أعطته بنيته الجسدية القوية دافعاً للتمرد ضد الطغيان، شعر أن بإمكانه تحقيق العدالة ولو اضطر لخسارة كل من كان يحب. إنه سبارتاكوس العبد الروماني المصارع، الذي رفض العبودية الراسخة منذ قرون في روما. التف حوله الآلاف، وكاد حراكه أن يغير نظام الحكم لولا تدراكت السلطات الأمر وأجهزت عليه بالقوة وعلى أفكاره إلى الأبد.
في 73-71 قبل الميلاد، قاد المصارع سبارتاكوس ثورته ضد روما القديمة، والتي عُرفت باسم "ثورة العبيد الثالثة". كانت آخر الثورات التي قمعتها روما، لكن قصة سبارتاكوس ألهمت الكثير من الروائيين وصانعي الأفلام حتى يومنا هذا.
ففي عام 1960، أخرج ستانلي كوبريك فيلم الدراما التاريخية والملحمية الأميركية Spartacus، الذي ارتكزت أحداثه بالأساس على رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب الأميركي هوارد فاست.
وفي عام 2010، عُرض المسلسل التلفزيوني الأميركي سبارتاكوس، وهو عبارة عن سلسلة تاريخية مكونة من 4 أجزاء، تتناول حياة المصارع سبارتاكوس وثورته الجريئة ضد الإمبراطورية الرومانية.
وبعيداً عن الجانب الأسطوري الذي طغى على تلك الأعمال الفنية بشكل كبير، من هو العبد المحارب سبارتاكوس؟
المجتمع في روما القديمة.. طبقي مُجحف والعبودية فيه مترسخة
اتخذت العبودية شكلاً مؤسسياً في المجتمع الروماني القديم؛ حيث خدم العبيد في المنازل، والزراعة، والمناجم، والجيش، وورش التصنيع، والبناء، ومجموعة واسعة من الخدمات داخل المدينة.
كان هناك نحو 1 من أصل 3 من السكان في إيطاليا أو 1 من 5 بجميع أنحاء الإمبراطورية عبداً، وعلى أساس هذا العمل القسري بُني صرح كامل من مجتمع الدولة الرومانية.
وقد مثّل العبيد الطبقة الدنيا في المجتمع الروماني، كانوا أدنى حتى من المجرمين الذين كان لهم حقوق أكثر.
لم يكن لدى العبيد أي حقوق على الإطلاق، فلم يكن يحق لهم الزواج وتكوين العائلة ولا يمكنهم امتلاك العقارات؛ كانوا مجرد ملكية، تماماً مثل أي شيء يمكن امتلاكه. كان الاختلاف الوحيد هو أنه كان بإمكانهم التحدث، وبالنسبة للنخبة الرومانية كان العبد بمثابة رمز للمكانة. ولهذا كان الرومان الأثرياء يظهرون بالأماكن العامة، في كثير من الأحيان، بصحبة حاشية تصل إلى 400 عبد.
وتجدر الإشارة إلى أن العبودية كانت متجذرة وراسخة في المجتمع الروماني، إلى حد أن العبيد أنفسهم لم يكن لديهم أي شعور بالظلم؛ فقد كان عدم المساواة في السلطة والحرية والسيطرة على الموارد جزءاً مقبولاً من الحياة.
فالعبودية، إذاً، لم تعتبر شراً؛ بل ضرورة من قِبل المواطنين الرومان. وكانت أسواق الرقيق موجودة في معظم المدن الكبيرة.
وفي الساحة العامة، كان العبيد يرتدون علامات حول رقابهم تعلن عن فضائلهم للمشترين المحتملين والمتداولين المتخصصين في السلعة.
سبارتاكوس.. العبد الذي قرر الهروب من حلبة العبودية
وُلد سبارتاكوس في تراقيا، وهي منطقة تقع في الشمال الشرقي من مقدونيا؛ البلقان حالياً.
عاش هناك حتى غزت القوات الرومانية تلك المنطقة، واقتيد هو وزوجته كغنائم حرب، وتم بيعه في سوق الرقيق.
