في لوحة رسمها الفنان المُحافِظ جون ماكنوتون يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب مرتدياً بدلة زرقاء، ويبدو شبيهاً، عن غير عمد على ما يبدو، برئيس مجلس النواب الأميركي السابق نيوت غينغريتش، وممسكاً بعلم أميركا منسدلة أنسجته وهو يقف وسط ملعب كرة قدم ممتلئ بالجماهير.
تحمل هذه اللوحة اسم "احترموا العلم" (Respect the Flag)، وتستحضر الاحتجاجات التي قام بها عدد من لاعبي كرة القدم الأميركية ضد الظلم العنصري أثناء عزف النشيد الوطني.
ففي فبراير/شباط الماضي، تحدى شون هانيتي، المعلق السياسي في قناة Fox News، مَن لاموه لانتقاده اللوحة. غرَّد هانيتي عبر حسابه على موقع تويتر قائلاً: "اليسار يحبون الفن، لاسيما الفن الذي يُموِّله دافعو الضرائب ويكون 'استفزازياً'".
كانت رغبة هانيتي لإلصاق "الفن" بـ"اليسار" تعبيراً طبيعياً عن الحروب الثقافية التي يشنها الرئيس، والتي حوَّلت أكثر الظواهر الاجتماعية تعبيراً عن أميركا -المتمثلة في كرة القدم الأميركية، ومسلسلات السيت كوم (كوميديا المواقف)، وشبكة ESPN، بل وحتى المتاجر الشاملة– إلى ساحات لخوض المعارك الحزبية. لكن في خضم دوامة الفوضى والصخب التي تسببها إدارة ترمب، تضيع حقيقة لامبالاة إدارة ترمب وحزبه بالفنون، سواء باعتبار تلك الفنون كياناً مُمولاً من الدولة أو كمنصةً للقيم الأميركية.
الفنون.. آخر اهتمامات ترمب
ذكر موقع Artsy الأسبوع الماضي أنَّ وزارة الخارجية الأميركية لم تختر بعد فناناً أميركياً لتمثيل البلاد في معرض "بينالي البندقية" في إيطاليا، الذي يُفتَتح في مايو/أيار 2019.
عادة تعلن البلاد عن ممثليها قبل عام على الأقل، ما يمنح الفنانين وقتاً لتصميم وتنفيذ أعمال جديدة للمشاركة في ما يُنظَر إليه على نطاق واسع باعتباره أبرز معرض فنون دولي على مستوى العالم.
ثمة شيء وثيق الصلة على نحوٍ خاص بموضوع هذا العام، الذي يحمل أيضاً عنوان "لتحيوا في أزمنة مثيرة للاهتمام" (May You Live in Interesting Times)، وهو أنَّ المعرض سيضم "أعمالاً فنية تتأمل الجوانب غير المستقرة للوجود في عالمنا اليوم، بما في ذلك التهديدات المختلفة للتقاليد الأساسية والمؤسسات، وعلاقات نظام ما بعد الحرب"، حسبما أوضح منسق المعرض رالف روغوف.
كان يُعلَن عن الفنانين الأميركيين المختارين للمشاركة في المعارض السابقة، والذين ضموا مارك برادفورد وجوان جوناس وسارة سزي، قبل عام كامل على الأقل من افتتاح المعرض.
والآن بعد فوات ذلك الموعد، يظن العاملون في وزارة الخارجية والمطلعون على قضايا الفنون أنَّ الاختيار سيقع بكل وضوح على فنان مؤيد لترمب -مثل ماكنوتون أو ربما سكوت لوبايدو، الذي يصف نفسه بـ"الفنان الوطني" من جزيرة ستاتن والمشهور بنُصبه المنحوت على هيئة حرف T (الحرف الأول من اسم ترمب) بارتفاع 16 قدماً (5 أمتار تقريباً) ويحمل خطوطاً ونجوماً تصور علم البلاد- ليحظى بهذه الفرصة.
