تعرض حالياً شبكة Netflix مسلسل The Spy (الجاسوس) الذي يمتد لموسمٍ واحدٍ من 6 حلقات، ويتناول سيرة الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين الذي وصل بعلاقته لدوائر صنع القرار في الحكومة السورية بحسب الرواية الإسرائيلية؛ والذي كُشف أمره وحُوكم؛ وأُعدم علناً عام 1965.
"لولا المعلومات التي وفرّها كوهين لكان الجيش الإسرائيلي عانى كثيراً مع سوريا في الجولان".
مساء الخميس 5 يوليو/تموز من العام 2018، يُقام مزاد علني على شبكة الإنترنت. في المزاد يتم عرض ساعة يد شخصية للبيع، يتسابق البعض للحصول عليها، ثم تنالها جهة ما، إلى هنا تبدو الأمور طبيعية، إلى أن انقلبت وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية الإخبارية، يتبارى بعضها في إثبات أن الجهة التي حصلت على ساعة اليد تحقق لها هذا وفقاً لخطة مُحكمة.
سيبدو الأمر مُحيراً في مقدار المبالغة التي نالها، لكن في النهاية ستجد أنه يستحق لو عرفت أن ساعة اليد الشخصية تلك كانت ملكاً للجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين الذي تم إعدامه في سوريا في العام 1965، وأن الجهة التي تمكنت من شراء الساعة في المزاد العلني هي جهاز الاستخبارات الإسرائيلي المعروف بالـ "الموساد".
في ساعة متأخرة من مساء الخميس تكشف إذاعة الجيش الإسرائيلي أن ساعة اليد تلك تم الحصول عليها في عملية استخباراتية، وهي العملية التي وصفها رئيس الوزراء الإسرائيلي بأنها عملية خاصة نفذها عناصر "الموساد" بحزم وشجاعة، كما قام بتهنئة "الموساد" الذي أعاد إلى إسرائيل تذكاراً من مقاتل عظيم قدّم الكثير لتعزيز أمن دولة إسرائيل.
صرحت نادية زوجة إيلي كوهين، قائلة، "إن ساعة يد كوهين تم شراؤها من مزاد علني على شبكة الإنترنت، وأن الموساد أخبرنا قبل عدة أشهر بالحصول عليها، دون معرفة المكان، أو الزمان، والآن، تبين أنها من مزاد علني".
ولد في مصر لأسرة سورية.. لكن الأمور انقلبت رأساً على عقب
الحادثة أعادت إلى الذاكرة الاسم الذي تم تداوله في سوريا على نحو غير مسبوق قبل نحو 53 عاماً، فمن هو كوهين؟
في العام 1924 ولد إيلي كوهين في الإسكندرية بمصر لأسرة سورية، كان هذا تحديداً في يوم 26 ديسمبر/كانون الأول، وأُطلق عليه اسم إلياهو بن شاؤول كوهين، كانت أسرته مُهاجرة إلى مصر من حلب السورية.
التحق في طفولته بمدارس دينية يهودية، وفي مرحلة الجامعة اختار أن يدرس الهندسة بجامعة القاهرة، إلى هذا الحد كانت تسير حياته بشكل طبيعي كيهودي سوري يعيش وأسرته في مصر، ولكن بحلول عامه العشرين بدأ الأمر يختلف بعض الشيء.
انضمام إلى الحركة الصهيونية
بدأت حياته تأخذ منحنيات أخرى بعدما انضم إلى الحركة الصهيونية، والتحق بعدها بشبكة تجسس إسرائيلية بمصر بزعامة أبراهام دار المعروف بجون دارلينغ.
كان دارلينغ يهودياً بريطانياً من الذين عملوا مع "الموساد" عقب تأسيس إسرائيل في العام 1948، قام دارلينغ بالتخطيط من أجل تجنيد الشبان من اليهود المصريين استعداداً للقيام بما قد يطلب منهم من مهام خاصة.
وكان أشهر من نجح دارلينغ في تجنيدهم وتدريبهم فتاة يهودية تدعي مارسيل نينو وكانت آنذاك في الرابعة والعشرين من عمرها، ومعروفة كبطلة أوليمبية مصرية شاركت في أولمبياد العام 1948.
في مصر أجاد إيلي كوهين ثلاث لغات وكان يتحدثها بطلاقة وهي العربية والعبرية والفرنسية، ثم هاجر من مصر نهائياً في 1957 بعد حرب السويس، وكانت أول محطة له بعد مصر هي إسرائيل، حيث عمل في البداية في ترجمة الصحافة العربية للعبرية.
لم يمكث طويلاً في العمل بالترجمة حيث التحق للعمل بالموساد الإسرائيلي وكانت بداية تحديد مهمته التي سيؤديها لـ "الموساد" ويموت أثناء القيام بها.
الهوية العربية المزيفة.. أمين ثابت في المواقع السورية الحساسة
كانت هذه القصة الحقيقة، لكن قطعاً لم تكن الصورة التي عرفها عنها الآخرون، ففي الكواليس ثمة قصة أخرى تطبخ في مطبخ "الموساد" حتى يُزرع في سوريا.
بدأت مهمته بسفره للأرجنتين في العام 1961، وتم تصديره كرجل أعمال سوري اسمه كامل أمين ثابت، له العديد من الأعمال والاستثمارات الناجحة، وهو متحمس بشكل خاص للعمل في وطنه الأصلي سوريا.
