تتحدَّث الأشجار -أقدم الكائنات الحية على الأرض- لغةً صامتة راقية وتنقل معلوماتٍ مُعقَّدة عبر الشم والتذوق والنبضات الكهربائية، وتستطيع بفضل هذا التواصل من التعاون وتكوين حياة اجتماعية!، وهذا العالم السري المذهل من الإشارات هو ما كشفه عالم الغابات الألماني بيتر فوليبن في كتابه The Hidden Life of Trees: What They Feel, How They Communicate، أو الحياة السرية للأشجار: ما تشعر به وكيف تتواصل
الأشجار تساعد بعضها عن طريق الجذور
جاءه هذا الإلهام في صورة ومضات، وكانت أكثرها إثارة للدهشة هو ما حدث معه أثناء إحدى جولاته الاعتيادية وسط محمية أشجار زان قديمة في غابته. عند مروره برقعة من الأحجار المغطاة بالطحالب غريبة الشكل والتي رآها مرات عدة من قبل، اجتاحه إدراكٌ جديد بغرابتها. وعندما انحنى ليفحصها اكتشف اكتشافاً مذهلاً:
"كان شكل الأحجار غير عادي: كانت مُقوِّسَة بلطفٍ مع وجود أجزاء مُجوَّفة بها. أزلت بعناية الطحلب عن أحد الأحجار، ووجدت تحته لحاء شجرة. إذاً بعد كل ذلك لم تكن تلك أحجاراً بل هي خشب قديم. فؤجئت بصلابة "الحجر" لأنه عادة ما يستغرق خشب الزان بضعة أعوام فقط للتحلُّل عندما يكون على تربةٍ رطبة. ولكن ما أثار دهشتي للغاية هو أنني لم أتمكَّن من رفع الخشب، فكان من الواضح تشبُّثه بالأرض بطريقةٍ ما. أخرجت سكيناً من جيبي وبدأت في إزالة بعض اللحاء بعنايةٍ حتى وصلت إلى طبقة خضراء. خضراء؟ يوجد هذا اللون في الكلوروفيل فقط، وهو المسؤول عن إكساب الأوراق الجديدة اللون الأخضر، وتُخزَّن أيضاً كمياتٌ من الكلوروفيل في أغصان الأشجار الحية. ويعني ذلك شيئاً واحداً فقط: إن هذه القطعة من الخشب لا تزال حية! ولاحظت فجأة أن باقي "الأحجار" شكَّلَت نمطاً مميزاً: كانت متراصة على شكل دائرة يبلغ قطرها حوالي 5 أقدام. تعثَّرت في بقايا متشابكة لجذع شجرة قديم هائل. كان كل ذلك يمثل بقايا الأطراف الخارجية، وفي ما يخص الطبقة الداخلية كانت قد تعفَّنَت بالكامل وتحوَّلَت إلى دبالٍ منذ فترة طويلة، ويُعد ذلك بمثابة إشارةٍ واضحة إلى أنها قُطِعَت قبل أربعمائة أو خمسمائة سنة على الأقل".
كيف يمكن لشجرةٍ سقطت منذ عقود أن تظل على قيد الحياة؟ لا يمكن لشجرة أن تقوم بعملية البناء الضوئي دون أوراق، وهي الطريقة التي تُحوِّل بها ضوء الشمس إلى سكر للحصول على التغذية. من الواضح أن الشجرة كانت تحصل على غذائها بطريقة أخرى منذ مئات السنين.
وراء هذا السر هناك جهودٌ معرفية مُذهِلة للبحث العلمي التي من شأنها في النهاية اكتشاف أن هذه الشجرة كانت فريدةً في حياتها التي اعتمدت على تلقي مساعدةٍ من كائنات أخرى. اكتشف العلماء أن الأشجار المتجاورة تساعد بعضها البعض عن طريق أنظمة جذورها، إما بطريقة مباشرة من خلال التفاف جذورها حول بعضها، وإما بطريقةٍ غير مباشرة من خلال بناء شبكات فطرية حول الجذور تعمل كنوع من الجهاز العصبي الممتد الذي يربط الأشجار المنفصلة.