يتساءل البعض، بمن فيهم نيت فريمان، الصحفي في موقع Artsy، إن كان سيقع الاختيار على فنان من الأساس، وذلك تمشياً مع رئيسٍ أبدى تجاهلاً للفنون والمشاركة في المحافل الدولية.
وعنده مفهوم غريب للثقافة
"يبدو ترمب مشوشاً تماماً حتى عند تعريف كلمة الثقافة"، هكذا تقول فيرجينيا شور، وهي رئيسة سابقة لمنسقي برنامج "الفنون في السفارات" التابع لوزارة الخارجية الأميركية، الذي ومنذ عام 1963 خصَّص موضوعات الفنون الأميركية للسفارات والقنصليات الأجنبية باعتبارها وسيلة للدبلوماسية العابرة للثقافات.
تضيف فيرجينيا: "أتمنى أن يقضي الرئيس وقتاً في متحف أو معرض ويتعلم المعنى الحقيقي للثقافة". وبالنسبة لرجلٍ عاش معظم فترات حياته في مدينة نيويورك، لم يول ترمب اهتماماً خاصاً بمشهدها الفني الغني.
قال ضمن حديث سابق تعليقاً على مقطوعة Ring Cycle للمؤلف الموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر: ".. لن أكررها أبداً". وقال أيضاً عن لوحة The Holy Virgin Mary للفنان كريس أوفيلي، التي حاول منعها عمدة نيويورك آنذاك رودي جولياني: "أشياء فاضحة ومنحلة تماماً". بل وكُشِف زيف لوحة الفنان أوغست رينوار التي يقتنيها ترامب، بعدما قال متحف الفن في شيكاغو إنَّ اللوحة الأصلية مُعلَّقةً في معرضه.
بالنسبة للكثيرين، تتعارض فكرة توقُّف اختيار ممثل الولايات المتحدة في ما يُعرف بـ"أولمبياد الفن" على ولائه للرئيس تماماً مع روح المعرض، الذي يُشكِّل نوعاً من التعبير البصري عن قيم البلاد، ومنصةً لـ"أفضل وألمع" ما لديها، على حد قول كريستوفر بيدفورد.
فكَّر بيدفورد، الذي نسَّق معرض برادفورد في بينالي 2017 في "الحرية، والمساواة، والعدالة من أجل الجميع" عندما قاد تقديم معرض برادفورد. على الجانب الآخر، لم يخفِ ترمب نفوره من الفنون التي تمولها الحكومة، و"هوليوود الليبرالية"، وبالتبعية مجتمع الفنون المناهض لترمب في معظمه.
وينتقده الفنانون في أعمالهم
ظهر غلاف مجلة New York Magazine لعام 2016، من تصميم باربارا كروغر، وقد وُضِعَت عليه كلمة Loser (الخاسر أو الفاشل) -وهي كنية أثيرة يُلقَّب بها الرئيس- لتعلو صورة غير محببة ومُقربة لوجهه.
تضم الأعمال البارزة الأخرى لوحة Money Shot – Blue Balls للفنانة جوديث بيرنستين، التي يظهر فيها ترمب بجوار صور قضيبية وكلمة Trumpenschlong (قضيب ترمب). وتوجد أيضاً سلسلة الفنان الأميركي ذي الأصول الإثيوبية إيوول إريزكو بعنوان Make America Great Again، التي يظهر فيها شعار المجموعة الثورية القوية لذوي البشرة السوداء في أميركا، حزب الفهود السوداء، مطبوعاً على رموز من ضمنها العلم الأميركي.
وفي شهر أغسطس/آب من العام الأول لترمب في الرئاسة، استقال جميع الـ16 فناناً ومؤلفاً ومعمارياً في لجنة الرئيس للفنون والعلوم الإنسانية احتجاجاً على مراوغات ومواربات ترمب بعد مسيرة النازيين الجدد في مدينة شارلوتسفيل. وردَّ متحدثٌ باسم البيت الأبيض بأنَّ الرئيس كان يعتزم حلّ اللجنة على أي حال.
