عندما وصل المهاجرون من إنكلترا إلى الأميركتين في القرن الـ17، ظلت أنماطهم الكلامية على ما هي، خاصة في الأماكن الأكثر عزلة بالولايات المتحدة كالجزر والجبال؛ ومن ثم -تقول النظرية- فإن بعض الأميركيين يتحدثون بلهجة هي أشبه بلهجة شيكسبير من بريطانيي اليوم. لكن هذا ليس صحيحاً تماماً؛ فالصورة الحقيقية أكثر تعقيداً.
من إحدى سمات الإنكليزية الأميركية، ما يسميه علماء اللغويات "الرائية Rhoticity"، أي طريقة لفظ حرف الراء في كلماتٍ، مثل: card، وwater. يتضح أن بريطانيي القرن الـ17 كانوا مثل أميركيي اليوم يلفظون الراء بوضوح في كل الكلمات، بحسب تقرير موقع هيئة الإذاعة البريطانية BBC.
ماريسا بروك، باحثة في التنوع والاختلاف اللغوي بجامعة فيكتوريا الكندية؛ تتحدث عن أوائل المهاجرين المستعمرين لأميركا، فتقول: "كثير من هؤلاء المهاجرين جاء من مناطق في الجزر البريطانية، لم يكن (غياب الرائية) فيها قد انتشر بعدُ؛ فالتغيير الذي اعتمد غياب الرائية كان لتوِّه يبدأ بجنوب إنكلترا، في الوقت الذي أصبحت فيه المستعمرات الولايات المتحدة الأميركية".
وهكذا، وعندما نتحدث عن تعامل الأميركيين مع الحرف الـ18 من الأبجدية، فإنهم بشكل عام ينطقونه كما كان البريطانيون يفعلون قبل عدة قرون؛ وكذلك الحال لدى كنديي غرب كيبيك، والفضل في ذلك للمخلصين الموالين للتاج البريطاني الذين فرُّوا شمالاً في أثناء الثورة الأميركية.
كذلك، من الفروقات بين الإنكليزية البريطانية وتلك الأميركية الشمالية، التوجه نحو ترقيق لفظ حرف A بفتح الفم أكثر في كلمات، مثل Path، فقد كان لفظ المستعمرين الأوائل (ونظرائهم الإنكليز) مشابهاً للفظ الأميركي الحالي المرقق كما في كلمة path، عكس اللفظ البريطاني الحالي المفخم الذي لا يسمح بفتح الفم كثيراً عند لفظ الـa في path.
عندما ننظر للوهلة الأولى، يبدو هذا الإرث اللفظي الباقي من زمن المستعمرات في أميركا، واضحاً أكثر في أماكن نائية محددة بالولايات المتحدة، ما يعزز الرأي القائل إن بعض مناطق الولايات المتحدة قد حافظت على الإنكليزية الشيكسبيرية.
فمثلاً، في جزيرة طنجة Tangier Island، الواقعة بولاية فرجينيا، نجد لهجة غريبة غير مألوفة، قد لا يفهمها حتى الأميركان أنفسهم. فبعض أنماط اللفظ لديهم، مثل حرف الـO شديد الضم، تبدو مطابقة تماماً للهجة غرب إنكلترا، ما حدا ببعض المراقبين إلى زعم أن ثمة قرابة قوية بين المستوطنين الأوائل الآتين من كورنوول البريطانية واللهجة الحالية في جزيرة طنجة الفرجينية.
إلا أن عالم اللغويات واللسانيات ديفيد شورز، يرى أن هذه المزاعم مبالَغ فيها، وأن انعزال تلك الجزيرة هو المسؤول عن غرابة لفظها، لا احتفاظها عبر الزمن بأنماط اللفظ والكلام الإليزابيثية.
ثمة منطقة أخرى رُبطت باللهجة البريطانية التي تعود للقرن الـ17؛ ألا وهي منطقة جبال الأبلاش، خصوصاً المناطق الجبلية في كارولينا الشمالية. لقد كتب عالم اللسانيات مايكل مونتغومري أن مديرية السياحة بولاية كارولينا الشمالية كانت في الماضي تصدر كتيباً اسمه "A Dictionary of the Queen's English-معجم إنكليزية الملكة"، يزعم أنه يمكن العثور في مناطق بالولاية المذكورة، على إنكليزية الملكة إليزابيث الأولى.
