منذ سنوات، تفقد أحمد الجلاد بريده الإلكتروني.. وتحمَّس أستاذ اللغة العربية واللغويات الساميَّة في جامعة لايدن الهولندية لدى رؤيته رسالةٍ تلقاها، تحتوي على عدّة صورٍ لصخور. كانت الصور- التي أرسلها معلّم الجلاد، مايكل ماكدونالد، العالم في جامعة أكسفورد والذي يدرّس علم النقوش – لآثارٍ من موقع اكتشافٍ أثري حديث في الأردن.
ولفت ماكدونالد انتباه الجلاد إلى صخرةٍ صغيرة معيّنة، تغطيها علاماتٍ تُشبه الحرف الروني القديم أحد رموز البطرفة، وهي أسلوب كتابي يُطلق على السطور التي تلتفُّ إلى لأمام والخلف "مثل ثورٍ يدور في الحقل". وكانت النقوش على الصخور مكتوبة بالصَّفائية، وهي أبجدية ازدهرت في شمال شبه الجزيرة العربية منذ قرنين مضيا، وينضمُّ الجلاد وماكدونالد لعددٍ قليلٍ جداً من الأشخاص الذين يمكنهم قراءتها. وخلال دقائق من بدئه تفريغ النص، استطاع الجلاد أن يلاحظ أن الصخرة كانت جزءاً أساسياً من أحجية تاريخية عكف على العمل عليها لسنوات.
ويُعتبر تاريخ شبه الجزيرة العربية قبل ميلاد الإسلام لغزاً عميقاً، في ظلِّ وجود مصادر قليلة مكتوبة تصف البيئة التي كان يعيش فيها الرسول محمد. وظلَّ المؤرخون لفترةٍ طويلة يعتقدون أنَّ البدو الرحالة، الذين عاشوا في هذه المنطقة، ألفوا شعراً باهراً لتسجيل مفاخر قبائلهم لكن لم يكن لديهم وسيلة لتدوينه. ومع ذلك، أحرز العلماء في السنوات الأخيرة تقدّماً كبيراً في تفسير كيف استخدم متحدثو اللغة العربية القديمة أحرف أبجدياتٍ أخرى لتدوين كلامهم. وتشمل هذه الأبجديات، اليونانية والآرامية وكذلك الصَّفائية؛ وقد كانت الصخرةُ، التي وجدها ماكدونالد، واحدةً من أكثر من 50 ألف نصّاً مماثلاً وُجِدَت في صحراء جنوب الشام. ولا تُشبِه رموز الصَّفائية على الإطلاق الأسلوب المتدفق المُتصِل والمتناسق الذي تُكتب به حروف اللغة العربية. ولكن حين تُقرأ عالياً، تُميّز بأنَّها شكل من أشكال العربية. قديمة، لكنها واضحة بشكلٍ كبير للمتحدث المعاصر.
وجاء في النقوش على صخرة ماكدونالد اسم شخصٍ يُدعى "غيار آل ابن غوث/Ghayyar'el son of Ghawth"، بالإضافة إلى قصة ودعاء. وكانت القصة هي التي استرعت انتباه الجلاد. وبقراءتها بصوتٍ عالٍ، لاحظ تسلسل من الكلمات مكرَّر ثلاث مرات، رجَّح أنَّها سطورٌ لنصٍّ شعري؛ ما يجعلها أقدم تعبيرٍ أدبي مُسجَّل ومعروف في اللغة العربية، وكذلك دليلٌ، برغم ضآلته، على تقليدٍ شعري مكتوب لم يُكتشف سابقاً.
من هو الجلاد؟
وُلِد الجلاد، البالغ من العمر 32 عاماً، في مدينة سولت ليك سيتي الأميركية. ترك والده الأردن، وسافر إلى الولايات المتحدّة الأميركية للالتحاق بالجامعة، حيث قابل والدة الجلاد – وهي من ولاية تكساس – في جامعة ويبر ستيت في ولاية يوتاه. انتقلت العائلة إلى الكويت العام 1989، لكنها عادت إلى الولايات المتحدة بعد عامٍ، جرّاء اندلاع حرب الخليج الأولى، واستقرَّت قرب مدينة تامبا في ولاية فلوريدا. وقال الجلاد "لم نكن نتحدث العربية في المنزل؛ لأنَّ والدتي لا تفهمها. كانت صلتي الوحيدة بالشرق الأوسط من خلال الكتب التي تتناول الحضارات القديمة".
