في 26 يوليو/تموز قبل 62 عاماً، وتحديداً في العام 1956، أعلن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، خلال الاحتفال بالذكرى الرابعة لثورة يوليو/تموز، انتقال ملكية الشركة العالمية لقناة السويس البحرية إلى الحكومة المصرية، وبموجب هذا القرار تنتقل إلى الدولة جميع ما لها من أموال وحقوق وما عليها من التزامات.
ففي خطابه الذي استغرق ساعتين ونصف بمدينة الإسكندرية، قال عبد الناصر إن قانون التأميم قد نُشر بالفعل في الجريدة الرسمية، وإن جميع أصول الشركة في مصر قد جُمدت، وسيدفع المساهمون ثمن أسهمهم وفقاً لأسعار بورصة باريس.
قرار الرئيس المصري الراحل بتأميم شركة قناة السويس، جاء بعد انسحاب بريطانيا وأميركا من تمويل مشروع السد العالي، وهو المشروع الذي وافق الاتحاد السوفييتي على تمويله في وقت لاحق، وتجدر الإشارة إلى أن مصر مُنحت امتيازاً بضمان مصرية القناة بعد مرور 99 عاماً من افتتاحها، وعليه فقد كان من المقرر أن تعود القناة إلى الحكومة المصرية في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1968.
ما قبل التأميم.. خلاف عالمي على القناة
افتُتحت قناة السويس الملاحية في العام 1869، بعد 10 سنوات من العمل الممول من الحكومتين الفرنسية والمصرية، تم تشغيلها من قِبل الشركة المصرية المستأجرة لقناة السويس البحرية، وبقيت المنطقة المحيطة بالقناة أرضاً مصرية ذات سيادة والجسر البري الوحيد بين إفريقيا وآسيا، وكانت أيضاً أقصر ممر مائي بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، وعليه فقد مثَّلت طريقاً حيويًا للدول التجارية.
استمر حفر القناة طوال عقد كامل، وقد مات الآلاف من العمّال أثناء حفرها؛ حيث ذكر عبد الناصر خلال خطاب التأميم أن أكثر من 120 ألف مصري لقوا حتفهم في أثناء حفر قناة السويس.
بعد 6 سنوات من افتتاحها الرسمي، باعت مصر حصتها إلى الحكومة البريطانية؛ لتسوية الديون المتعثرة، وقد كان البريطانيون متحمسين للشراء، حيث حصلوا على 44% من القناة بأقل من 4 ملايين جنيه إسترليني. وبعد احتلال بريطانيا لمصر في العام 1882، سيطرت على البلاد ككل وعلى قناة السويس أيضاً، وذلك على الرغم من أن اتفاقية 1888 للقسطنطينية أعلنت القناة منطقة محايدة تحت الحماية البريطانية، وقد وافقت الإمبراطورية العثمانية على السماح بالعبور البحري الدولي بِحُريَّة عبر القناة في أوقات الحرب والسلام، ولكن خلال الحرب العالمية الأولى أغلقت بريطانيا وفرنسا القناة في وجه السفن غير المتحالفة، وعندما حاولت القوات الألمانية – العثمانية اقتحامها في فبراير/شباط 1915، تصدت لهم القوات البریطانیة بقیادة جون ماكسویل بجیش قوامه 30 ألف جندي.
استمرت سيطرة بريطانيا على مصر والقناة حتى وُقعت معاهدة 1936، التي نصت على حق بريطانيا في الاحتفاظ بقاعدة جوية وحربية لها في منطقة القناة، واستفادت بريطانيا من قواعدها بالقناة في أثناء اندلاع الحرب العالمية الثانية.
قرار التأميم كان رد فعل على مشروع السد العالي!
بعد اندلاع ثورة يوليو/تموز 1952، طالبت الحكومة المصرية بجلاء القوات البريطانية عن قاعدتها في قناة السويس، وتمخضت تلك المطالبات المصرية عن التوصل للاتفاقية المصرية – البريطانية للجلاء، وذلك خلال في العام 1954، ونصت على انسحاب القوات البريطانية من مصر على مراحل، وذلك خلال 20 شهراً، كما نصت أيضاً على بقاء مناطق محدودة في قاعدة قناة السويس، مهمتها الرئيسية الدفاع عن مصر في حالة وقوع هجوم مسلح عليها من دولة خارجية، هذا بالإضافة إلى ضمان حرية الملاحة في القناة.
