كانت فيينا عاصمة هابسبورغ في عام 1440، وأصبحت عاصمة للإمبراطورية الرومانية في عام 1483، وكانت السيطرة على فيينا بالنسبة للإمبراطورية العثمانية تحدياً كبيراً لطالما سعت إلى تحقيقه أملاً في التوسع وسط وغرب أوروبا، وشكلت هدفاً استراتيجياً كبيراً للدولة العثمانية، حتى تاريخ الموقعة الشهير "معركة فيينا" في 12 سبتمبر/أيلول 1683، التي تحل ذكراها.
الزحف الأول نحو فيينا.. وموت السلطان سليمان القانوني
حاول السلطان سليمان القانوني أثناء جلوسه على العرش ضم النمسا للأراضي العثمانية -والتي يُعتقد أنها اشتقت تسميتها النمسا من الجذور اللغوية السلافية slavic من لفظة Nemesçe التي تعني "ألماني"، حيث كان هناك خلطاً بين النمساويين وشعوب ألمانيا "جرمانيا"- فانطلق بجيشه في سبتمبر/أيلول عام 1529 وجمع قواته التي كانت 120 ألف جندي في بلغاريا.
على الرغم من قلة عدد المدافعين عن الأراضي النمساوية، فإن الهجمات المباغتة التي شنها أولئك المدافعون تجاه الجيش العثماني أثناء تجهيز تحصيناتهم من أجل الحصار ألحقت العديد من الخسائر بصفوف العثمانيين. كما أن سقوط الأمطار أجبر العثمانيين على ترك معداتهم الحربية الثقيلة عالقة في الطين في طريقهم إلى فيينا.
في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 1529 بدأ العثمانيون هجومهم بالكامل، ولكن وقفت الدفاعات صادمة ما أفشل الهجوم، وانسحب العثمانيون. لم تكن تلك المحاولة الأخيرة من السلطان سليمان للسيطرة على النمسا، بل كانت آخر محاولاته حينما ذهب على رأس حملته عام 1566 متقدماً نحو فيينا، إلا أنه توقف عند حصن سيكتوار في المجر ومات هناك حتى قبل تغلبه على الحصن.
الدولة العثمانية تدخل مرحلة ضعف.. وقوى أوروبا تتضافر
بعد عزل الجيش للسلطان إبراهيم بن أحمد، تولى ابنه محمد الرابع مسؤولية الحكم وهو في السابعة من عمره. انتهزت القوى الأوروبية ضعف السلطة العثمانية وكونت الحلف المقدس الذي ضم كلاً من النمسا، و بولونيا، والبندقية، وروسيا، وذلك من أجل الوقوف في وجه الفتوحات الإسلامية.
شهدت بدايات عصر محمد الرابع ارتفاع الأسعار بسبب فقدان السيطرة على مضيق الدردنيل ما حال دون وصول المواد الغذائية إلى إسطنبول. في عام 1657، تولى محمد كوبريللي الصدارة العظمى، وقد ساهم وولده أحمد من بعده في إعادة هيبة الدولة، فقد قتل محمد كوبرلي العديد من جنود الإنكشارية حتى تمكن من إخضاعهم. كما تمكن أحمد كوبريللي من فتح قلعة نوهزل شرقي فيينا عام 1663. ثم توفي أحمد كوبريللي في عام 1676، وأصبح قرة مصطفى باشا الصدر الأعظم.
في 31 مارس/آذار 1683، وقع الإمبراطور ليوبولد الأول معاهدة وارسو مع يوحنا الثالث سوبياسكي، ملك بولندا، بشأن الدفاع المتبادل في حالة غزو العثمانيين لمدينة كراكوف البولندية أو فيينا الرومانية.
الإعلان عن تغيير الوجهة.. قرار فردي دون علم السلطان
في أبريل/نيسان عام 1683، تحرك جيش بقيادة السلطان محمد الرابع لإعلان الحرب على ألمانيا، والاستيلاء على مدينة يانق قلعة. ظل السلطان وأبناؤه في بلغراد، واستكمل الصدر الأعظم قرة مصطفى باشا قيادة الجيش من أجل الوصول إلى مدينة يانق قلعة شمالي المجر. رأى مصطفى باشا أن الاستيلاء على تلك المدينة لن يحيد ألمانيا عن التدخل في شؤون المجر؛ لذا اجتمع مصطفى باشا في يونيو/حزيران بمجلس الحرب معلناً نيته الاستيلاء على فيينا.
رغم المعارضة.. بدأ حصار فيينا الشهير
عارض الوزير إبراهيم باشا معللاً ذلك بأن إرادة السلطان كانت إخضاع يانق، ومن المحتمل أن تكون هناك خطط لغزو فيينا في العام المقبل. تمسك قرة مصطفى باشا برأيه فمن الصعب تجميع جيش بنفس القوة مرة أخرى، كما أنه كان خائفاً من التحالفات الأوروبية.
توجه الجيش العثماني المكون من قرابة 160 ألف جندي إلى فيينا دون علم السلطان محمد الرابع، وبدأ حوالي 60 ألفاً منهم حصار فيينا في 14 يوليو/تموز 1683، بينما انتشر 100 ألف على مساحات واسعة. تقهقر شارل الخامس دوق لورين بجيشه إلى شمالي غرب فيينا، وفر الإمبراطور الروماني ليوبولد الأول وبلاطه إلى مدينة لينتس شمالي النمسا.