وعندما طلب البيت الأبيض لوحة من أعمال الفنان فان جوغ من متحف سولومون غاغينهايم من أجل تزيين أماكن إقامة الرئيس، قُوبِلت الطلبات بالرفض من جانب المتحف وقدَّم القائمون على إدارته بدلاً من ذلك مرحاضاً مصنوعاً من الذهب عيار 18 من أعمال الفنان ماوريتسيو كاتيلان.
واقترح ترمب، في خططه لموازنة 2018 و2019، إلغاء تمويلات الصندوق الوطني للفنون (National Endowment for the Arts) والصندوق الوطني للعلوم الإنسانية (National Endowment for the Humanities)، ليكون أول رئيس يقترح علناً القيام بذلك منذ تأسيس هذه الهيئات عام 1965. وفي نهاية المطاف، مرر الكونغرس مشروع قانون للإنفاق بزيادة طفيفة في التمويلات بقيمة 3 ملايين دولار لكلا الصندوقين.
هل على الدولة أن تمول الثقافة؟
بالرغم من أنَّ رئاسة ترمب ربما تشهد تصعيداً في التوتر بين عالم الفن والحكومة الفيدرالية، إلا أنه يصعب اعتباره النزاع الأول من نوعه. فرغم أنَّ الصندوق الوطني للفنون والصندوق الوطني للعلوم الإنسانية يُشكِّلان معاً ما نسبته عُشراً فقط من 1% من الموازنة الفيدرالية السنوية، فإنَّ الجهود لادخار هذه التمويلات وعدم إنفاقها على الفنون تشتد وتهدأ منذ الثمانينيات.
فعندما تولى رونالد ريغان رئاسة الولايات المتحدة في عام 1981، خطط للتخلص من كلا الصندوقين تماماً، لكنَّه مُنِع عندما مارست قوة عمل خاصة ضغوطاً عليه لصالح الصندوقين.
وبعد عقدٍ من ذلك، ورداً على مقال لاذع للناقد الفني روبرت هيوز نُشِر في مجلة Time، حيث وصف فيه هيوز محاولات التيار اليميني التخلص من الصندوق الوطني للفنون بأنَّه "تساقط الأوراق الثقافية"، انتقد نيوت غينغريتش الصندوق الوطني للفنون والصندوق الوطني للعلوم الإنسانية ومؤسسة البث غير الهادفة للربح Corporation for Public Broadcasting ووصفها بأنَّها برامج مُدلَّلة، وليست أبقاراً مقدسة.
كتب غينغريتش أنَّ بعض الأعمال الفنية المدعومة حكومياً "مصممة بكل وضوح لتقويض حضارتنا"، في إشارة إلى صورة Piss Christ للمصور أندريس سيرانو، التي مولتها أموال الوقف الوطني للفنون، وتُصوِّر صليباً بلاستيكياً بحجم 13 بوصة مغموساً في البول.
تُستحضر الصورة في الغالب باعتبارها هراوة سياسية في الحروب الثقافية، وتُفهَم من جانب المحافظين المتشددين على أنَّها دليل على وجود حاجة لفصل الفن عن الدولة.
في مقال جدلي في عام 2017 ضد الفنون التي يمولها دافعو الضرائب، لم يتطلَّب الأمر من جورج ويل، الصحفي المحافظ الفائز بجائزة بوليتزر، سوى الانتهاء من أول جملتين فقط في المقال حتى يصف صورة Piss Christ بـ"القمامة".
وقبل 20 عاماً، ندَّدت مؤسسة التراث الأميركية (Heritage Foundation)، وهي مركز بحث مُحافِظ التوجه، بـ"رفاهية النخب الثقافية" التي أتلفها "فيروس متأصل يُسمَّى التعددية الثقافية"، وهو اتهام يبدو اليوم أنَّه كان رسالة مُوجَّهة للأميركيين الذين ساعدوا في انتخاب ترمب.