في أواخر العام 1955 وبداية العام 1956، أجرت مصر مباحثات مع البنك الدولي للإنشاء والتعمير، وتم الاتفاق على إعطاء الحكومة المصرية قرضاً بقيمة 200 مليون دولار من أجل بناء السد العالي. وفي البداية، أبدت حكومتا الولايات المتحدة وبريطانيا استعدادهما لتمويل المشروع وتقديم قرض بقيمة 70 مليون دولار من أجل المساهمة في تنفيذ المرحلة الأولى من المشروع، ولكن الولايات المتحدة الأميركية أعلنت في 19 يوليو/تموز 1956 سحب عرضها السابق لتمويل السد العالي؛ بسبب عدم اقتناعها بقدرة مصر على توفير الأموال اللازمة للمشروع، وبناء عليه اتخذ جمال عبد الناصر قراره المنفرد بتأميم قناة السويس؛ رداً على البنك الدولي وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية.
العدوان الثلاثي.. 9 أيام من الحرب
جاء قرار عبد الناصر المفاجئ بتأميم قناة السويس كأنه تحدٍّ للغرب؛ ولذلك وكرد فعل على القرار الذي اتخذه بشكل منفرد دون استشارة الحكومة أو حتى المؤسسة العسكرية، أعلنت فرنسا وبريطانيا رفضهما الاعتراف بقرار التأميم، كما أعلنتا أنهما ستتخذان كل التدابير اللازمة لحماية مصالحهما وسلامة رعاياهما، وبعد ذلك جمدت بريطانيا الأرصدة الإسترلينية لمصر، وقامت فرنسا والولايات المتحدة بالإجراءات نفسها.
وفي أغسطس/آب 1956، اجتمع وزراء خارجية بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة واقترحوا عقد مؤتمر دولي تحضره الدول الموقعة على معاهدة الأستانة والدول الأخرى، ورفضت مصر حضور المؤتمر، واشتدت حدة المعركة الدبلوماسية بين الدول الثلاث ومصر، حتى عُرضت المشكلة أمام مجلس الأمن الدولي، الذي اعتمد قراراً لتسوية المشكلة، واشترط له عدة بنود؛ منها ضمان حرية الملاحة، واحترام سيادة مصر، وضرورة ابتعاد إدارة القناة عن سياسة أي دولة، وصرحت وزيرة الخارجية الإسرائيلية آنذاك غولدا مائير أنها لن تقبل بأي صيغة عامة للملاحة في قناة السويس لا تذكر إسرائيل بشكل صريح.
بعد فشل جميع المفاوضات، بدأ التحرك العسكري من بريطانيا وفرنسا لضرب مصر بالاتفاق مع إسرائيل، وتجسد هذا التحرك في العدوان الثلاثي على مصر في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1956، والذي انتهى في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1956.
أميركا لعبت على مصالحها فوقفت مع مصر وطالبت بإنهاء الحرب
فوجئت إدارة الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور بالعدوان الثلاثي على مصر دون استشارتها أو إعلامها مسبقاً بالأمر؛ وعليه فقد مارست ضغوطاً كبيرة على بريطانيا وفرنسا وإسرائيل من أجل الانسحاب السريع من منطقة قناة السويس ومدينة سيناء.
وقد ذكر السفير الإسرائيلي في واشنطن أوبري سوليمون مائير إيبان – الشهير بـ"أبا إيبان" -، أن الرئيس الأميركي آيزنهاور عقد في 30 أكتوبر/تشرين الأول 1956، اجتماعاً خاصاً بينه وبين الزعيم الإسرائيلي أدلي شلومو هيلل، شدد فيه على ضرورة الانسحاب الإسرائيلي من مصر، ثم حذر آيزنهاور من أنه في حال كان هناك تلاقٍ في المصالح بين إسرائيل والجانب البريطاني والفرنسي حالياً، فإن مستقبل إسرائيل وقدرتها مرتبطان بالولايات المتحدة، وعليه قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون، التفاوض في النهاية من أجل الانسحاب.