أثناء مراهقته، كان Noah's Flood، أحد الكتب المفضّلة للجلاد.. وهو دراسة تناقش بأنَّ روايات الفيضان في الإنجيل، وملحمة جلجامش وغيرها من النصوص القديمة، استُلهِمَت من فيضان البحر الميت تقريباً سنة 5600 قبل الميلاد. وقال الجلاد: "هذا المزيج من علم الآثار والجيولوجيا واللغات القديمة أبهرني. لم تكن لديّ فكرة ما إذا كانت الدراسة صحيحة، لكنني أُسِرت".
وأثناء سنوات دراسته في جامعة جنوب فلوريدا، حصل الجلاد على وظيفة في مكتبة داخل الحرم الجامعي وقرأ كل ما وقعت عليه يداه من مؤلفات حول حضارات الشرق الأدنى. وقال الجلاد: "حاولتُ تعلم اللغة الأكّدية حتى أتمكن من قراءة النص الأصلي لملحمة جلجامش، لكني لم أحرز الكثير من التقدم". وراسلت أساتذة الدراسات السامية عبر البلاد طالباً النصح. وردّ جميعهم: لا أحد يبدأ بالأكّدية، عليك تعلُّم العبرية القديمة والعربية الفصحى والسريانية أولاً". فقضى عامين في دراسة هذه اللغات بنفسه في المكتبة، وبعد التخرُّج، قُبِلَ في برنامج للحصول على الدكتوراه من جامعة هارفارد الأميركية، في فقه اللغة السامية التاريخي والمقارن.
وأصبح الجلاد الآن أحد أبرز العلماء في العالم في العربية القديمة، ويترأس بعثات استكشافية في الشرق الأوسط. ويُعرب الجلاد عن ثقته في أنًّ العلماء سيتمكنون قريباً من معرفة بدايات تاريخ الإسلام، مستخدمين في ذلك أدلة تعود لفترة ميلاد الرسول. وقال: "سنجد نصوصاً من فترة حياة النبي محمد. أنا متأكد مئة بالمئة من هذا. إنَّها مسألة وقت فحسب".
صادر نصوص الصفّائية
وبدأت جهود تفسير رموز نصوص الصَّفائية في ربيع عام 1857، حين انطلق شاب اسكتلندي يُدعى سيريل غراهام من القدس في جولةٍ حول سوريا. ومِثل كثير من الأوروبيين الذين يزورون الأرض المقدّسة، كان غراهام مهتماً بالآثار الإنجيلية، والتي كتب عنها عام 1858، قائلاً إنَّها ستُقدّم البرهان على "الدقة الراسخة للمؤرخ الديني". وخلال سفره عبر الصحراء، عَلِمَ من المرشدين البدو أنَّ هناك مرتفعاً بركانياً يُطلق عليه الحارة، محفور عليه نقوش صخرية غريبة. ثم قاده المرشدون إلى أطراف الصفا، وهي منطقة بركانية جنوب شرق دمشق. وبعد هبوط الليل، غادر غراهام المخيم، أثناء نوم المرشدين، وتحت ضوء القمر اكتشف سهلاً مغطى بصخور منقوشة.
وقال: "حملقتُ في هذه الصخور الرائعة، وحاولت أنَّ اتخيل أي نوع من الناس عاشوا هنا منذ قرون مضت وانهمكوا في حفر هذه الرموز المثيرة. ما معنى هذا كله؟".
وأعلن اكتشافه في الجمعية الجغرافية الملكية في بريطانيا، وأعقب ذلك بعثات استكشافية أخرى. وفي العام 1877، نجح مستشرق من مدينة إدرنة أثناء العهد العثماني في فكّ رموز أغلب الأبجدية مسلطاً بذلك انتباهاً مشوشاً على لغة النقوش. ولكن حتى مع ازدياد النص وضوحاً، ظلت مصادره تُمثل لغزاً. وفي هذا الصدد، قال الجلاد: "العلماء الأوائل الذين عملوا على النقوش فعلوا ذلك مستندين إلى الانطباعات. كانوا يعتمدون تقريباً على قواميس العربية الفصحى، لفكّ رموز النصوص، أو يسألون البدو في المنطقة ما الذي تعنيه. وهذا سيّئ".