وقد أرجع مونتغومري تلك الفكرة إلى رجل دين ومُربٍّ تربوي، نشر مع بداية القرن الـ19 فكرة أن لغة الجبال هي من بقايا رواية أقدم بكثير. نشرُه تلك الفكرة أسهم في تخفيف الانطباعات السلبية عن سكان الجبال المظلومين عادة، فبقلبه الأمور وبزعمه وجود قرابة بين لهجتهم وطريقة شيكسبير في الكلام، صار لأهل الجبل مكانة وعزة، رغم وقوعهم في مكان مهمَّش من البلاد.
وكتب مونتغومري: "لهجة الجبل تتميز بألفاظها العتيقة أكثر من أي لهجة أميركية أخرى، وهذا كل ما في الأمر". مثلاً، ثمة كلمات مثل afeard التي تشتهر باستخدامها في مسرحية The Tempest، ولكن مونتغومري يستدرك أن "لكن الأسطورة الشيكسبيرية تعكس آراء بسيطة شعبية حول الطبيعة الجامدة لثقافة الشعب التقليدية، خاصة في المناطق النائية".
عبارات شائعة
من المدهش بعض الشيء أن إنكليزية شيكسبير باتت مرتبطة برفعة المكانة والثقافة، وهذا هو الجزء الآخر المعقَّد في المفهوم والذي غالباً ما يُنسى؛ ألا وهو أن الأميركيين حتى لو تكلموا مثل الإنكليزية الإليزابيثية أكثر من بريطانيي اليوم أنفسهم، فإن ذلك لا يعني أنهم يتحدثون اللغة بنسخة "أرقى".
يقول ديفيد باريت، الذي أقام ورشات عمل حول النطق الشيكسبيري الأصلي (OP) بينما كان يحضر رسالة بحثية عن الموضوع بجامعة جنوب ويلز: "لطالما كانت لدينا هذه الوصمة في المملكة المتحدة، والقائلة إأن شيكسبير حتماً أرقى… ولكن على زمنه كانت تلك هي اللهجة المحكية اليومية".
كذلك، دوّن باريت قصيدة كريستوفر مارلو Hero and Leander بالرموز الصوتية الخاصة بلهجة OP المذكورة آنفاً (وثمة مشاريع مشابهة لكل من الكتاب المقدس بطبعة الملك جيمس، وكتاب صلاة الرب Lord's Prayer).
حتى الملكة إليزابيث الأولى لم تكن تلفظ الكلمات بلهجة "راقية" بالضرورة، وقد بحث باريت، ضمن رسائل الملكة، عن أدلة تدلُّه على طريقة لفظها؛ ونظراً إلى أن التهجئة في تلك الأيام كانت بعيدة كل البعد عن الاعتماد الموحد، فقد كانت النصوص المكتوبة أداةً يتمكن علماء اللغة من خلالها من تحديد كيفية نطق الكلمات في ذلك التاريخ.
وعلى الأرجح، فإنه كان من عادة الملكة أن تلفظ كلمة servant كأنها sarvant، وكلمة together كأنها togither، فتلك كانت أساليب نطق الناس العاديين في القرن الـ17، لا نطق النبلاء، فإذاً كان أسلوب الملكة في الكلام بسيطاً عامياً جداً عكس اللهجات الراقية المفخمة التي تظهر بها في الأفلام وبرامج التلفزيون المعاصرة (ومن الجدير بالملاحظة أيضاً، أن الملكة الحالية، إليزابيث الثانية، هي الأخرى تتحدث بطريقة أكثر "عامية" مما كانت عليه سابقاً).
يقول باريت: "إن السبب الذي يجذبني إلى الفترة الإليزابيثية، هو أن اللفظ كان يضم أصواتاً، هي من البعد عن الإنكليزية الحديثة حتى ليجد المتحدث المعاصر صعوبة في فهمها، ولكن هنالك أيضاً تداخل بنسبة جيدة مع الإنكليزية الحديثة".
