كيف تمكنت الجاسوسة شولا كوهين من مساعدة الاستخبارات الإسرائيلية وكيف كانت طريقة الإيقاع بها في غاية السهولة.
من بيتها تستمع شولا كوهين لأغنية "جانا الهوا جانا" لعبدالحليم حافظ عبر الإذاعة الإسرائيلية، تستمع شولا وتبتسم.
الأغنية لا تُذكِّرها بذكرى أو مناسبة تدفعها إلى الابتسام، كل ما هنالك أن إذاعة الأغنية يعني أن المعلومة التي أرسلتها شولا إلى جهاز الاستخبارات الإسرائيلي قد وصلت بنجاح!
فعبر الراديو الإسرائيلي كانت الاستخبارات الإسرائيلية تستطيع أن توجِّه خطاباتها ورسائلها إلى عملائها في كافة الدول العربية.
البداية ربة منزل
في وادي أبو جميل بالعاصمة اللبنانية بيروت، تجلس ربّة منزل بين أطفالها، أمام آلتها الكاتبة لتشرد قليلاً في الورقة أمامها وأزرار الآلة الكاتبة التي ستكتب عليها ما تريده.
هي ليست في حيرة من أمرها فقد حسمت أمرها تماماً، وقررت بثبات وبلا تردد ما تودّ فعله، هي فقط تريد انتقاء كلماتها بحرصٍ شديد.
تودّ أن تشرح مَن هي وتُعبر عن رغبتها في أقل عدد ممكن من الكلمات، تنفست عميقاً وحركت أصابعها على الآلة الكاتبة، "اسمي شولاميت كوهين، أنا يهودية أعيش في وادي أبو جميل ببيروت، أريد أن أساعدكم". هذا كل ما أرادت قوله، ولا يبدو فيما قالته شيء يُثير الريبة.
الطفلة الرابعة بين 12 طفلاً
اسمها الكامل شولاميت ماعيير عذرا كوهين، وُلدت بالقدس، في قلب حارة صغيرة اسمها حارة اليهود.
كان والد شولا رجل أعمال مصري يهودي يعمل في الأرجنتين، حينما أراد أن يتزوج في الثلاثينيات من عمره عاد إلى مصر ومنها إلى فلسطين ليتزوّج من هناك، ومن فلسطين تزوّج من ابنة لحاخام، وأنجب منها 12 ولداً وبنتاً، كانت شولا التي وُلدت عام 1920 هي الطفل الرابع بين إخوتها.
فتاة جميلة جداً، هذا هو الانطباع الأول الذي يصل بسهولة إلى كلّ من تقع عينيه على شولا، ليست جميلة فحسب بل هي قادرة على التواصل مع الجميع، ولديها ذكاء اجتماعي واضح.
لم يمرّ من عمرها الكثير ربما نحو 16 عاماً لا أكثر، وأصبح للجمال الآخاذ الذي اتسمت به الفتاة قيمة وثمن، ثمن يُقدر حجمه بإنقاذ عائلتها من أزمة مالية طاحنة مرّت بها الأسرة بعد عودة الأب من الأرجنتين في النصف الثاني من الثلاثينيات.
فقد تزوجت من ثري يهودي لبناني، هو جوزيف الكيشيك، الذي كان يكبرها بنحو 20 عاماً، وبعد الزواج انتقلت شولا للعيش مع زوجها في وادي أبو جميل بقلب العاصمة اللبنانية بيروت.
بجوار المعبد اليهودي، عاشت شولا في شقة سكنية، وبدأت حياتها الزوجية، وأنجبت نحو 7 أطفال.
بداية العمل مع الموساد
حياةٌ أسرية طبيعية تلك التي عاشتها شولا مع زوجها وأطفالها، لكنها كانت متشبعة تماماً بمبادئ الصهيونية، واعتبرت نفسها جزءاً من العقيدة الإسرائيلية.
بعد أسابيع من الانتظار منذ أرسلت خطابها الأول، طرق باب بيتها رجلٌ غريب يُخبرها بأنه أتى برسالة من أهلها.
تفضّ شولا الورقة بلهفة لتجد أن الوكالة اليهودية تطلب منها المساعدة في إيجاد مخبأ لرجلٍ يهوديّ، حيث أصبحت بيروت – تحديداً وادي أبو جميل – في هذا الوقت استراحة مؤقتة لليهود حتى يأتي وقت إرسالهم إلى فلسطين.
