طفل رومي رحل إلى أميركا للبحث عن عائلته فتبعه معظم سكان قريته. هكذا بدأت قصة قرية "ياغلي درة" الواقعة في مدينة غيرسون على البحر الأسود، والذي جعل قرية تركية كاملة تتحدث الإنكليزية وتتعامل بالدولار
ومن الملفت لزائر القرية أن جميع سكانها يتحدثون باللغة الإنكليزية ويتعاملون بالدولار أكثر من تعاملهم بالليرة التركية.
فترى تجار القرية يستخدمون الأسماء الإنكليزية على لافتات محلاتهم، إذ يقول التاجر علي يانبول الذي عاش في أميركا 15 سنة وعاد ليتاجر بالبندق، لصحيفة Akşam التركية "لابد أن تتأثر بثقافة المكان الذي تعيش فيه بعد مرور فترة من الزمن".
ويضيف، "هناك نحو 20 ألف مواطن من قريتنا يعيش في أميركا، أغلبهم يعملون في بيع البيتزا، قيادة التكاسي ومحطات البترول، أنا أيضًا عدت إلى قريتي بعد أن جمعت المال هناك".
أما إلياس كوتش الموظف المسؤول عن تعبئة استمارات الحصول على تأشيرات السفر إلى أميركا في القرية، فيؤكد أن الطلب على التأشيرة يزداد كل يوم، رغم أن سلطات الولايات لم تعد تقبل أكثر من 100 طلب في العام.
في الصيف تغلب اللغة الإنكليزية التركية
يبلغ عدد سكان ياغلي درة المقيمين فيها نحو 7400 نسمة، مقابل نحو 20 ألف آخرين يعيشون في الولايات المتحدة الأميركية.
ومع حلول فصل الصيف من كل عام يبدأ المبتعثون بالعودة إلى قريتهم لقضاء الأجازة. في هذه الفترة تصبح اللغة الإنكليزية هي المسيطرة، وتستبدل المحلات التجارية الليرة التركية بالدولار الأميركي لتسهيل البيع والشراء على المواطنين.
هكذا أصبحوا "أميركان" تركيا!
ترجع جذور القصة إلى العام 1923، حيث وقعت تركيا واليونان اتفاقيةً للتبادل السكاني، تضمنت نقل المسيحيين اليونانيين الذين يعيشوف في تركيا إلى اليونان، ونقل المسلمين الأتراك إلى اليونان.
وكان هذا التبادل الذي تم عبر الاتفاقية التي وقعتها الحكومتان التركية واليونانية في مدينة لوزان السويسرية، أول تبادل إلزامي واسع النطاق في القرن الـ 20، إذ تضمن نحو مليوني مسيحي ونصف مليون مسلم.
هاجر للبحث عن عائلته.. فتبعته القرية!
لم تكن جميع العوائل المسيحية راضيةً عن هذه الهجرة، فبدأ بعضهم بالبحث عن حلول وطرق تمكنهم من البقاء في بلادهم الأصلية.
هربت إحدى هذه العائلات من قرية ياغلي درة إلى قرية مجاورة كانت تسمى (غبة كيليسة Gebekilise) وتحول اسمها إلى (تشاغلايان Çağlayan) بعد المبادلة. ثم أُجبرت العائلة على الهجرة منها في العام 1930.
أثناء استعداد الأسرة للهجرة، توفي الجد وتبعته الأم، أما الأب فترك القرية مشيًا على قدميه حتى وصل إلى مدينة سيواس التركية. وحين غلبه التعب والمرض توفي وترك خلفه ابنه لفتر، الذي تكفل سكان القرية برعايته فيما بعد.
حين بلغ لفتر الـ 18 من عمره، هاجر من تركيا عبر البحر إلى اليونان رفقة أخته الصغرى للبحث عن بقية أفراد عائلتهم. وبعد وصولهما اليونان، رحلا إلى الولايات المتحدة الأميركية.
رد معروف أهل القرية معه بتسهيل هجرتهم
في العام 1963، عاد لفتر إلى قرية ياغلي درة التركية التي ولد ونشأ فيها، والتي كانت تسمى في السابق (جامي ياني Camiyanı). وبعد أن بحث طويلًا عن السيدة التي رعته في صغره، علم من سكان القرية أنها توفيت.
وحين علم لفتر بتدهور الوضع المادي في القرية، طلب أن يرافقه أحد السكان إلى أميركا مقابل تسهيل إجراءات هجرته، فلم يقبل بالعرض سوى خياط يدعى عزت آيدن.
بعد عزت آيدن لم يهاجر من القرية سوى شخصان أو ثلاثة، لتبدأ موجة الهجرة العارمة في العام 1985.
20 ألف من سكان القرية هاجروا إلى أميركا
استمرت موجة الهجرة التي أطلقها رفتر وعزت آيدن دون انقطاع، حتى بلغ عدد سكان القرية الذين هاجروا إلى أميركا نحو 20 ألف مواطن.
وبعد أن هاجر نحو 80% من السكان، قررت الولايات المتحدة الأميركية منع إصدار تأشيرات الدخول لسكان القرية، حيث كان 500 منهم يرحلون إلى أميركا كل عام منذ 1985 وحتى 2000.
فأصبحت أميركا تمنح تأشيرة دخول لشخص واحد بين كل 100 يطلبون التأشيرة من ياغلي درة.
وفي العام 2008 لم يحصل سوى شخص واحد فقط من القرية على تأشيرة الدخول.
موجة الهجرة هذه كانت السبب في تداخل حضاري وثقافي كبير بين ياغلي درة وأميركا، حتى أصبحت القرية الوجه الذي يمثل تركيا بالكامل أمام الشعب الأميركي.