اشتراه لينثولوس باتياتوس، مالك مدرسة تدريب المصارعين؛ بسبب جسده الفريد وبنيته القوية، ليتم تدريبه بعدها في مدرسة بلاثياتوس في كابوا شمال نابولي بإيطاليا.
وفي عام 73 قبل الميلاد وبسبب ظروف الحياة القاسية داخل مدرسة المصارعة، قرر سبارتاكوس الهرب مع 80 مصارعاً آخر، وذلك باستخدام سكاكين المطبخ.
وبعد هروبهم هجموا على قافلة صغيرة تضم عربات تحمل أسلحة واستولوا عليها، ثم فروا إلى جبل فيزوف القريب، وسرعان ما انضم إلى سبارتاكوس الرعاة والعبيد؛ ما أدى إلى تضخُّم جيشه الصغير إلى أكثر من 70 ألف شخص.
وللبقاء على قيد الحياة، بدأ سبارتاكوس ورجاله في النهب من جميع أنحاء إيطاليا.
وفي عام 72 قبل الميلاد، أرسل مجلس الشيوخ الروماني القائد العسكري كلاوديوس غلابر مع 3000 جندي روماني؛ لمحاصرة المتمردين على جبل فيزوف.
وكانت خطة غلابر ترتكز على تجويع العبيد في الجبل حتى الاستسلام، ولكن سبارتاكوس استطاع ببراعة كبيرة، العبور صوب الناحية الثانية من الجبل باستخدام حبال من الكروم، ثم اقتحم المعسكر الروماني، واستطاع سرقة الأسلحة والمعدات العسكرية.
لكنه يقرر العودة.. ويقود الثورة ضد الرومان
غيَّر سبارتكوس استراتيجية حركات التمرد؛ ما سبب إرباكاً لقادة الجيش الروماني؛ فقد توقف عن الهرب وتحول إلى الهجوم؛ إذ بدأت مجموعات من جيشه بالتربص للدوريات العسكرية؛ للانقضاض عليها وأخذ كل المؤن والأسلحة الخاصة بهم.
ولم يقتصر الأمر على الهجوم على الدوريات العسكرية، وإنما امتد إلى الهجوم على القرى الرومانية وقتال قوات الحامية العسكرية وسلب أموال القرية ونهبها. وخلال هذه السنة، استطاع سبارتكوس تحقيق 9 انتصارات عسكرية كبيرة على القوات الرومانية.
تسبب ذلك الأمر في انقلاب المجتمع الروماني على السلطة الحاكمة، التي عجزت عن مواجهة حفنة من العبيد المتمردين.
وأمام الانتصارات العسكرية المتكررة لسبارتاكوس، توقفت القوات الرومانية عن اعتبار العبيد حفنة من المتمردين، وتم التعامل معهم بمنطق الحرب؛ فالانتصارات التي حققها سبارتاكوس ورجاله لو استمرت لكانت أدت إلى انهيار الإمبراطورية الرومانية بالكامل.
كان سبارتاكوس قريباً من تحقيق ذلك بالفعل لولا الجيش الجرار الذي أرسله مجلس الشيوخ الروماني من أجل القضاء على ثورة العبيد.
الجيش الروماني يردُّ بقوة.. 8 فيالق ضد حفنة من المصارعين
أرسل مجلس الشيوخ الروماني جيشاً جراراً قوامه 8 فيالق بقيادة ماركوس كراسوس؛ لمواجهة سبارتكوس ورجاله.
ودامت الحرب بين الطرفين مدة طويلة، تمكن بعدها قائد الجيوش الرومانية، كراسوس، من محاصرة العبيد وقطع عنهم جميع الإمدادات الحربية؛ لإجبارهم على الاستسلام.
لكن سبارتاكوس رفض الاستسلام وقرر في الوقت نفسه عدم الاستمرار في الحرب؛ حتى لا يخسر المزيد من رجاله؛ وعليه اختار ثغرة في أحد فيالق الجيش الروماني، واستطاع فك الحصار والانسحاب من المعركة متجهاً صوب الجنوب.
ولكن قوات الجيش الروماني استطاعت اللحاق به هو ورجاله، حيث حوصر وهُزم في لوكانيا.