المهمة الأولى
حين نجحت شولا في إتمام مهمتها الأولى أتاها رجلٌ من الجنوب يُدعى موسى العبد الله، وهو الذي سيصبح فيما بعد عنصراً أساسياً في شبكتها التجسسية، وفي زيارته الأولى لها أخبرها بأن رجال أمن صهاينة يريدون مُقابلتها على الحدود اللبنانية الفلسطينية، وهذه كانت المرة الأولى التي تعبر فيها شولا الحدود.
في هذه الرحلة بدأت علاقة شولا بعالم الجاسوسية، تغيرت حياتها بشكلٍ تام، فلم تعد ربة المنزل التي ليس في حياتها شيء سوى البيت والزوج والأطفال.
طُلب من شولا خلال رحلتها الأولى تلك الاستمرار في جمع المعلومات حول الثوّار المقاومين، ومن يقوم بتدريبهم، وعدد الأسلحة التي معهم وعدد المُتدربين، فقد كان تواجد شولا في متجر زوجها في سوق سرسق وسط بيروت فرصة للقاء التجار القادمين من مناطق مُختلفة.
ومن خلالهم كانت تستمع شولا إلى أنباء التدريبات التي يقوم بها الثوار على الحدود الجنوبية بين لبنان وفلسطين، وهذه المعلومات كانت في غاية الأهمية بالنسبة للاستخبارات الإسرائيلية، إذ كان الهاجس الأكبر لدى إسرائيل في الخمسينيات هم "الفدائيون"، وهم الأشخاص الذين يأتون عبر الحدود لتنفيذ عمليات في فلسطين.
مُساهمة شولا كوهين أساسية في تكوين إسرائيل
بعينيها الزرقاوتين وقوامها الممشوق استطاعت شولا أن تُسهم في بناء إسرائيل، فبعد فترة من العمل في نقل المعلومات جاء دور شولا الأساسي الذي تلعبه مع الموساد.
وهو حشد اليهود من لبنان ومن الأماكن العربية المُحيطة إلى فلسطين لتكوين دولة إسرائيل، يقول ناصر لحام، صحافي متخصص في شؤون الاستخبارات الإسرائيلية، لقناة "الجزيرة الوثائقية" إن كل دولة تكوِّن جهازها الاستخباراتي لحمايتها وضمان سلامة أراضيها ومصالحها، بينما إسرائيل هي عبارة عن جهاز استخباراتي استطاع تكوين دولة.
فبفضل الجهد الاستخباراتي ونشاط الجواسيس الذين كُلفوا بالعمل في الدول العربية تأسست إسرائيل، إذ سهل الجواسيس مهمة تهريب اليهود إلى فلسطين، ما ساهم بشكلٍ أساسيّ في بدء تكوين إسرائيل الحالية، ومن هنا جاءت الأهمية البالغة لشولا كوهين.
كتبت شولا كوهين في مُذكراتها، "أذكر يوم رافقت عائلات من يهود سوريا لاجتياز الحدود، كنت حاملاً في الشهر السابع".
"وكان عليّ أن أجتاز الحدود معهم سيراً على الأقدام، سرّت معهم لساعات، وحين وصلنا إلى رجال الموساد كانوا مدهوشين وهم ينظرون إلى بطني المتكوِّر، ولا يخفون إعجابهم بي".
شولا كوهين.. لؤلؤة الموساد
أسماءٌ كثيرة ساعدت شولا في عملها التجسسي، ومن بينهم يهودي فرنسي تعرفت عليه في سهرة أقيمت بأحد بيوت بيروت الفاخرة، اسمه جورج مولخو، وقد عمل مع زوجته على تزويد شولا بالحبر السري، وبآلات تقنية لتسهيل اتصالها بالموساد.
"لؤلؤة الموساد" هذا هو الاسم الذي أطلقه الموساد على شولا كوهين، فقد عملت بسرعة على توسيع وتعزيز شبكتها التجسسية، فضمّت أفراداً جُدداً بتخصصاتٍ مُختلفة.
تخصصت هذه الشبكة في مهمّتين الأولى هي جمع المعلومات، أما الثانية فتهريب اليهود عبر الحدود الجنوبية إلى فلسطين.
وحين عززت الحكومة اللبنانية رقابتها على الحدود الجنوبية وأصبحت عمليات تهريب اليهود إلى الداخل الفلسطيني أكثر صعوبة من ذي قبل، لم تعدم شولا الحيلة، ولم تقف مكتوفة الأيدي، فلجأت إلى تهريب اليهود عبر البحر!