إذا لم يكن ذلك مثيراً للإعجاب بشكلٍ كافٍ، فإن هذه التبادلات الشجرية تُعد أعقد. يبدو أن الأشجار قادرةٌ على تمييز جذورها عن تلك الخاصة بالفصائل الأخرى وحتى عن الأخرى من نفس نوعها.
الأشجار كائنات اجتماعية!
بالنسبة للأشجار هناك مزايا للعمل الجماعي وتتشابه الأسباب مع تلك الخاصة بالمجتمعات البشرية، فالأشجار كائنات اجتماعية تتشارك الطعام مع نفس فصائلها وأحياناً مع منافسيها.
فالشجرة ليست غابةً كاملة. لا تتمكَّن الشجرة من خلق مناخ محلي متناسق اعتماداً على ذاتها، فهي تقع تحت رحمة المناخ والرياح. لكن بالتعاون معاً تخلق العديد من الأشجار نظاماً بيئياً من شأنه تخفيف حدة الحرارة والبرودة، وتخزين كميات كبيرة من المياه، وتوليد قدر كبير من الرطوبة. وفي هذه البيئة المحمية، يمكن للأشجار أن تعيش حتى تصبح كبيرة جداً. ولتصل إلى هذه المرحلة يجب أن يحافظ المجتمع على سلامته مهما حدث.
إذا كانت كل شجرة تتطلَّع فقط لنفسها، فلن يبلغ الكثير منها عمراً كبيراً. قد يؤدي موت الأشجار بانتظام إلى وجود فجوات كبيرة في مظلة الأشجار مما يسهل على العواصف اجتياح الغابات واقتلاع المزيد من الأشجار. إلى جانب إمكانية وصول حرارة الصيف إلى تربة الغابة ما يؤدي إلى جفافها. بالتالي ستتعرض كل شجرة للمعاناة.
ويواصل فوليبن قائلاً: "وكل شجرة تُعد ذات قيمة للمجتمع وتستحق الحفاظ عليها لأطول وقت ممكن. لهذا السبب يجري دعم كل فرد مريض وتغذيته حتى يتعافى. ففي المرة القادمة قد ينقلب الحال وتصبح الشجرة الداعمة هي التي تحتاج إلى المساعدة".
ويضيف: "يمكن أن تكون الشجرة قوية فقط مثل الغابة المحيطة بها".
هل تتلقى الأشجار دعماً جماعياً أفضل منا؟
لا يسع المرء إلا أن يتساءل عمَّا إذا كانت الأشجار تتلقى دعماً أفضل منا من خلال الرعاية المشتركة بسبب اختلاف السلم الزمني الذي تصل إليه الكائنات البشرية. هل يعود بعض العجز لدينا عن رؤية تلك الصورة الأكبر للمعيشة المشتركة في المجتمعات البشرية إلى ضعف النظر البيولوجي لدينا؟ هل تكون الكائنات الحية التي تعيش على أساس مقياس زمني مختلف قادرة على التصرف بشكل أفضل مع المخططات الأوسع للأشياء في عالم مترابط ارتباطاً عميقاً؟
من المؤكد أن حتى الأشجار تفرق بين فصائلها، ويمتد ذلك بدرجات متفاوتة. يُفسِّر فوليبن ذلك قائلاً:
"كل شجرة هي عضو ينتمي لهذا المجتمع، لكن هناك مستويات مختلفة للعضوية. على سبيل المثال، تتعفن أغلب جذول الأشجار وتتحول إلى دبال وتختفي خلال مائتي عام (ولا تُعد تلك بالفترة الطويلة بالنسبة لشجرة). تبقى بعض الأفراد فقط على قيد الحياة على مر القرون.. ما هو الفرق؟ هل يوجد في مجتمعات الأشجار مواطنون من الدرجة الثانية مثلما يوجد في المجتمعات البشرية؟ يبدو أنه يوجد، لكن فكرة "الطبقات" لا تتلاءم معهم كثيراً. في الواقع يبدو أن قرار مدى مساعدة الأشجار المجاورة يعتمد على درجة من التواصل أو ربما التعلُّق".