وعلى مدار قرنٍ من الزمن، ظلت الصَّفائية ركناً خفياً من علم دراسة النقوش العربية، وهو مجال غير معروف للكثيرين بالفعل. ولكن في العام 2007، حين وصل الجلاد إلى هارفرد، كان المجال قيد التحوّل. إذّ كان التصوير الرقمي يحقق أرباحاً باهظة من بيانات النقوش التي أصبحت متاحة للعلماء، وازداد بشكل هائل عدد النصوص الصَّفائية التي اكتُشِفَت في الشام، متجاوزة بكثير كمية النقوش اللاتينية المُسجَلَة في بومباي، أشهر مصادر الإمبراطورية الرومانية لفن الجرافيتي. حتى أنَّ بعض النقوش الصَّفائية وُجِدَت في بومباي، على حوائط خارج مسرح صغير، على الأرجح نقشها أعضاء عرب في الجيش الروماني.
وجمع مايكل ماكدونالد مجموعة كبيرة من الصور لهذه النصوص، ودشّن قاعدة بيانات رقمية للنقوش الصَّفائية بمساعدة ليلى نعمة، وهي أثرية فرنسية وواحدة من كبار خبراء العالم في النقوش العربية القديمة.
وفي العام 2013، استخدم الجلاد قاعدة بيانات النصوص الصفائية بينما كان يعمل على نقشٍ يضمُّ الكثير من الكلمات الغامضة مثل: Maleh ،Dhakar وAmet.
وافترض علماء سابقين أنَّ هذه أسماء أماكن غير معروفة. ولكن الجلاد، والذي لم يكن مقتنعاً بهذا التفسير، بحث في قاعدة البيانات بأكملها واكتشف نقشاً آخر يحوي هذه الكلمات الثلاث. وكان النقشان يتحدثان عن الهجرة بحثاً عن الماء، لذا خطر إليه احتمال: إذا كان النصّان يشيران إلى مواسم الهجرة، فربما تكون هذه الأسماء الثلاثة هي لمجموعاتٍ نجمية كانت ظاهرة وقتها.
وبدأ الجلاد بجمع كل نقش يتحدث عن الهجرة بحثاً عن المطر، وسرعان ما أصبحت لديه قائمة طويلة من المصطلحات التي استعصت على الترجمة. وبمقارنتها مع الأبراج الفلكية اليونانية والآرامية والبابلية، بدأ الجلاد يجد بعض المفاتيح. وجد كلمة Dhakar تتفق مع dikra، وهي المقابل الآرامي لبرج الحمل. ووجد أيضاً أنَّ كلمة Amet مُشتَقة من فعل عربي، يعني "حساب أو قياس الكمية"، وهو مقابل جيد لكّفّتَيْ برج الميزان. وبحثاً عن برج الجدي، المجموعة النجمية على شكل حامر، اكتشف الجلاد كلمة يُحمُر في قاموس عربي إنكليزي لإدوارد لين، ومُترجمة بأنَّها "حيوان معيّن في البحر، أو…نوع من الماعز الجبلي".
وقضى الجلاد ليلته يفحص قاعدة البيانات ويبحث عن الكلمات في قواميس اللغات السامية القديمة. وبحلول الصباح، كان قد تمكّن من فكّ رموز مجموعة فلكية عربية كاملة لم تكن معروفة سابقاً. وقال "كنَّا نظنها أسماء أماكن، وكانت كذلك إلى حدٍّ ما. كانت أسماء أماكن في السماء".
قالت إحدى الشخصيات الأثرية الخيالية إن علم الآثار يعني البحث عن الوقائع، لا الحقائق. وفي إعادة صياغة لتاريخ شبه الجزيرة العربية، طعن البحث الأثري في صحة بعض الروايات الراسخة لدى المسلمين حول ظهور الإسلام. إذّ أنَّ العصر، الذي سبق بعث الرسول محمد، معروف في العربية باسم الجاهلية. وقال فريد دونر، المؤرخ بجامعة شيكاغو الأميركية، "إنَّ الرواية الإسلامية عن عصر الجاهلية هي ملحمة عن الوثنية المُتحَجِرة، ما يؤكد الاختلاف بين ظلام عدم الإيمان والنور الذي جاء به الإسلام لشبه الجزيرة العربية". يرى العلماء أمثال الجلاد ودونر هذا الرأي، الذي لا يزال سائداً، نتاجاً للمفكرين المسلمين في القرون الوسطى الذين كتبوا التاريخ من خلال عدسات المعتقدات الأرثوذوكسية. ويجادل العلماء بأنَّ الجاهلية الحقيقية كانت لديها على الأرجح نقاط مشتركة مع الإسلام، أكثر مما كان يُعتقد سابقاً.
