يبدو كل شيء مُتغيراً الآن بالنسبة لهذه السيدة لينيت فروم، كل شيء بمعنى كل شيء، بداية من الشوارع والطرقات والبنايات التي تُحيط بها، وصولاً إلى ملامح وجهها وملمس بشرتها وحتى قدرتها على إبصار الأشياء عن بُعد أو سماع من يُحدثونها.
الآن نحن في عام 2009، والآن فقط تخرج لينيت فروم من محبسها، وترى إحدى أشهر السيدات التي كتب اسمهن في التاريخ الأميركي لكن في صفحاته السوداء، العالم بعد ما يقرب من 34 عاماً قضتهم في السجن.
فكيف يشعر المرء حينما يجد نفسه بعد ما يزيد على الثلاثين عاماً حراً للمرة الأولى في اختيار المكان الذي سيذهب إليه؟! خاصةً أن فروم تبلغ الآن ستين عاماً بحسب مكتب السجون الفيدرالي، وكانت في العشرينيات من عمرها عند دخوله.
قبل سنوات السجن الطويلة كانت لينيت فروم فتاة عادية نشأت في جنوب كاليفورنيا، ليست عادية في كل شيء، فقد كانت تملك من جمال الشكل ما يجعلها مميزة عن غيرها من الفتيات، خاضت فروم رحلة طويلة وغريبة حولتها لأول امرأة في التاريخ تحاول اغتيال رئيس أميركي، وخلال تلك الرحلة حظيت فروم بالكثير من الشهرة.
فروم فتاة صغيرة جميلة، لكنها فجأة تنضم إلى عصابة إجرامية وتصبح عنصراً نشيطاً بها، تحاول اغتيال الرئيس الأميركي.. كل تلك المُعطيات السابقة حوّلت فروم إلى شخصية مُثيرة تستحق المتابعة.
وهذا ما جعلها تحتل غلاف مجلة Time في العدد الصادر بتاريخ 15 سبتمبر/أيلول عام 1975، بتقرير عنوانه "الفتاة التي أوشكت على قتل فورد"، بالإضافة إلى الكثير من الصحف والمجلات الأخرى التي تناقلت أنباء فروم وتحدثت عنها.
الجميلة التي تسللت بين الجموع وأشهرت مسدسها نحو الرئيس
في صباح يوم جمعة من أيام عام 1975، كان جيرالد فورد، الرئيس الثامن والثلاثين للولايات المتحدة (1974 إلى 1977)، يسير عبر مجموعة من مئات المؤيدين له أمام مبنى الكابيتول بولاية كاليفورنيا، كان فورد يُصافح أنصاره ويلوح لهم بيده.
ثم من العدم يظهر خطر اغتياله بمسدس آلي، قبل أن يتمكن الحراس من السيطرة على الأمر وإفشال محاولة الاغتيال، أما اليد التي كانت تمسك بالمسدس، والتي تمكن الحراس من إيقافها قبل أن تتم مهمتها كانت ناعمة وصغير، إنها يد لينيت فروم.
امرأة بالغة من العمر 27 عاماً تُدير الرؤوس حينما تسير في الشارع بسبب جمالها، لم يكن أحد يدري أن هذا الوجه الجميل يحمل مُسدساً آلياً وأنه مقدم على تنفيذ عملية اغتيال به الآن، ولم يكن أحد بالطبع يعلم أن تلك الملامح الجميلة هي من أتباع تشارلز مانسون.
مانسون، هو مجرم أميركي شهير، اشتهر في أواخر الستينيات بعمليات القتل التي نفذتها عصابته، وكان من بين ضحاياه شخصيات شهيرة منهم الممثلة الأميركية شارون تايت زوجة المخرج المثير للجدل رومان بولانسكي، والتي كانت حاملاً بطفلها في الشهر الثامن حينما تم قتلها بمنزلها أثناء سفر زوجها، شملت عملية القتل أيضاً آخرين كانوا مع شارون بالبيت منهم مصفف شعرها الذي تصادف وجوده.
وقد بذلت أجهزة الأمن مجهودات ضخمة للإيقاع بمانسون وأتباعه الذين كان غالبيتهم من النساء، خاصة أن أصداء جرائم ذات طبيعى (طقسية دينية) كان لها تأثير مخيف على المجتمع الهوليوودي والأميركي بصفة عامة؛ وقبض عليه بالفعل بعد تحقيقات مطولة في مطلع السبعينيات وحُكم عليه عام 1971 بالإعدام لارتكابه نحو 7 جرائم قتل، ثم تم تخفيف الحكم لاحقاً ليصبح السجن مدى الحياة.
