عندما عبر الرئيس الكوري الجنوبي "مون جي إن" حدود كوريا الشمالية كأول رئيس لهذا البلد تطأ قدمه الشطر الشمالي تحولت خطوة قدمه هذه لواحدة من أشهر الخطوات التي تمت تغطيتها إعلامياً للتاريخ، ولكن لم تكن هذه أول مرة يدخل فيها هذا الرجل كوريا الشمالية.
نعم ركزت وسائل الإعلام على أنها أول زيارة لرئيس كوري جنوبي للشمال منذ الحرب الحرب الكورية، ولكنها لم تكن كذلك بالنسبة لمون جي إن لأنه ببساطة من مواليد كوريا الشمالية.
ولولا المأسي التي مر بها كغيره من أبناء الشعب الكوري بقسميه الجنوبي لكان مواطناً في كوريا الشمالية وأحد رعايا رئيسها كيم جونغ أون.
ولكن بدلا من ذلك فإن مون صافح نظيره الشمالي في لقاء تاريخي بين رئيسي الكوريتين على الحدود في الرابع من مايو/أيار عام 2018، في إطار محاولات الصلح بين البلدين، وطرح فكرة نزع السلاح النووي في كوريا الشمالية.
نجح اللاجئ الذي هرب مع والديه من كوريا الشمالية في تحقيق هذا الإنجاز الذي قد يفتح الباب لتحقيق السلام بشبه الجزيرة المقسمة قبل أن يتم عامه الأول فقط في الحكم.
وعلى عكس نظيره الشمالي ليس مون جي إن سليل عائلة عريقة، ولكن برغم من أصوله المتواضعة، إلا أنه استطاع شق صفوف الجماهير العادية، ليصبح أول رئيس كوري جنوبي يتقدم قي اتجاه إرساء دعائم السلام بين الشقيقتين الكوريتين.
الحرب التي شردت أسرته وقلبت حياته
في أحد ملاجئ توطين اللاجئين بجزيرة جيوجي بكوريا الشمالية، وُلد مون جاي، الذي يبلغ من العمر 65 عاماً في الرابع والعشرين من شهر يناير/كانون الثاني عام 1953 .
والده يُدعي مون يونغ هيونج، وأمه كانغ هان أوك، ويحتل مون جاي الترتيب الأول بين خمسة إخوة.
عانى والده كثيراً في مستهل حياتهم حيث فروا من مقاطعة هامغيونغ الجنوبية قبل هجوم الشتاء الصيني في عام 1950 خلال الحرب الكورية، إلى كوريا الجنوبية في مُحاولة لإبعاد العائلة عن الفقر.
لكن في المهجر الجديد عانت العائلة من ضيق المعيشة بسبب صعوبة الحياة في مراكز اللاجئين، ولطالما تندر مون جاي ببدايته المتواضعة وعمل والدته في بيع البيض للإنفاق على الأسرة.
اللاجئ الذي درس القانون ورفض الظلم كاد يقاتل بلاده السابقة بسبب شجرة
انتقلت الأسرة من ملاجئ اللاجئين إلى مدينة بوسان، وهناك قضى مون جي إن طفولته الأولى، حتى التحق بمدرسة كانغنام الثانوية ثم جامعة "كيونغ هي" لدراسة القانون في سيول عاصمة كوريا الجنوبية عام 1972، ليصبح طالباً ناشطاً ضد النظام المستبد.
فقبض عليه خلال قيادته مظاهرات الاحتجاج ضد الرئيس بارك تشونج ليُعاقب بالفصل من الكلية، علاوة على سجنه لأسابيع قصيرة.
بعد فصله من كلية الحقوق تطوع لتأدية الخدمة العسكرية، وتم تجنيده للجيش عضواً في القوات الخاصة، ليشارك في عمل عسكري نادر في عام 1976 عرف باسم "عملية بول بونيان" وقع بسبب شجرة.
فقد قتل جنود كوريون شماليون اثنين من الجنود الأميركيين في المنطقة منزوعة السلاح، بسبب تقليمهما لشجرة تعوق الرؤية أمام مراقبي الأمم المتحدة، بينما قال الشماليون إنها زرعت من قبل زعيم البلاد آنذاك كيم إل سونغ.
ورداً على ذلك حشدت الولايات المتحدة وكوريا قوة ضخمة في منطقة الحادثة تحميها مقاتلات وقاذفات نووية لنزع هذه الشجرة، وكان الهدف من العملية الرد على مقتل الجنديين الأميركيين دون وصول الأمور للحرب .
تاريخه منعه من أن يصبح قاضياً
لم يكن الجيش يلبي طموحات مون جي إن فاستقال منه، ليستأنف دراسته القانونية وينجح في اجتياز اختبارات نقابة المُحاماة.
ثم استطاع أن يلتحق بمعهد البحوث والتدريب القضائي، وأن يتخرج بتقديرات عالية، إلا أن تاريخه الطلابي الثائر ضد الحكم وقف عائقاً أمامه في تقلد منصب القاضي الذي كان يطمح به.
ولكن هذا الظلم الذي تعرض فتح له طريقاً آخر لم يكن يتصور أنه سيجعله واحداً من أشهر الشخصيات في تاريخ كوريا.