عضوية مجتمع الأشجار
"كل شجرة هي عضو ينتمي لهذا المجتمع، لكن هناك مستويات مختلفة للعضوية. على سبيل المثال، تتعفن أغلب جذول الأشجار وتتحول إلى دبال وتختفي خلال مائتي عام (ولا تُعد تلك بالفترة الطويلة بالنسبة لشجرة). تبقى بعض الأفراد فقط على قيد الحياة على مر القرون.. ما هو الفرق؟ هل يوجد في مجتمعات الأشجار مواطنون من الدرجة الثانية مثلما يوجد في المجتمعات البشرية؟ يبدو أنه يوجد، لكن فكرة "الطبقات" لا تتلاءم معهم كثيراً. في الواقع يبدو أن قرار مدى مساعدة الأشجار المجاورة يعتمد على درجة من التواصل أو ربما التعلُّق".
وتلك العلاقات التي يشير إليها فوليبن تُعد سرية في مظلة الأشجار، لكنها مرئية لأي شخص يبحث عن:
"تنمو في المتوسط فروع الشجرة حتى تقابل أطراف فرع شجرة مجاورة على نفس الارتفاع. لا يمكن أن تنمو على نطاق أوسع من ذلك نظراً لاستغلال الهواء والإضاءة الأفضل في المكان بالفعل. مع ذلك، فإنها تقوِّي الفروع التي تمتد إليها بشكلٍ كبير حتى يصلك انطباعٌ وكأن هناك مباراة قوية تدور هناك. لكن من البداية فإن الصديقين الحقيقيين حريصان على عدم توجيه فروعهما السميكة في اتجاه بعضهما البعض. لا تريد الأشجار سلب أي شيء من بعضها لذا فهي توجه فروعها من الأطراف الخارجية لقمتها أي في اتجاه "الخصوم" فقط. مثل هؤلاء الأصدقاء عادة يكونون مترابطين من الجذور بقوة حتى أنهم يموتون معاً أحياناً".
الشم عند الأشجار
لكن الأشجار لا تتفاعل مع بعضها البعض بمعزل عن باقي النظام البيئي. في الواقع، عادة ما يعتمد جوهر اتصالهم على الفصائل الأخرى. يصف فوليبن النظام التحذيري عن طريق الشم المتميز الخاص بهم:
"قبل أربعة عقود، لاحظ العلماء شيئاً غريباً بحقول السافانا الإفريقية. كانت الزرافات هناك تتغذى على نبات السنط الملتوي ولكن الأشجار لم تحب ذلك. استغرقت النباتات مجرد ثواني فقط لتبدأ بضخ مواد سامة في أوراقها لتتخلص من الزرافات الكبيرة آكلة العشب. تلقت الزرافات الرسالة وانتقلت إلى أشجار أخرى في الجوار. لكن هل تحركوا إلى أشجار قريبة؟ لا، بصورة مؤقتة، تجاوزت القليل من الأشجار ثم استكملت طعامها بعدما ابتعدت حوالي 100 ياردة".
ويضيف: "يثير السبب وراء هذا السلوك الدهشة. أصدرت أشجار السنط التي كانت تؤكل غازاً تحذيرياً (غاز الإيثيلين على وجه التحديد) الذي نبه الأشجار المجاورة من نفس الفصيلة إلى حدوث أزمة. على الفور، أصدرت جميع الأشجار من نفس الفصيلة مواد مسممة على أوراقها لتستعد. كانت الزرافات واعية لتلك اللعبة التي تجري وبالتالي تحرَّكَت بعيداً إلى جزءٍ من منطقة السافانا حيث يمكنها العثور على أشجارٍ غافلة عمَّا يحدث. أو حتى تحرَّكت عكس اتجاه الرياح. نظراً لأن الرسائل بالرائحة تنتقل إلى الأشجار المجاورة عبر النسيم، فإذا اتجهت الحيوانات عكس اتجاه الرياح يمكنها أن تعثر على نباتات سنط لا تعلم بوجود الزرافات هناك".
