍ مُهتمٍ بطرق التثبيت والبناء بالطين، بما في ذلك تنظيم محاضرات أسبوعية للشباب المحلي. فضلاً عن أن المنظمة تقدم المساعدة التقنية لمشروعات البناء بالطين في القطاعين العام والخاص، سواء من أجل إنشاء بنايات جديدة أو ترميم البنايات الحالية، وتعمل ياسمين مع وزراء آخرين لضمان الحماية القانونية لهذا النوع من العمارة ذات الأهمية التاريخية الكبيرة.
وشركات الإسمنت العملاقة غير راضية
غير أنَّ التحديات لا تزال قائمة. تضم منظمة Capterre فريقاً يتكون من 50 شخصاً، لكن 7 منهم فقط مهندسون معماريون ولم يحصل أي منهم على تدريب في العمارة الدارجة. إضافة إلى أنَّ ياسمين ستنافس أكبر موردي الإسمنت، مثل شركة LafargeHolcim Algeria.
يقول سيرج دوبوا، مدير الشؤون العامة والاتصالات لدى LafargeHolcim Algeria، إنَّ الشركة لديها سوقاً كبيراً محلياً؛ إذ تسهم في أعمال تتطلب كمية من الإسمنت تصل إلى حوالي 22 مليون طن سنوياً.
والرغم من أنَّ الشركة تعمل مع منظمة Capterre لإنتاج إسمنت طيني يتسم بالثبات ويلائم متطلبات الطاقة وتلك الجمالية في ﺗﻴﻤﻴﻤﻮن، تتحسّر ياسمين تركي على نموذج البناء الصناعي المنتشر، الذي يُجَرِّدُ الشعب من هويته الثقافية واكتفائه الذاتي.
وتعتقد أنَّ الظروف مثل التغير المناخي، ستجبر السكان في نهاية المطاف على العودةٍ بشكل طبيعي إلى المباني الطينية. وعندما يحدث ذلك، من الضروري أن تكون هناك أعداد كافية لديها المال الكافي لبناء منازل آمنة ومتينة.
من أجل هذه الغاية، تحاول زيادة مجموعات المهارات العملية للمعماريين والمهندسين، لذا تعاونت منظمة Capterre مع مركز CRAterre في برنامج تدريبي لثلاثة أعوام -وهو الآن في عامه الأول- يستفيد منه 12 مهنياً.
من القانون للهندسة لحماية قصور الجزائر
من بين المئات الذين استفادوا من ورش العمل الجارية لمنظمة Capterre واحتفالية Archi'terre التي بدأتها عام 2012 لتوحيد المتحمسين للمباني الطينية في جميع أنحاء العالم، تسعد ياسمين برؤية زيادة اهتمام الطلبة والجمهور العام بالعمارة الطينية. وربما ما يسعدها بشكل خاص هو حقيقة أنَّها كانت على وشك ألا تصبح معمارية.
نشأت ياسمين في بيت يضم أبيها، وهو أستاذ قانون، وأمها التي كانت تعمل طبيبة نساء ومعلمة، وإخوتها الثلاثة.
بعد أن أنهت تعليمها العالي، لم تجتز امتحانات القبول في برنامج العمارة الذي أرادته، لذا سافرت إلى فرنسا مع أبيها لدراسة القانون في ليون. كرهت الفتاة هذا المجال وعادت إلى منزلها وإلى أمها وهي محبطة للغاية لدرجة أنها لم تتحدث لخمسة أشهر.
غير أنَّ ياسمين اجتازت في نهاية المطاف اختبارات العمارة ولم تلتفت مطلقاً إلى الماضي.
في ما يتعلق بالمستقبل، تعمل المعمارية الجزائرية مع طلبة لترميم منزل طيني كبير في المركز التاريخي في تيميمون لإظهار عبث إهدار المال العام لاستبدال البنايات الخرسانية بالمنازل الطينية القديمة؛ لأنَّ بعض الأشخاص يعتقدون أنَّ المباني الطينية سوف "تذوب مع هطول الأمطار"، وأنَّ استخدام الخرسانة هي الطريقة الحديثة للبناء.
رأيٌ يفقتر إلى بعد النظر؛ وتبذل ياسمين ما بوسعها من جهد لتغييره من خلال إقناع الآخرين بأنَّ "ما نراه الآن تقليدياً، اعتُبر في مرحلة ما حديثاً للغاية".