بشعورهم الشقراء الذهبية، وملامح البريئة كانوا يشكلون جانباً إنسانياً لافتاً في حياة الزعيم النازي، لم يكونوا من صلبه ولكنْ أحبَّهم كأبنائه، وبالفعل دفعوا ثمناً باهظاً كأنهم أبناؤه أو حتى أكثر.
ففي اليوم الأخير من شهر أبريل/نيسان عام 1945، وبعد يومين فقط من إعدام رفيقه الإيطالي بنيتو موسوليني في أشهر ميادين ميلانو. أيقن الفوهرر أدولف هتلر أن الهزيمة أصبحت محتومة، وأنه لا مفر من التخلص من حياته؛ حتى لا تكون نهايته مثل موسوليني.
أدى انتحار هتلر إلى انفراط القيادة الألمانية، بعد أن حاول أغلب المسؤولين والجنرالات إنقاذ أنفسهم؛ لأن عقاب الحلفاء سيكون قاسياً جداً. وبالفعل، هرب كثير منهم، وانتحر بعضهم أسوة بالفوهرر.
لكنَّ وزير دعايته جوزيف جوبلز وزوجته أرادا لأنفسهما نهاية أكثر مأساوية حتى من هتلر، الذي انتحر برفقة صديقته إيفا بروان بعد زواجهما. أما آل جوبلز، فقررا أن يلحقا بهتلر ومعهما أبناؤهما، في عمل يحطم المفاهيم المتعارف عليها للغرائز البشرية.
لماذا اعتبرها هتلر أسرة نموذجية؟
من بين جميع قادته المقربين منه، كان جوزيف جوبلز، وزير دعاية هتلر، أقرب شخص إليه، وكانت عائلته، المكونة من 6 أطفال، بمثابة النموذج الذي يُقدَّم للأسرة الألمانية النازية التي يجب أن يحتذي بها الجميع.
تزوج جوزيف جوبلز بماريا ماجدالينا ريتشل عام 1931، كان لديها ابن من زواج سابق، في ذلك الوقت كان نجم أدولف هتلر والحزب النازي يعلو حتى سيطر على السلطة عام 1932، ولكونه لصيقاً به والرجل الذي وجّه الرأي العام الألماني نحو تأييد الفوهرر، أصبح جوزيف جوبلز ثاني أشهر شخصية في الرايخ الألماني.
كانت ماجدالينا جوبلز شديدة الولاء للرايخ ولهتلر، ربما أكثر من زوجها، وبعد زواجهما قررا أن يكونا معاً الأسرة النازية النموذجية، التي بدآها بولادة هيلغا عام 1932، وبعد 8 سنوات كانت الأسرة قد كبرت وضمت 5 أطفال، بدأت أسماؤهم كُلهم بحرف الهاء -هيلغا، هايدغارد، هليموت، هولدين، هيدويغ، هايدرون- كدلالة حب وإعزاز للقائد والفوهرر أدولف هتلر.
6 أطفال كُلهم بشعر أشقر وعيون زرقاء، مثَّلوا برفقة والدَيهم الأسرة الألمانية المثالية التي كان يصدِّرها هتلر للعامة. كانت عائلة جوبلز مادة دعائية ممتازة للنظام النازي، فهم أطفال من نسل آري عريق، رغم أنه كان هناك بعض التشكيك في أن والد ماجدالينا جوبلز كان يهودياً، الأمر الذي كان كفيلاً لتدمير تلك الصورة برمتها.
لكن في النهاية، لم تحظَ أي أسرة في النظام النازي بتلك الشهرة التي حظي بها آل جوبلز، يُرجع بعضهم الأمر إلى الصداقة الوطيدة بين جوبلز وهتلر، حيث كان الأخير يقضي في منزل جوبلز أوقاتاً عدة، الأمر الذي لم يفعله مع أي من قادته الآخرين.
كانت هيلغا، الابنة الكُبرى لجوبلز، هي المفضلة لدى هتلر، وكثيراً ما التُقطت الصور لهما معاً، حتى إن البعض قالوا لو أن هتلر كان أصغر بـ20 عاماً، وكانت هيلغا في عمر العشرين، لربما نشأ بينهما تجاذب رومانسي.
لكنّ آخرين يُرجعون تعلُّق هتلر بها وبأشقائها إلى كونه لم يُرزق بأطفال من إيفا براون صديقته ثم زوجته، ولم يكن أي من قادته مقرَّباً له مثلما كان جوبلز؛ لذا كان أولاده يُعدّون أبناء مباشرين لهتلر كأنهم من صلبه هو.
معه حتى في القبو السري بينما الجنرالات الآخرون يهرِّبون أبناءهم
حين شعر هتلر بقرب النهاية، ومع دخول السوفييت برلين في أوائل عام 1945، طلب من قادته أن يرافقوه إلى مخبئه أسفل مقر المستشارية، حيث كان يدير الأمور ويحرك الجيوش.
اللافت أن آل جوبلز فقط هم من طلب منهم هتلر أن يعيشوا معه بالقبو، في حين هرّب باقي قادة النازية عائلاتهم وأولادهم إلى خارج ألمانيا؛ لحمايتهم من المصير المشؤوم الذي ينتظر الرايخ.