ويقول دونر في هذا الإطار: "لديّ شكوك بأنَّ بعض الكتابات البدائية والتي نفترض أنَّها إسلامية – لأنَّها تستخدم لغة تبدو وكأنَّها تشير إلى القرآن – تعود في واقع الأمر لعصر ما قبل الإسلام. ربما هذه هي الطريقة التي تحدث بها الناس عن الدين في مهد الإسلام". فيما يؤكد علماء آخرون على ضرورة توخي الحذر. فبحسب بيتر ويب، عالم في الأدب العربي الكلاسيكي في جامعة لايدن الهولندية، فإن "أيّ معلومات يمكن أنَّ نحصل عليها من هذه النقوش الصَّفائية، حول القرون السابقة للإسلام، من شأنها مساعدتنا؛ لأننا نفتقر تقريباً لأيّ أدلة تجريبية".
الفكرة القائلة بأنَّ جوانب من الإسلام تعود جذورها إلى ثقافات عصور ما قبل الإسلام ليست محل خلاف؛ إذ يُلمِّح القرآن لوجود روابط بينه وبين الحنيفية، الدين التوحيدي لإبراهيم عليه السلام. لكنَّ علم التوحيد التقليدي في الإسلام، بجانب بعض الأبحاث العلمية الغربية، يعتبر ميلاد الإسلام بمثابة انفصال تام عن ماضي العرب. ولكن بالنسبة للجلاد، فالدليل المنقوش، والذي يحوي العديد من الإشارات لأممٍ وأحداثٍ وأماكن تظهر في القرآن وغيره من الروايات الإسلامية الأولى، يُشير إلى العكس: تطور الأفكار والمُمارسات العربية وليس الانفصال. وقال الجلاد: "هذه الفئة من المجتمع يُمكن أنَّ تكون مُشابهة إلى حدٍ كبير لأتباع القرآن الأوائل. تُخبرنا النقوش ما كان عليه عالمهم".
إتفاقٌ فرنسي – سعودي بأكثر من 20 مليار دولار
يتزامن البحث الذي أجراه الجلاد مع إحياء الاهتمام الإقليمي بالعصور الأولى من التاريخ. وفي وقتٍ سابق من العام الجاري، وقعَّت الحكومة الفرنسية مع المملكة العربية السعودية اتفاقية – يُشاع أنَّ قيمتها تبلغ أكثر من 20 مليار دولار- لبناء منطقة جذبٍ سياحية على أرض مستوطنةٍ في مملكة الأنباط القديمة. وسيُستكمل هذا العمل موجة التنقيب التي بدأت في السعودية في الثمانينيات، والمدعومة من الثروة النفطية وتتحرَّك بدافع الرغبة في إظهار أنَّ للدولة ماضٍ عريق في عصر ما قبل الإسلام. وعلق الجلاد عن هذا الأمر قائلاً: "يبني السعوديون قصة لوطنهم، إذ يمنح هذا البحث شبه الجزيرة العربية وضعاً مختلفاً في الشرق الأدنى القديم، بحيث لا يقتصر هذا على إيران، والعراق، وبلاد الشام التي كانت تحظى بحضاراتٍ عظيمة". هذا وقد استضافت العديد من دول الخليج العربي أعمال التنقيب خاصتها في العقود الأخيرة؛ ووصف روبرت هويلاند، أستاذ علم الآثار في جامعة نيويورك، تلك الجهود باعتبارها رداً على عمليات البناء والتشييد الجنونية في البلدان التي دخلت حديثاً عالم الثراء مثل دبي وقطر. وقال هويلاند: "كل تلك الحكومات تملك أموالاً لتنفقها، وكلها تريد أن تُثبت أنَّها أقدم من غيرها".