إخلاصه لصديقه يفتح له باب القصر الرئاسي لأول مرة
تعاون مون في بداية مشواره المهني مع مُحام صديق وهو روه مو هيون، جمعهما قاسم كبير في الأفكار والقيم والقضايا المشتركة.
ثم افتتحا سوياً مكتب مُحاماة جعل همه الشاغل أن يتولى قضايا الطلاب والعُمال وحقوق الإنسان، ثم امتد نشاطه إلى رئاسة جمعيات حقوق الإنسان في بوسان. ولم يكن يعرف مون جاي أن صديقه روه سيكون له بالغ الأثر في حياته القادمة.
تدرج روه هيون في المناصب الحزبية حتى قرر الترشح للرئاسة عام 2002، ليُسند مهمة إدارة حملته الانتخابية إلى صديقه مون جاي.
بدأ فصل جديد تماماً في مسيرة مون جي إن بعد فوز روه بمنصب الرئيس؛ فبعد تولي صديقه السلطة عينه رئيس طاقم مساعديه، واستمر مون في التدرج في العديد من المناصب خلال تلك الفترة، من سكرتير الرئيس للشئون المدنية إلى رئيس لجنة القمة الثنائية بين الكوريتين.
انتحار رفيق كفاحه بعد اتهامات بالفساد يقلب معادلة حياته
بعد انتهاء فترة الحكم الرئاسي للصديق روه، عاد كل منهما إلى الانخراط في العمل الخاص مرة أخرى في عام 2008. وفي عام 2009، وجهت بعض الاتهامات نحو روه بالتورط في قضايا فساد ورشوة رئاسية، ليلجأ روه إلى الانتحار مُعلناً في رسالة تركها وراءه أنه اختار الرحيل للحفاظ على ما تبقى من سمعته بعد تدهور صحته.
ووفاء لذكرى صديق عمره، تقلد مون جاي منصب رئيس مؤسسة روه مو هيون، للحفاظ على ذكراه ومُتابعه تنفيذ رؤيته وأفكاره.
خسارته للمعركة الرئاسية الأولى تعيد تنصيبه زعيماً
على مدى السنوات اللاحقة انخرط مون جي إن في العمل السياسي بشكل أكبر، بعد أن اكتسب تأييداً شعبياً ليفوز بمقعد العضوية في هيئة الحزب الديمقراطي المتحد عام 2012.
في العام نفسه، وتحديداً في سبتمبر/أيلول عام 2012 شارك في معركة الإنتخابات الرئاسية ضد خصمه بارك جيون هاي مُرشح حزب الحرية، وضد آهن تشول سول مُمثل حزب البرمجيات المستقلة، لكنه خسر تلك المعركة لصالح بارك.
ومع ذلك، استمر مون في العمل الحزبي، فانتُخب زعيماً للتحالف السياسي الجديد من أجل الديمقراطية "حزب مينغو" في فبراير/شباط 2015.
المحكمة الدستورية تقيل الرئيس بالإجماع والطريق يفتح أمامه
قضايا الفساد التي ترتبط بالرئيس السابق بارك جيون، أدت إلى إقالته من منصبه رئيساً للجمهورية بالإجماع من قبل أعضاء المحكمة الدستورية في ديسمبر/كانون الأول من عام 2016.
وبعد إقالة بارك أصبح الطريق مُمهداً مرة أخرى لمون جي إن للترشح للرئاسة، ليفوز بها في الانتخابات العاجلة التي أقيمت بعدها ليصبح رئيساً لكوريا الجنوبية في عام 2017، وبالتحديد في يوم 10 مايو/أيار الذي سيحتفل فيه قريباً بذكرى مرور عام على توليه الحكم.
كلل مون عامه الأول من إدارة البلاد بنجاح دبلوماسي مُبهر وغير مسبوق، كونه أول رئيس لكوريا الجنوبية تطأ قدمه أراضي كوريا الشمالية منذ الحرب عام 1953.
وفتحت القمة التاريخية عهداً جديداً للمصالحة الوطنية والسلام، حسب وصف وكالة أنباء كوريا الشمالية الرسمية، وتعهد خلالها زعيما شطري كوريا بالعمل على إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية، وهو يعد مؤشراً على أن كوريا الشمالية مستعدة للتخلي عن أسلحتها النووية.
كما اتفق الطرفان، بحسب بيان مشترك عقب القمة، على الدفع باتجاه تحويل الهدنة التي أنهت الحرب الكورية عام 1953 إلى معاهدة سلام هذا العام.
هل يحصل على نوبل؟
إذا كان كفاح مون المرير قد مكنه من التغلب على الصعوبات طيلة حياته وأوصله لهذه التاريخية، ولكن مازال أمام مهمة صعبة جديدة، إذ يتوسط لعقد قمة بين رئيسين صعبي المراس ومتقلبين هما كيم جونغ أون رئيس كوريا الشمالية ونظيره الأميركي دونالد ترمب، واللذين كانا مولعين بتبادل التهديدات والتفاخر بالقدرات النووية التي يسيطران عليها.
وإذا نجح اللقاء فسيصبح علامة فارقة في تاريخه لن ينساها شعبا الكوريتين وقد تضعه في مقعد متقدم محتمل لنيل جائزة نوبل للسلام.