وذكرت بعض المصادر التاريخية أنه قُتل، على الرغم من عدم العثور على جثته. وفي النهاية، قامت قوات الجيش الروماني بصلب 6000 من العبيد المتمردين، وعُرضت جثثهم على طول طريق أبيان أو Appian Way في روما القديمة.
نضاله ألهم الثوار والسياسيين والكُتاب
خلال عام 1830، نحت الفنان الفرنسي دينيس فوياتير تمثالاً من الرخام لسبارتاكوس، وتم الاحتفاظ بالتمثال في متحف اللوفر بباريس.
وفي 1884، رسم الفنان الفلبيني جوان لونا لوحته الشهيرة "أنا سبارتاكوس"، وهي محفوظة بالمتحف الوطني في مانيلا، كما رسم الفنان البريطاني بول كارسيلك في 2010 أحدث لوحات سبارتاكوس، وعُرضت بمركز ماريبيبون في لندن.
وفي عام 1958، استطاع المؤلف الأرمني السوفييتي الكبير أرام خاتشادوريان أن يجمع بين فن الموسيقى والباليه ويقدم رائعته "سبارتاكوس" عبر "فرقة الباليه والأوبرا الوطنية الأرمنية"؛ وهي عمل فني عملاق يحكي قصة الثائر التاريخي سبارتاكوس.
يُذكر أن سيمفونية خاتشادوريان عُرضت أكثر من 200 مرة في معظم عواصم دول العالم.
سبارتاكوس في هوليوود.. فيلم أيقوني وملحمة تلفزيونية من 4 أجزاء
واحد من الأعمال الأيقونية في تاريخ هوليوود كان فيلم Spartacus 1960، الذي قام ببطولته الممثل الهوليوودي الشهير آنذاك "كيرك دوغلاس"، وأخرجه مخرج الروائع ثقيل العيار ستانلي كوبريك، الذي حصد 4 جوائز للأوسكار دفعة واحدة.
حصل الفيلم على جائزة أفضل تصميم للملابس وأفضل تصوير وأفضل إخراج تقني وأفضل ديكور فني، وكان أول عمل سينمائي كبير يسرد قصة المحارب الشهير وملحمته من العبودية نحو الثورة والتحرر.
الجدير بالذكر أن الفيلم تكلف إنتاجه 12 مليون دولار، وحصد أرباحاً كُلية عالمية قُدِّرت عام 1998 بـ60 مليون دولار.
بعدها عُرض مسلسل Spartacus: War of the Damned للمرة الأولى خلال عام 2010، وحمل الجزء الأول منه اسم "سبارتاكوس: الدم والرمل"، في حين كان الجزء الثاني من المسلسل تحت عنوان "سبارتاكوس: الانتقام"؛ والجزء الثالث "سبارتاكوس: حرب الملعونين". وبالنسبة للجزء الرابع، فقد كان عنوانه "سبارتاكوس: آلهة الحلبة".
وقام ببطولة المسلسل أندي ويتفيلد، مجسداً دور سبارتاكوس، والذي توفي على إثر إصابته بمرض السرطان خلال عام 2011، ولم يستطع استكمال المسلسل.
وشاركت ويتفيلد البطولةَ إيرين كامينغز، مجسدةً دور سورا زوجة سبارتاكوس، ومانو بينيت الذي قام بدور كراسوس. يُذكر أن النجم ليام ماكنتاير قام بدور سبارتاكوس في بقية أجزاء المسلسل.
وترتكز أحداث المسلسل على قصة سبارتاكوس وزوجته سورا اللذين فرقت بينهما العبودية. توجه سبارتاكوس إلى إيطاليا، وبيعت زوجته إلى تاجر رقيق سوري.
وطوال الأحداث يحاول سبارتاكوس العثور على زوجته، وخلال تدريبه في مدرسة المصارعين يتعرض سبارتاكوس للكثير من المضايقات حتى يقرر الهرب.
وعلى الرغم من رغبة المنتجين في تصوير حياة سبارتاكوس بشكل أكثر واقعية، فإن المسلسل يحتوي على الكثير من المشاهد الدموية والعنف.