فورم الصغيرة تحوّلت لمجرمة بسبب أبيها
كان من المرجح أن تسير حياة فروم في مسار مُختلف تماماً عن الطريق الذي سارت فيه بالفعل، فقد ولدت لينيت فروم عام 1948، لأسرة متوسطة تعيش في كاليفورنيا، كانت أمها ربة منزل، أما أبوها فقد كان مهندس طيران، حينما كانت لينيت شابة أظهرت اهتماماً بالرقص، وقد كان لها موهبة فيه، سهلت تلك الموهبة قبولها للعمل بشركة رقص مرموقة، وكانت على علاقة صداقة بالممثل الأميركي فيل هارتمان، الذي يصفها بكونها جميلة وخجولة جداً.
وربما كان السبب وراء تغيير مسار حياتها عن السير الطبيعي والمنطقي هو أنها كانت تعيش حياة أسرية مُضطربة، فقد كان والدها يُسيء لفظياً وجسدياً لها ولأمها، وقد اضطرت فروم إلى ترك الرقص الذي كانت تحبه لأن والدها لم يسمح لها بالالتحاق بدراسته.
وقد تسبب لها والدها في أزمات نفسية حادة، جعلها ترغب دوماً في إيذاء نفسها، وكانت تحب كثيراً إيلام نفسها، فقد كانت تحرق ذراعيها بالسجائر، بالإضافة إلى أنها كانت تقوم بإيلام جسدها الدائم بوخز الدبابيس، وقد ظلت فروم هكذا إلى أن قررت ترك المنزل نهائياً.
وقعت في غرام رئيس عصابة إجرامية
وفي عام 1967 على شاطئ فينيسيا في لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا، وجدت فروم نفسها في مواجهة الشخص الذي سيُغير اتجاهات بوصلة حياتها فيما تبقى من عمرها، ولم يكن هذا الشخص سوى تشارلز مانسون.
بدأت عشقها لهذا المجرم بعدما نظر طويلاً لعينيها، وأخبرها كشخص يفهم كل عذابها حتى قبل أن تولد، بكلمات بسيطة عبّر عن فهمه هذا، حيث قال لها: "أنتِ تكرهين والدك، أليس كذلك؟"، ومن هنا بدأت علاقة فورم بمانسون، وانضمت لعائلته التي أسسها وقام باستغلالها في الأعمال الإجرامية.
توجّه بعدها إلى مدينة سان فرانسيسكو واستطاع خلال أشهر عدة أن يستقطب أفراد عائلته، وشكل منهم ومن غيرهم ممن قبلوا مجاراته جماعة تمارس الحفلات الخليعية وتتعاطى حبوب الهلوسة وتنظم رحلات جماعية لتعاطي المخدرات، وكان يتخللها بين الفينة والأخرى محاضرات يلقيها مانسون حول موسيقى البيتلز.
كان مانسون يتمتع بسيطرة تامة على أفراد "العائلة"، ويملي عليهم كل شيء، من أدق الأمور إلى أكبرها، وكان أفراد "العائلة" يرون فيه نوعاً من القدسية، ويعتقدون بأنه يتمتع بصفات شبيهة بصفات السيد المسيح، وهي صورة دأب مانسون على تشجيعها.
لم تصبح فروم فقط واحدة من أتباع مانسون، لكنها أصبحت الفتاة الأولى في المجموعة، المجموعة التي أُطلق عليها اسم "عائلة مانسون"، وكان مُلقى على عاتق فروم الكثير من المهام الضرورية بعدما انتقلت العصابة للعيش في مزرعة سباهن بولاية كاليفورنيا.
توحدت فروم مع مانسون بدرجة كبيرة، أحبته كثيراً أيضاً، وأثناء مُحاكمته نظمت فورم مع أتباع آخرين لمانسون وقفة احتجاجية خارج مبنى المحكمة أثناء مُحاكمته، وقالت للصحافيين ببساطة: "أنا هنا في انتظار والدي".
السر الغريب وراء محاولة اغتيال الرئيس الأميركي
كان السبب وراء محاولة فروم قتل الرئيس الأميركي جيرالد فورد غريباً بعض الشيء، وإن لم يخلُ السبب هذا من وجود مانسون، حيث تبنى مانسون فجأة قضايا داعمة للبيئة بعدما تم إلقاء القبض عليه، كان داخل السجن، لكن فروم كانت بالخارج، وكان عليها أن تساعده وتدعمه في القضايا الجديدة التي تبناها، وأصبحت فروم فجأة ناشطة بيئية.