ولهذا، عندما يسمع الممثلون والجمهور لهجة OP لأول مرة، يشكل ذلك صدمة نوعاً ما لآذانهم ونظامهم اللغوي.
يقول باريت: "إن كل ناطق بالإنكليزية يسمع لهجة OP لأول مرة، سيجد لها جرساً مختلفاً"، قد يكون أحياناً مشابهاً للهجة الإيرلندية الشمالية، أو للهجات غرب البلاد، وتارة قد يكون مشابهاً للكنة جنوب إفريقيا أو للكنة الأميركية.
شيكسبير مُؤَمرَك
يسهل على الممثلين الأميركيين أداء الأدوار بلهجة OP؛ لأنها "أميركية أكثر بكثير" من اللهجة الرصينة والراقية Received Pronunciation (RP) التي تؤدى بها مسرحيات شيكسبير في يومنا هذا بشكل عام، حسبما يقول بول مائير، البروفيسور والأستاذ الفخري في المسرح بجامعة كانزاس الحكومية، والذي درّب الممثلين على اللهجة في أعمالٍ مسرحيةٍ، مثل نسخة مؤدّاة بلهجة OP من مسرحية A Midsummer Night's Dream.
على سبيل المثال، اعتاد جميع الأميركيين الآن لفظ كلمة fire بتثبيت نطق الراء في آخرها (فاير)، لا بإسقاطها كما لدى معظم البريطانيين (فايه).
ومن المفيد التنبيه إلى طريقة لفظ الكلمات قبل قرون؛ لأن ذلك يؤثر في تقديرنا للنصوص؛ فبسبب تغيُّر اللفظ البريطاني كثيراً جداً عن أيام الملكة إليزابيث الأولى، فقدنا الاتصال بالجرس الموسيقي الذي ميّز الإنكليزية الحديثة في باكورتها.
مثلاً، إن بعض التوريات وأمثلة السجع والقافية التي استُخدمت أيام شيكسبير ما عادت تصلح في البريطانية المعاصرة، ككلمتي love وprove، حيث كانت الأخيرة تُلفَظ بشكل يشبه لفظ الأولى أيام القرن الـ17. بالفعل إن التغيير الكبير في الأحرف الصوتية The Great Vowel Shift، والذي انتهى بعد زمن شيكسبير بقليل، هو سببٌ من الأسباب التي تجعل التهجئة واللفظ الإنكليزيَّين شديدي التعارض بعضهما مع بعض.
إذاً، إن الإنكليزية البريطانية التي شاع في يومنا اعتقاد أنها هي اللهجة الكلاسيكية، ليست في الواقع كلاسيكية. الحقيقة أن اللهجات البريطانية قد مرت بتغييرات في القرون القليلة الأخيرة أكثر من اللهجات الأميركية، وجزء من السبب هو أن لندن، وفلك تأثيرها كانا دوماً عبر التاريخ واجهة التغيير اللغوي في اللغة الإنكليزية.
ومن ثم، رغم وجود الكثير من التنوع، فإن اللفظ الأميركي الحديث أشبهُ باللفظ البريطاني في القرن الـ18 على الأقل من اللفظ البريطاني الحديث. هل نتحدث هنا عن إنكليزية شيكسبير؟ لا، فإذاً ألعلّها إنجليزية صمويل جونسون ودانييل ديفو؟ نعم، هذا أقرب إليها.
يتفهم أستاذ ومدرب اللهجات مائير العنصر الجذاب في فكرة أن أنماط الكلام في القرن الـ17 قد حُفِظت حفظاً تاماً كالمستحثات، فيقول: "إنه لَمعتقدٌ مبهج وجذاب أن نقول إن لغة شيكسبير حُفظت كأحفورة" في مناطق بالولايات المتحدة.
ولكن، وكما يوضح عالم اللسانيات الاجتماعية بروكس، فإن "كل لهجة محكيّة نشطة هي دوماً تتعرض للتغيير، فهذا ينطبق على اللهجات الريفية مثلما ينطبق على المدنية أيضاً".
يمكننا أن نسمع أصداء من لهجات عتيقة هنا وهناك في أماكن عدة، ولكن -للأسف- لا يوجد متحف حي لإنكليزية شيكسبير.