وتجدر الإشارة إلى أن آيزنهاور تعمَّد عزل إسرائيل عن نزاع القناة؛ خوفاً من أن يؤدي النزاعان المصري – الإسرائيلي؛ والأنغلوفرنسي – المصري، إلى إشعال الشرق الأوسط؛ ولذلك قام الرئيس الأميركي بإمداد إسرائيل بكمية محدودة من الأسلحة خلال شهري أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول؛ تجنباً لنشوب حرب مصرية -إسرائيلية، ولأنه كان يعلم أن إمداد إسرائيل بالكثير من الأسلحة سيحسم الحرب لصالح إسرائيل.
من ناحية أخرى، أدركت الولايات المتحدة أن قرار عبد الناصر تأميم القناة حظي بشعبية واسعة لدى الشعب المصري وجميع الشعوب العربية؛ ومن ثم تصاعدت شعبية عبد الناصر بقوة، ولذلك حاولت الولايات المتحدة تجنُّب خيار الحرب؛ خوفاً من استدعاء عبد الناصر القوميين العرب أو استعانته بالاتحاد السوفييتي، الذي كان سيستغل الموقف لصالحه بكل براعة؛ وعليه فقد أسرعت الولايات المتحدة بالتدخل لحل الأزمة.
نتائج العدوان الثلاثي على الدول الغربية
كان للعدوان الثلاثي على مصر نتائج وآثار بالنسبة لسياسة الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط؛ فقد اعتبرت الولايات المتحدة أن فشل بريطانيا وفرنسا أنشأ فراغاً يمكن أن يملأه الاتحاد السوفييتي، الذي كان يعتمد حينها على بناء علاقات سياسية واقتصادية مع دول المنطقة مثل مصر وسوريا، كما كان لدى واشنطن قناعة مترسخة بأن القومية العربية تُزعزع استقرار الأنظمة الموالية للغرب، في حين تتفق أهدافها إلى حد كبير مع أهداف الاتحاد السوفييتي.
ثم بدأت الولايات المتحدة معركتها الخاصة من أجل محاربة نفوذ وتوسُّع الناصرية؛ ما أدى إلى دمج لعبة التحالفات والنزاعات الإقليمية الداخلية داخل نزاع الشرق والغرب؛ وعليه فقد جاء مبدأ أيزنهاور، الذي أعلنه في 5 يناير/كانون الثاني 1957، والذي ركَّز من خلاله على الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط بعد حرب السويس، وأهمية سد الفراغ الذي نتج في المنطقة.
وقد نص المبدأ على تفويض الولايات المتحدة باستخدام القوة العسكرية في الحالات الضرورية لضمان السلامة الإقليمية، وحماية أي دولة من دول الشرق الأوسط. وقد لاقى مبدأ آيزنهاور معارضة كبيرة من مصر وسوريا؛ لأنه سيؤدي إلى تقسيم الدول العربية إلى فريقين متضاربين؛ أحدهما مؤيد لهيمنة الولايات المتحدة والغرب، والآخر خاضع للاتحاد السوفييتي، وقد ندد عبد الناصر بهذا المبدأ، ووصفه بأنه يهدف إلى ربط المنطقة بالولايات المتحدة.
وبالنسبة لنتائج الحرب على الجانبين البريطاني والفرنسي، فقد كانت حكومة الولايات المتحدة غاضبة من أن بريطانيا وفرنسا وإسرائيل تصرفت دون استشارتها، وهدَّدت الدولَ الثلاث جميعها بعقوبات اقتصادية إذا لم تنسحب على الفور من المنطقة، وقد تسببت تلك الحرب في زعزعة النفوذ البريطاني والفرنسي كقوى عالمية، وهزت عرش إمبراطوريات الدولتين الاستعماريتين اللتين تفككتا على مدى العقد التالي للحرب.
وشهد العالم صعود حقبة الهيمنة الأميركية في الشؤون الدولية، واستقال رئيس الوزراء البريطاني أنطونى إيدن، بعد الحرب بسبب فشله، وخلفه هارولد ماكميلان، الذي ظل رئيساً للوزراء حتى العام 1963.