لن تسعد كل تلك البلدان بالكيفية التي يُعيد بها البحث الجديد كتابة المفاهيم القديمة؛ ففي علم التاريخ والمعتقدات التقليدية الشائعة، يُعتقد أنَّ جنوب شبه الجزيرة العربية هي الموطن الأول للعرب، ومصدر لأنقى صور اللغة العربية. وفي هذه الرواية، وُلدت اللغة العربية في عمق شبه الجزيرة وانتشرت مع الفتوحات الإسلامية؛ وباعتبارها حلقة وصل بين اللغات الأخرى، فقد انحدرت بشكلٍ تدريجي إلى اللهجات العربية المُتحدَّث بها اليوم. ولا تزال اللغة العربية الفُصحى الرمز البارز لثقافةٍ عربية مًوحدَّة، والمؤشر الأساسي على الفصاحة والتعلُّم. وبالنسبة للجلاد، تُشير النقوش الصفائية إلى أنَّ العديد من الأشكال القديمة للغة العربية كانت موجودة قبل عدة قرون من ظهور اللغة العربية الفُصحى، في دولٍ مثل سوريا والأردن. ويجادل الجلاد بأنَّ اللغة ربما تكون نشأت هناك ومن ثمَّ نزحت جنوباً، مُقترحاً أنَّ الأشكال "المُحرَّفة" من اللغة العربية المُتحدَّث بها في مختلف أنحاء المنطقة ربما – في الواقع – يكون لها جذورٌ أقدم من اللغة العربية الفُصحى. ويقول إن ماكدونالد أخبره أن نظريته "ستقابل حتماً كثيراً من المعارضة، ولأسباب غير أكاديمية في الأساس. لكنَّها تُصبح مُقنعةً أكثر فأكثر".
رحلة اكتشافٍ تكلّلت بالنصر
حين أرسل ماكدونالد صورة الصخرة المنقوش عليها القصيدة الشعرية، أرفق معها إحداثيات تحديد الموقع الجغرافي، وقرر الجلاد أنّه قد يبحث عنها. وفي أبريل/نيسان من العام الماضي، رافقه كاتب هذه السطور، ويُدعى الياس مهنا، إلى صحارى شرق الأردن، وانضمّ إليهم علي المناصر، وهو عالم آثار في جامعة أكسفورد، وشابٌ ريفي من بلدةٍ مجاورة، يُدعى أحمد.
ويقول مهنا: بعد قيادة دامت ساعات على طول الطريق، المكوّن من حارتين من عمان إلى بغداد، انعطفنا إلى جانب الطريق وأوقفنا الشاحنة. لم يكن هناك ما يُمكن رؤيته على امتداد أميالٍ سوى صخور البازلت رمادية اللون، والمثقوبة كحجر الخُفاف الإسفنج. وشرح الجلاد أنَّ النقوش تميل إلى التجمّع على أرضٍ مرتفعة، حيث يتسنَّى للرعاة البدو مراقبة الضواري بسهولة. وفي مساحةٍ أرض طبيعية لا تحوي أثراً صغيراً آخر للحضارة الإنسانية، احتفظت الصخور بأسماء البدو وأنسابهم، إلى جوار وصفهم لحيواناتهم، والحروب التي خاضوها، ورحلاتهم، وطقوسهم. كانت هناك صلواتٌ لآلهتهم، ومخاوفٌ من قلة الأمطار، وشكاوى تتعلَّق بوحشية الرومان.
وفي وادٍ صغير، كان هناك قبرٌ قديم محاطٌ بركام من الحجارة متداعي، ومرعى صحراوي من نبات القراص والأزهار البرية الزرقاء الصغيرة. مشى الجلاد صوب لوحٍ من البازلت على شكل رأس سهمٍ ضخم، مُغطَّى بالنقوش. وبينما كان أحمد على مقربة، جلس في وضعية القرفصاء وقرأ بصوتٍ عالٍ النقوش المكتوبة "Li 'Addan bin Aws bin Adam bin Sa'd, wa-ra'aya ha-d-da'na bi-qasf kabir 'ala akhihi sabiy "fa-hal-Lat fasiyyat. وتقول العبارة المكتوبة إنَّ حفيد رجلٍ يُدعى آدم جلس في يومٍ ما في هذا المكان، ورعى أغنامه؛ كان ينتابه الحزن لأجل أخيه الذي أسرَته قبيلة مُعادية، وصلَّى من أجل إطلاق سراحه للإلهة "اللات" –إحدى الأصنام التي عبدها العرب قبل الإسلام. وبينما يقرأ الجلاد النقوش، حدَّق الفلاح مُذهولاً من أنَّ تلك العلامات تُشكِّل لغةً يمكنه فهمها بصورةٍ أو بأخرى.