رغم التفوق العددي، لم يشن الجيش العثماني هجومه
كان عدد المدافعين عن فيينا في البداية 11500 جندياً قتل أكثر من نصفهم. وكنتيجة منتظرة بعد اتفاقية وارسو، قاد سوبياسكي جيشاً يضم 35 ألف جندي واتجه ناحية فيينا المحاصرة، وانضم لجيش ألمانيا، بالإضافة لحوالي 85 ألف جندي مع دوق لورين. نظراً لشجاعته وقدراته التكتيكية أصبح سوبياسكي قائداً للجيوش المتحدة التي أصبح تعدادها حوالي 135 ألف جندي.
ظل قرة مصطفى باشا ينتظر سقوط المدينة دون أن يتدخل أو يهاجم على الرغم من أن قوات الجيوش المتحدة لا تزال خارج فيينا. ويُعزى السبب في هذا إلى بخله وحرصه على ألا ينهب جيشه المدينة، فالقانون الدولي كان ينص على ألا تنهب الدول التي تستسلم بنفسها.
الخيانة في صفوف الجيش العثماني.. هنا كان الانسحاب
كان لفيينا جسر واحد يمكن عن طريقه إيصال المساعدات والإمدادات الحربية، وهو جسر الدونة. ولأهمية الجسر الاستراتيجية من أجل السيطرة على فيينا، كلف قرة مصطفى باشا خان القرم مراد كيراي بحراسة الجسر وهدمه إذا لزم الأمر.
كان اليوم 11 سبتمبر/أيلول، قررت الجيوش المتحدة عبور الجسر حتى مع احتمال تكبد خسائر كبيرة، إلا أنهم عبروا دون أدنى اعتراض من حارس الجسر. فقد كان كيراي يكره قرة مصطفى باشا، وأراد له الهزيمة في فيينا لإسقاطه من السلطة. وأثبتت وثائق الأرشيف البولوني أن الخيانة كانت عمداً، فقد أرسل كيراي رسالة لسوبياسكي يؤكد فيها انسحابه دون قتال، وبذلك أعطاه الضوء الأخضر لعبور الجسر.
كانت المعركة الفاصلة "ألمان داغي" في صباح يوم 12 سبتمبر/أيلول لنفس العام، وانهزمت فيها القوات العثمانية أمام تحالف قوات الإمبراطور الروماني ليوبولد الأول "قوات بولندية وألمانية ونمساوية". جاءت الهزيمة نتيجة انشغال قادة الجيش العثماني بجمع غنائمهم، كما تعرض الجيش العثماني لخيانة ثانية. فقد سحب الوزير إبراهيم باشا قوات الجناح الأيمن الجيش التي كن يقودها، وذلك بسبب معارضته لقرار قرة مصطفى باشا، وعلاقته السيئة معه، ما ترتب عليه انسحاب الجيش العثماني بأكمله بعد تعرضهم للهجوم.
بين العزل والإعدام.. الخونة والصدر الأعظم
عزل إبراهيم باشا؛ لتركه ساحة المعركة دون وجود سبب عسكري، ودون أخذ الإذن من القائد الصدر الأعظم قرة مصطفى باشا. بعد ذلك حكم عليه بقطع رأسه، وأثناء تنفيذ ذلك قال إن لا أحد يستطيع تلافي نتائج الهزيمة سوى مصطفى باشا.
عاد مصطفى باشا إلى يانق قلعة، ومنها إلى إيالة بودين في المجر، وعزل مراد كيراي من منصبه، وعين ابن عمه مكانه. مكث مصطفى باشا في بودين إلى منتصف أكتوبر/تشرين الأول ليعدم مراد كيراي.
تقبل السلطان محمد الرابع خبر الهزيمة، إلا أن زوجة إبراهيم باشا الخائن زيفت رسائل تفيد بعصيان الجيش إذا ظل مصطفى باشا في منصبه. عزل السلطان الصدر الأعظم، وأمر بإعدامه في ديسمبر/كانون الأول 1683.
تحالفات أوروبية جديدة.. ضربات أخرى للقوات العثمانية
بعد معركة فيينا، عقد البابا حلفاً مع الألمان والبنادقة، وروسيا، وبولندا هادفين للسيطرة على المجر وطرد العثمانيين منها. وزع التحالف جهوده على عدة مدن لتشتيت العثمانيين، وبالفعل نجح في توزيع الجيوش العثمانية في أراض متعددة للدفاع عنها. قامت ثورة في إسطنبول نتج عنها خلع السلطان محمد الرابع وتولى أخوه سليمان الثاني الحكم في عام 1689.
بدأت الدولة العثمانية تضعف تدريجياً مع فقدان السيطرة على أجزاء من أراضيها، وتحولت من غازٍ إلى مدافع. في عام 1698 وقع العثمانيون معاهدة كارلوفيتز "كارلوفجة" مع النمسا، والبندقية، وروسيا، وبولندا، وبموجبها تنازلت الدولة العثمانية عن بعض أراضيها لتلك الدول، ولم تعد أي دولة ملزمة بدفع الجزية للعثمانيين.