وفي بوينس آيرس عاصمة الأرجنتين توثقت صداقة كوهين بالملحق العسكري أمين الحافظ، والذي أصبح رئيساً لسوريا فيما بعد، وفي العام 1962 انتقل كوهين لدمشق حيث وصلت علاقاته لأعلى المستويات وخاصة بين كبار ضباط الجيش ورجال السياسة والتجارة.
اختار كامل أن يكون محل سكنه في حي أبو رمانة المجاور لمقر قيادة الجيش السوري، ومنذ هذا الوقت بدأ في إمداد إسرائيل بمعلومات بالغة السرية حول سوريا، وأرسل إلى إسرائيل معلومات قيّمة حول مراكز ومؤسسات الجيش السوري، ومناطق انتشار الجيش وانتشار الدبابات وتركيز السيطرة والتحكم العسكري، كانت تلك المعلومات بالغة الأهمية إلى الحد الذي جعل رئيس وزراء إسرائيل في حينها، ليفي أشكول، يصرح إنه "لولا المعلومات التي وفرّها كوهين لكان الجيش الإسرائيلي عانى كثيراً مع سوريا في الجولان".
هل المخابرات المصرية هي من كشفته؟ شهادة هيكل وكلمات كوهين الأخيرة
كان كوهين مقرباً من دوائر صناعة القرار بحزب البعث الحاكم والمراكز بالغة الأهمية بسوريا، إلى الحد الذي قيل معه أنه عُرض عليه تولي منصب نائب وزير الدفاع السوري، وكان من الطبيعي حينها أن يُرى كوهين حاضراً في الصور الفوتوغرافية التي توثق عروض مناورات الجيش السوري، وفي كثير من المناسبات كان يُرى دوماً حول الرئيس أمين الحافظ.
وهو ما أدى إلى اكتشافه، حيث يقول الكاتب الصحافي المصري محمد حسنين هيكل أن المخابرات المصرية هي من كشفت الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، عن طريق صورة رآها ضابط بالمخابرات المصرية تجمع بين كوهين والرئيس السوري في أحد العروض العسكرية، وتعرّف من خلالها إلى كوهين الذي كان يعرفه قبلها جيداً، وتم إخطار المخابرات السورية بذلك، حيث خضع كوهين عقب ذلك لمراقبة المخابرات السورية التي اعتقلته وصدر حكم بإعدامه شنقاً في ساحة المرجة في دمشق في 18 مايو/أيار عام 1965
هيكل يتحدث عن اكتشاف إيلي كوهين
"أنا لا أندم على ما قمت به، فقط فعلت ما كان بإمكاني فعله ولم تتح لي الفرصة لفعله، ولكن في بعض الأحيان يفشل الأصدقاء المقربون الذين يستطيعون التصرف"، كانت هي الرسالة الأخيرة التي نقشها الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين على جدران سجنه قبل أيام من إعدامه، وهو الأمر الذي ترى زوجته أن الموساد مسؤول عنه، فتقول: "كانوا يعرفون أنه انكشف ورغم ذلك أجبروه على العودة إلى سوريا للتجسس".
تهوّن الروايات الرسمية السورية من قيمة الجاسوس إيلي كوهين وتنفي معرفة أمين الحافظ به سواء في الأرجنتين أو سوريا، وتقول إن ما أرسله إلى إسرائيل كان في معظمه معلومات عامة، وأنه فشل في اختراق القيادات العسكرية والسياسية حسبما يُشاع، واقتصرت علاقاته على الضابط معز زهر الدين الذي حُكم عليه بالسجن خمس سنوات، إضافة إلى مدني يُدعى جورج سالم سيف.
لكن إسرائيل تعتبر إيلي كوهين إحدى معجزاتها، وأصدرت طابعا بريديا تذكاريا يحمل اسمه وصورته، ويُعتقد أنها تقف خلف إنتاج الفيلم الأميركي الشهير "جاسوس المستحيل" عام 1987 الذي تم تصويره في إسرائيل، كما أنشأت موقعا إلكترونيا رسميا خاصا به باللغة العبرية
حوكم إيلي كوهين فصدر حكم بإعدامه شنقا في ساحة المرجة ونفذ الحكم يوم 18 مايو/أيار، و رغم أن إسرائيل سعت لدى عدد كبير من السياسيين في العالم -بمن فيهم بابا الفاتيكان ورئيس وزراء فرنسا وقتها جورج بومبيدو- محاولة تأجيل تنفيذ حكم الإعدام إلا أن محاولاتها لم تفلح
اشترطت دولة الاحتلال في التسعينيات استعادة رفات كوهين لإجراء محادثات مع سوريا، وراجت أنباء غير مؤكدة تشير إلى أن الرفض السوري للشرط سببه عدم معرفة سلطاتها بمكان الجثة، خصوصا أن مكان دفنها أصبح مجهولا بعد تحريكها من مكانها ثلاث مرات، تفادياً لإمكانية سرقتها من قبل الموساد الإسرائيلي.
وفي مارس/آذار 2016 استغل الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين وجود القوات الروسية في سوريا ليطلب من نظيره الروسي آنذاك فلاديمير بوتين التدخل لدى الحكومة السورية لاستعادة كوهين.