ولكن، يبدو أن هذا كان من سوء حظ الأطفال الأبرياء.
هل كانوا يعلمون ماذا سيحدث لهم بسبب العم هتلر؟
وفقاً لشهادة ترودل يانج، آخر سكرتيرة خدمت هتلر في أيامه الأخيرة، والتي كانت مسؤولة عن رعاية أطفال جوبلز الستة طوال الأشهر الأربعة الأخيرة، لم يكن الأطفال على علم بالمصير الأسود الذي ينتظرهم بناء على قرار الزوجين جوبلز، كانوا فرحِين ومبتهِجين.
لقد اتخذت الأم قرارها بالفعل قتل بناتها الخمس وابنها الوحيد؛ لإنقاذهم من عالم "دون فوهرر لقيادتهم وتوجيههم".
في اليوم الذي انتحر فيه الفوهرر، وبعد أن اتخذ جوزيف وماجدالينا جوبلز قرارهم، كان الكبار من حولهم يحاولون إسعادهم وإضحاكهم؛ حتى لا يدركوا ماذا يُحاك لهم، وحدها هيلغا كانت تشك في الأمر، كأن الصغيرة شعرت بما يُدبّر لها ولإخوتها.
تلك النقطة كانت محور الكتاب الذي ألَّفته الكاتبة والباحثة إيما كرايج، من خلال مذكرات المربية كاثي هوبنر التي كانت تعمل عند عائلة جوبلز في السنتين الأخيرتين للحرب العالمية الثانية والتي نُشرت بعنوان "ابنة وزير الرايخ"، والذي كتبت فيه أحداث الأيام الأخيرة في حياة هيلغا جوبلز وإخوتها من منظور هيلغا.
أرادت كرايج، من خلال إعادة كتابة مذكرات هوبنر، أن تفهم مشاعر هيلغا في تلك اللحظات المصيرية، وهي تستشعر الخطر المحدق بها، وتستشعر الغدر والخيانة من قِبل والديها تجاهها وتجاه إخوتها، وليس لديها القدرة على أن تبوح بما تشعر به لإخوتها كي تحذرهم، وهل كانت على علم بما يحدث حولها من أحداث سياسية، وعلى علم بالكارثة القادمة لعائلتها وبلدها.
طاردت الطبيب في أرجاء القبو
في شهادته التي أدلى بها بعد الحرب، أفصح الدكتور هيلموت كونز، الذي كان أحد الأطباء المقربين من هتلر، عما دار في اللحظات الأخيرة من حياة أبناء جوبلز الستة، جاءت شهادته على النحو التالي:
"قرب نهاية أبريل/نيسان 1945، جاءت ماجدا جوبلز إليَّ وقالت: (أريد مساعدتك في قتل الأطفال)، رفضت الأمر تماماً؛ لأني فكرت حينها في ابنتَيَّ الصغيرتين اللتين قُتلتا قبل أشهر في غارة أميركية.
أصرت ماجدا على الطلب، ثم أعلنتها صراحة أن الأمر لم يعُد طلباً؛ بل أمر مباشر موجَّه إليَّ من قِبل هتلر.
وقال الطبيب للمحكمة إنه هرب من القبو، لكن تم تعقُّبه بواسطة ماجدا بعد ساعات، والتي قالت له إنه يجب عليه العودة وإلا فسيصبح رجلاً ميتاً.
في الأول من مايو/أيار، كان الأطفال موجودين في غرفة واحدة، وبقلب ميّت أخبرتهم والدتهم بأن الطبيب هنا ليعطيهم دواء يأخذه كل من الأطفال والجنود ليكونوا في أتم عافية، حقنتُ الأطفال بالمورفين واستغرق الأمر مني 10 دقائق.
بعدها، دخلت ماجدا جوبلز الغرفة وفي يدها كبسولات السيانيد، ظلت دقائق ثم خرجت وهي تبكي وتخبرني بأنها لا تستطيع أن تفعلها، أخبرتها بشكل قطعي بأني لن أقوم بالأمر، قالت لي: إن لم تنفذ الأمر، فأحضر دكتور شتومبفيجر".
وبالفعل، كان شتومبفيجر هو الذي نفذ العملية، وهو طبيب مقرب من هاينريش هيملر رئيس قوات الأمن الخاصة المعروفة باسم "SS".
سُحقت كبسولات السيانيد بين أسنان الأطفال، وبعد ذلك، أطلق غوبلز النار على زوجته ثم على نفسه.
أما الطبيب هيلموت كونز، فقد غادر المخبأ ثم قبض عليه السوفييت، وتم نقله جواً إلى موسكو، حيث أُدين بالعضوية في الـ"SS" والحزب النازي.
وفي عام 1959، بألمانيا، أوقف قاضيان، كلاهما عضو سابق في الحزب النازي، محاكمة ضد كونز، معتبرين أنه لم يكن لديه "خيار" سوى إطاعة الأوامر.
وتوفي كونز، الطبيب الذي كلف بإعدام الأطفال بالسيانيد، على فراشه حراً في عام 1976، بينما نثر الجيش السوفييتي في نهر بالقرب من برلين رماد أطفال جوبلز مع رماد والدَيهم والفوهرر، اللذين اعتقدا أنه لا يمكن لهما ولأبنائهما العيش من دونه.