التواصل بالكهرباء والكيمياء
نظراً لعيش الأشجار بمقياس زمني أطول بكثير منَّا، فإن عملياتها تجري بصورة أبطأ منا. فإن نبضاتها الكهربائية تزحف بسرعة ثلث بوصة في الدقيقة. وكتب فوليبن:
"تسجل أشجار الزان والصنوبر والبلوط الألم بمجرد أن تبدأ بعض المخلوقات قضمها، وعندما تلدغ يرقة إحدى أوراق الشجرة لدغة رقيقة، تتغير الأنسجة الموجودة حول الجزء المتضرر من الورقة. بالإضافة إلى ذلك، ترسل أنسجة الورقة إشارات كهربائية مثلما تفعل الأنسجة البشرية عندما تتألم. لكن هذه الإشارات لا تنتقل في أجزاء من الثانية كما هو الحال في الإشارات البشرية، وبدلاً من ذلك تنتقل الإشارات في النباتات بسرعةٍ بطيئةٍ تبلغ ثلث بوصة في الدقيقة. وبالتالي، يستغرق الأمر ساعةً أو نحو ذلك قبل أن تصل المركبات الدفاعية إلى الأوراق لإفساد وجبة الآفات. تعيش الأشجار حياتها في مسار بطيء للغاية حتى وإن تعرضت للخطر، لكن هذا الإيقاع البطيء لا يعني أن الشجرة لا تسيطر على ما يحدث في أجزاءٍ مختلفةٍ من هيكلها. إذا وجدت الجذور نفسها في مأزقٍ، فإن هذه المعلومات تُرسَل إلى جميع أجزاء الشجرة؛ ما يمكن أن يحفز الأوراق لإفراز مركبات عطرية، وليس أي مركبات عطرية قديمة فحسب، بل مركبات تكونت خصيصاً من أجل المهمة الجارية".
لكن الأمر الإيجابي لهذا البطء هو أنه ليس هناك حاجة إلى تنبيه بطانتها، ويُعوض هذا البطء المتأصل في الأشجار بدقة بالغة للإشارات. وبالإضافة إلى حاسة الشم، تتمتع الأشجار أيضاً بحاسة التذوق، إذ يفرز كل جنس منها نوعاً مختلفاً من اللعاب الذي يمكن أن تُمزج بالفيرومونات المختلفة التي تهدف إلى صد هجوم حيوان مفترس مُحدَّد.
ويوضح فوليبن مركزية الأشجار في النظام البيئي للأرض بقصة عن منتزه يلوستون الوطني بالولايات المتحدة تُثبت "كيف يؤثر تقديرنا للأشجار على الطريقة التي نتفاعل بها مع العالم من حولنا".
يبدأ الأمر كله من الذئاب؛ إذ اختفت الذئاب من متنزه يلوستون، الذي يُعد أول متنزه وطني في العالم، في عشرينيات القرن الماضي. وعندما رحلت الذئاب، تغير النظام البيئي بأكمله؛ فازدادت أعداد قطعان الأيائل في المتنزه وبدأت تتغذى على أشجار الـحَـوْر والصفصاف المصطفة على جانبي مجرى نهر يلوستون، وبالتالي اختفت النباتات ورحلت الحيوانات التي كانت تعتمد على الأشجار. وعندما عادت الذئاب، كانت أيام تغذي الأيائل الضعيفة على أوراق الأشجار في المتنزه قد انتهت، إذ استمرت قطعان الأيائل في التحرك بسبب الذئاب؛ ما أدى إلى قلة التغذي على الأشجار ونموها مرة أخرى.
استقرت جذور أشجار الحَوْر والصفصاف مرة أخرى على ضفتي مجرى النهر وأبطأت تدفق الماء؛ وهو ما خلق بدوره مساحة لحيوانات مثل السمور للعودة إلى المتنزه، حيث ستجد هذه الحيوانات البناءة المجتهدة الآن المواد التي احتاجت إليها لبناء مساكنها وتربية صغارها. عادت الحيوانات التي اعتمدت على هذه المروج النهرية أيضاً، واتضح أن الذئاب حُراس أفضل للأرض من البشر؛ لأنها هيأت ظروفاً سمحت للأشجار بالنمو وفرض تأثيرها على المناظر الطبيعية.
ولا يقتصر هذا الترابط على الأنظمة البيئية الإقليمية، إذ استشهد فوليبن بأعمال عالم الكيمياء البحرية الياباني كاتسوهيكو ماتسوناغا الذي اكتشف أن الأشجار التي تسقط في الأنهار يمكن أن تغير درجة حموضة الماء وبالتالي تحفز نمو العوالق – وهو العنصر وكتلة البناء الأكثر أهمية في السلسلة الغذائية بأكملها – التي تعتمد تغذيتنا عليها.