وعلى مدار ثلاثة أيامٍ، مشى أعضاء بعثة الجلاد عبر قمم التلال، مُسجلين آلاف النقوش الصفائية الجديدة. وحول ما تبقَّى من ركام الأحجار، كانت هناك نصوص محفورة في كل مكان، وفنٌ صخري أيضاً يشمل رسومات لأسودٍ تقفز على الخيول، ومُحاربينَ بحوزتهم أقواساً ورماحاً، وغزلان، ونعام، وراقصين مع المزامير. كانت النقوش، كما أوضح الجلاد، شكلاً من أشكال صناعة النصب التذكاري. وقال: "هي لا تبدو تذكارية لأعيننا، وذلك يعود إلى أن فكرتنا عن تلك الأثرية مستوحاة من النموذج اليوناني – الروماني، حيث تكون النصب التذكارية أنيقة، وتأخذ شكلاً مُربعاً".
وعلى ما يبدو أنَّ المناصر، العالِم الأردني الذي قام بعشرات الرحلات في مختلف أنحاء المنطقة، لديه خريطة ذهنية للتلال التي تفقَّدها باحثون سابقون، تعود إلى القرن التاسع عشر. وفي مناسباتٍ قليلة، حين اقترح أحدهم تلةً قريبة، حدق المناصر بها وهزّ رأسه. وقال "نُشِرَت سابقاً". ورغم ذلك، فإنَّ الوعد بالتوصل لاكتشاف بدَّل تعابير وجه الجلاد. وقال لي المناصر في عصر أحد الأيام: "في الصحراء تشعُر بأنَّك إنسانٌ بالكامل. كل جزء في جسدك يعمل؛ تتضاعف حواسك، وتفكر، وتتحرَّك".
وفي اليوم الثالث، في مكان ليس ببعيدٍ عن ذلك القبر على قمة التلة، عثر الجلاد على نصٍ جاء في نهايته "نرجو ألاَّ تكون هذه الكتابة خفية". كان هذا توسلاً اعتيادياً إلى الله، لكنَّه سجَّل على الفور أنَّه كان يفقد أداةً نحوية مُحدّدة. وقال مُسجلاً ملاحظته "لم نرَ شيئاً كهذا من قبل". وبعد ساعاتٍ قليلة، وَجَد كلمة "intasa" والتي لم تظهر في الأرشيف (السجلات والوثائق التاريخية). وصاح بعدها قائلاً: "كلمة جديدة!". واقترح أبو بشَّار، السائق البدوي، أنًّها تعني "أن تُنسى بعد أن ذاع صيتك يوماً ما". وطلب منه الجلاد وضعها في جملة، رغم حذره من تكرار أخطاء أسلافه المتمثلة في الاستعانة بالبدو المحليين في تفسير الكلمات المُكتشفة.
وبمساعدة إحداثيات الموقع الجغرافي من ماكدونالد، عثرنا على القصيدة في قمة إحدى التلال. كانت محفورة على حجرٍ في حجم صندوق الأحذية، وكان أحد جوانبها مُغطَّى بكثافة بالنقوش. التقطها الجلاد ودرس خصائصها، مُتتبعاً الحروف بإصبعه ومحولاً الصخرة بين يديه ليتبع النص الهائم. بدأت القصيدة بذكر نسب غيار آل ابن غوث، الذي "ترجَّل إلى المرج يبحث عن خاله". وفي منتصف النص كُتبت ثلاثة أبيات شعرية، قرأها الجلاد بصوت عالٍ، مرةً باللغة العربية، ثمَّ قرأها مُترجمة:
ليكون وقوفه فقط من أجل الحرب
لذا دعوا هنا هذا اليوم ليكون المعسكر الأخير
صيته الأهم!
لذا دعوا هنا هذا اليوم ليكون المعسكر الأخير
أولئك الذين يعودون وهم يُعانون
لذا دعوا هنا هذا اليوم ليكون المعسكر الأخير
May his halting be only for war
So let here this day be the final encampment
Foremost fame!
So let here this day be the final encampment
Those who return suffer
So let here this day be the final encampment
حدَّق الجلاد بصمتٍ في الصخرة ثم أشاح بوجهه إلى أعلى، مُبتهجاً بالنصر. انحدرنا من التلة، متناوبين على حمل القصيدة، ووضعناها داخل الشاحنة، لأخذها إلى إحدى المتاحف في الأردن. وقال لي الجلاد: "إنَّه واحد من الأماكن الوحيدة في العالم، حيث يمكنك إجراء استكشافات أثرية بالغة، بمجرّد الذهاب في جولة. هناك توجد الكنوز في كل مكان. لست بحاجة إلى الحفر؛ إنَّها موجودة على مرأى العين".