الدعارة بوابة للتجسس لشولا كوهين
يتردد أن شولا استخدمت الدعارة في شبكتها التجسسية، وإن لم تكن هذه معلومة مؤكدة لدى البعض، وإن كان من المؤكد أن الصالون الذي كانت تُقيمه في منزلها كان به فتيات يتسقّطن الأخبار المُختلفة التي تتناثر في جنبات الصالون ثم ينقلن هذه المعلومات لشولا.
بينما هناك رأي آخر يعتبر أنّ شولا كوهين احتلت مكانتها المُميزة في المجتمع من خلال البنات التي كانت تُجلبهن، وتُعزز من خلالهنّ علاقاتها الواسعة مع جهات عديدة في المنطقة العربية خصوصاً في سوريا ولبنان.
الرأي الأكثر تردداً حول شولا هو الرأي الثاني، فقد ترددت الكثير من الأقاويل حول نشاطات شولا المشبوهة في لبنان، وعن إدارتها لبار "رامبو" في شارع الحمرا ببيروت، الذي حوّلته إلى وكر للدعارة.
ووفقاً لصحيفة "الرأي اليوم"، باعت شولا خدماتها الجنسية لمئات من كبار موظفي الدولة في لبنان، في ما بين عامي 1947 و1961.
ووفقاً لنفس الصحيفة، ففي العام 1956 وسّعت شولا أعمالها في الدعارة حتى أصبحت تملك 5 بيوت إضافية في مناطق مختلفة من بيروت تستخدمها للأغراض ذاتها.
زوّدها الموساد بكافة أجهزة التسجيل اللازمة، مثل آلات التصوير السرية، لتثبيتها في غرف النوم في البيوت التي تملكها.
واستخدمت شولا فتيات لجذب السياسيين والموظفين اللبنانيين والسوريين، وتمكّنت من تصوير الكثير من موظفي الدولة اللبنانية مع العاملات لديها، واستخدام هذه التسجيلات لابتزازهم فيما بعد.
نهاية القصة والقبض على شولا الجميلة
بدأت الحكومة اللبنانية تكشف النشاط المشبوه لشولا فاستأجرت مخابرات الجيش شقة في الطابق الذي يعلو شقة شولا وبدأ التنصّت عليها في شقتها، كانت جهود المخابرات في كشف نشاطها يتم بغطاء ودعم مُباشر من رئيس الجمهورية اللبناني في تلك الفترة فؤاد شهاب.
بدأت مُراقبة شولا في كل تحركاتها ولقاءاتها، وتم ضبط كافة مُراسلات شولا للموساد، والتي كانت تحصل عليها من عسكريين بشأن ثكنات الجيش وأسلحته وأسماء ضباطه.
كلفت المُخابرات اللبنانية الملازم ميلاد القارح بإقامة علاقة غرامية وهمية مع شولا ومراقبة زوارها في منازلها الخمسة، ثم اتفق معها ميلاد على إقامة حفلة بمنزلها ودعوة الشخصيات الهامة في شبكتها.
وخلال هذه الحفلة كان منزلها مطوّق بالأمن اللبناني، لتُفاجأ شولا بأن حبيبها هو الضابط المُكلف بإلقاء القبض عليها.
مثلت شولا وشبكتها أمام القضاء في 27 أكتوبر/تشرين الأول عام 1961، وفي عام 1962 صدر الحكم بإعدامها، ونتيجة لضغوط دولية مارستها إسرائيل خُفف الحكم إلى الأشغال الشاقة لمدة 20 عاماً.
سُجنت شولا في بيروت لكنها لم تظل في محبسها أكثر من 6 سنوات، فخلال الحرب العربية – الإسرائيلية عام 1967 أسرت السلطات الإسرائيلية عدداً كبيراً من الجنود العرب واشترطت مبادلتهم بشولا كوهين ويهودٍ آخرين، وهو ما حدث بالفعل.
استُقبلت شولا في إسرائيل بحفاوة وتم تكريمها مرات عديدة، وأصبحت واحدة من أساطير الموساد.
ظلت شولا تعيش مع أبنائها في أحد أحياء اليهود المتشددين في القدس حتى وفاتها بعدما تجاوزت 100 عام تقريباً، وكان أحد أبنائها هو سفير إسرائيل في القاهرة خلال الفترة من 2009 إلى 2011.