يُستثنى بدهاء من كل الجدال الدائر ضد وجود هذا الصندوق أنه يمول برامج للعلاج بالفن مُخصَّصة لأفراد الجيش -فضلاً عن تمويله مشروعات في مختلف الدوائر الانتخابية في البلاد- الكثير منها تكون مجتمعية وقد تتوقف عن العمل بدون تمويلات الصندوق الوطني للفنون.
يقول بيدفورد، الذي يدير حالياً متحف بالتيمور للفن: "يوجد تصور بين هؤلاء الذين يميلون بطريقة ما نحو اليمين بأنَّ عالم الفن مجال مُدِرّ للنقدية قادر على تمويل نفسه ذاتياً بدلاً من كونه مدعوماً من جانب الدولة بأي صورةٍ كانت". لكن، بحسب بيدفور، الفن "ضروري ولا غنى عنه باعتباره رعاية صحية عقلية، أو رعاية صحية، أو تعليماً. ومن ثَمَّ ينبغي أن يكون هناك استثمار حكومي لا يتعلق فقط بتوفير الدعم من أجل الفنون، بل وإمكانية وصول الجميع إليه كذلك".
رئيس لا يهمه سوى الربح..
ترمب محكوم بالنفعية السياسية. ونتيجة لذلك، نجح في غرس بذور الخلاف حيثما يحقق له ذلك أكبر المنافع، ويثير في الوقت نفسه غضب قاعدته على أشد ما يكون: احتجاجات النشيد الوطني، وحمّامات المتحولين جنسياً وأداؤهم للخدمة العسكرية، ومسلسل Roseanne، وإيقاف متاجر شركة "Nordstorm" لخط إنتاج الملابس الخاص بابنته، وموضوعات المجالات الآمنة (من التحيُّز والصراع والتهديدات على سبيل المثال)، وإطلاق التحذيرات.. وتطول قائمة المظالم البسيطة التي يتسلَّح بها لتكون ذخيرة انتخابية له.
من المتوقع إذاً أن يصبح بينالي البندقية، الذي تدعمه وزارة الخارجية جزئياً، جبهةً أخرى في هذه الحروب الثقافية، ما يمنح الرئيس فرصة لإلصاقه بمجتمع يعتبره أنصاره تافهاً ومترفعاً. لكن الأكثر ترجيحاً هو أن يكون المعرض استمراراً للانفصال بين إدارة ترمب والفنون.
وبعد ثمانية عشر شهراً في المنصب، لم تمنح إدارة ترمب أي جائزة وطنية للفنون أو العلوم الإنسانية، وهو تقليد للبيت الأبيض يعود إلى الثمانينيات. ومع هذا، منحت إدارته أوسمة الخدمة العسكرية وهيئات إنفاذ القانون، وهو نموذج يوحي بأنَّ ترمب يتمسك بالمعتقدات الرئاسية التقليدية فقط إذا كانت ستعزز قاعدته الانتخابية.
ووفقاً لتصور ترمب، ورواية هانيتي، ليس الفن سوى هوة بين تلك القاعدة الانتخابية وتيار اليسار، أو إدراك يمكن استخدامه لإقناع مجموعة من الأميركيين بأنَّهم مختلفون كلياً عن أي شخص آخر.
تحولت تغريدة هانيتي في نهاية المطاف إلى مادة ساخرة واسعة الانتشار، تسخر من فكرة أنَّ الفن نشاط حزبي عن طريق استخدام صور الممثل الأميركي جيف غولدبلوم في هيئة قنطور أو صورة لسبونج بوب ببطن منتفخة. لكن في بلدٍ غارق في صراع ثقافي مثلما حدث في أوج الحروب الثقافية خلال عهد ريغان، يمكن أن يصبح الفن كذلك. وربما لا يمكن تفويت الفرصة لتوظيف فعالية على قدرٍ كبيرٍ من التميز مثلما هو الحال مع بينالي البندقية.