حينما أقدمت على اغتيال فورد كانت لا تبغي شيئاً منه أكثر من أن يستمع إليها في أمور مُتعلقة بالبيئة، وقد كان لديها ظن يقيني، وكانت متأكدة تماماً من أنه لن يقف ليسمعها، بالإضافة إلى حُكمها المُسبق عليه بأنه شخص "شرير" بسبب تصريح مُزاحي له حول عدد الأشجار التي تم تدميرها لطباعة أحدث مجموعة من اللوائح الحكومية، لذا قررت أن ينتهي الأمر بشكل دموي.
تقول فروم عن لحظة اغتيال رئيس دولتها الساخر من القضايا البيئية التي تتبناها: "حسناً، تعرف، عندما يُعاملك الناس كطفل ولا يعيرون أي اهتمام للأشياء التي تقولها، عليك أن تفعل شيئاً!".
وفي محاكمتها كان سلوكها لا يدل على أنها تريد تبرئة نفسها، كانت كأنها تود أن تعيش في السجن فقط لأن مانسون يعيش فيه، فقد كان من الممكن تبرئتها لأن المسدس الذي كانت تحمله قيل إنه لم يكن به أي رصاص، إلا أنها في مُحاكمتها رفضت الإدلاء بشهادتها لنفسها، كما أنها في حركة صبيانية عبثية ألقت بتفاحة على رأس المُدعي العام الأميركي.
الشيطان في ثوب الكاريزما.. روح تقابلها مرة في العمر!
تقول فورم في حديث أجرته مع موقع CNN عام 1987 عن مانسون: "لم يكن يجب أن يُسجن أبداً، هو متهم بالقتل وهو لم يقتل أحداً أبداً، ربما كان المفروض أن أكون أنا مكانه، لأنني أعرف جيداً أنني وضعت الكثير من أفكاري في رأسه!".
وفي إطار التأثير الروحي والنفسي الشبه شيطاني الكبير الذي مارسه مانسون على فروم، وصفت فروم مانسون بأنه روح تُقابلها مرة واحدة في العمر، وأنه كان لديه قلب وروح أكثر من أي شخص آخر قابلته في حياتها، رغم أن مانسون كان على علاقات عديدة وسط طائفته، وتعددت علاقاته النسائية، وإن بدا أن هذا لم يكن ليؤثر في مدى عشق فورم للمجرم الجذاب الشيطاني.
وتضيف فروم في الحديث نفسه أنه لم يكن يخطر ببالها أبداً وهي تحاول قتل فورد، أن هذه المحاولة ستنتهي بها إلى السجن، ومع ذلك فهي لا تشعر بأي ندم، وترى أن ما حدث لها هو "قدر"، لكنها على الرغم من ذلك لا تستطيع أن تتخيل نفسها وهي تحاول ارتكاب هذه الجريمة مرة أخرى.
حتى أنها فرّت من السجن لأجل حبيبها المريض!
وفي نفس العام الذي أُجريت معها فيه الحوار حاولت فروم الهرب من سجن ألدرسون الفيدرالي في ولاية فرجينيا الغربية، وذلك بعدما علمت أن مانسون مُصاب بسرطان الخصية، فهربت بعد نحو 24 عاماً من السجن، فقط لكي تتمكن من مقابلته والحديث إليه، لكن تم القبض عليها بعد يومين فقط من هروبها، وهو ما عطل الإفراج المشروط عنها.
لم تكن فروم وحدها هي التي وقعت تحت التأثير الطاغي لمانسون، حيث إن العائلة التي أسسها، والمُكونة من الشباب الهبيين في كاليفورنيا، كان جميع أفرادها يُعاني من هذا التأثير الغريب له عليهم، والذي جعلهم يُنفذون كل ما أمرهم به من الجرائم العشوائية والوحشية وعمليات القتل والاغتيال.
وقد انتهى أغلب أفراد عائلة مانسون في السجن، وقد تم تناول قصة عائلة مانسون في بعض الأفلام السينمائية والوثائقية، مثل الفيلم السينمائي "مانسون" الذي تم إنتاجه عام 1973، وكذلك فيلم "عائلة مانسون"، والذي تم إنتاجه عام 1997، وفيلم "الكلمات الأخيرة لتشارلز مانسون" إنتاج عام 2017.