كانت مفاجأة منظّمي اللقاء الثقافي الذي احتضنته المكتبة الوطنية بالرباط، مساء يوم السبت الماضي، والذي جمع كل من الكاتبة الفرنكوفونية ذات الأصول المغربية ليلى سليماني والكاتب الجزائري كامل داوود، كانت مفاجأة مذهلة بكل المقاييس بل وصادمة حد الدهشة، وذلك بعد أن تخطّت أعداد الحضور أرجاء قاعة الندوات الكبرى التابعة للمكتبة الوطنية بما فيها الممرات وبين المقاعد، واحتشد العشرات خارج القاعة لأكثر من ساعة قُبيل موعد الندوة.
يحدث هذا في حين لا تجد كراسي كثير من الندوات التي تحتضنها المؤسسات الثقافية الوطنية من يملأها ويبقى فضاء الندوة قاعاً صفصفاً فراغاً لا ترى فيه إلى الضيف والمضيف وحفنة من المدعوّين ومنظمّي اللقاء.
المتتبع للمناخ الثقافي بالمغرب يرى جلياً أن الحدث الذي نظّم بإيعاز من المعهد الثقافي الفرنسي على هامش المعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء له دلالته القويّة والعميقة والتي أظهرت جلياً حجم الإقبال الكبير على منتوج ثقافي حقيقي، عند توفره يظهر مدى تعطش الجماهير الشبابية للمنتديات الفكرية الجادّة والندوات الأدبية والمغيّبة تماماً عن أجندة المؤسسات المعينّة في البلاد.
غياب سياسة ثقافية حقيقية ورؤية واضحة شمولية كتلك التي تنهجها السفارة الفرنسية أو الأميركية بالمغرب بأذرعها المتعددة، يجعل كثيراً من المؤسسات الوطنية على رأسها وزارة الثقافة والاتصال في موقف لا تحسد عليه.
فإطلالة سريعة على الملف الثقافي لهذه الأخيرة من خلال مؤسساتها والمهرجانات الفنية والأدبية التي تتبناها وبرامجها الإعلامية سواء السمعية منها أو البصرية، تكشف عمق أزمة المنتوج الثقافي في المغرب الذي يغرق في الارتجالية والعشوائية وضحالة الإنتاج.
هذه المؤسسات التي أُنيطت بها مسؤولية الارتقاء بالمستوى الفكري والأدبي للمواطن لا تجد لها عُشر الصدى الذي تخلّفه اللقاءات الفكرية والندوات الأدبية للقنصليات الأجنبية التي تتسم بالتنظيم والمهنية وتعنى بالجودة كمّاً وكيفاً.
المحبط في الأمر هو أن معظم هذه المؤسسات الحكومية لا تزال تصرّ على أن ما تصبّه عبر مهرجاناتها "الثقافية" وقنواتها العمومية هو عين ما يتطلّع إليه ذوق المثقف المغربي وأعزّ ما يطلبه المشاهد.
الإحصائيات تقول إن هناك إقبالاً ملحوظاً على اقتناء الروايات والكتب الأدبية في معرض الدار البيضاء للكتاب، وندوة ليلى سليماني أو يوسف زيدان مثلاً، والفراغ البئيس الذي تعرفه كثير من مهرجانات الدولة والتقارير الأخيرة المفزعة لمؤسسة ماروك ميتري، المؤسسة المسؤولة عن قياس نسب المشاهدة في المغرب، ومشاهد الحشود التي تتكدّس داخل القاعة الكبرى للندوات، وعند مدخل المعاهد الأجنبية، بينما تغيب بأعدادها ونخبها عن الملتقيات والندوات المنظمة من طرف المؤسسات المحلية.
كل هذا، لا يتعدّى في نظر الوزارة الوصية أن يكون مجرّد ترف أدبي زائد لا رمزية له. ولا يسترعي انتباه المسؤولين المعنيين ولا يستنهض أذواقهم الثقافية إلى شيء.
يوم الثلاثاء 13 فبراير/شباط 2018 بالدار البيضاء تم الكشف عن برنامج الموسم الثقافي للمعهد الفرنسي الذي سيتضمن أزيد من 800 نشاط ثقافي.
وأوضح المدير العام للمعهد الفرنسي بالمغرب جون مارك بيرتون في ندوة صحفية خصصت لتقديم الخطوط العريضة للبرنامج الذي وقع الاختيار فيه على نفس الكاتبة المغربية ليلى سليماني لتكون عرابته، أن المعهد سيكون منخرطاً بكل الأشكال الثقافية المعلومة كالمسرح، والسينما، والندوات الفكرية والأدبية والفنون التشكيلية والتصويرية وغيرها.
بينما الفضاءات العمومية لدور الثقافة والشباب تعرف أزمة خانقة من حيث البنية والوظيفة وعلى مستوى التنظيم والتسيير.
وثاني أكبر مدينة في المغرب على غرار كثير من المدن المغربية الأخرى لا تتوفر على مسرح بلدي واحد، أو حتى مكتبة وطنية، أو مقهى ثقافي واحد بدعم أو إشراف من القطاع الحكومي.
دُور السينما هي الأخرى لا تزال إلى الآن تعرف أزمة حقيقية منذ بداية الألفية الجديدة وقنوات التلفزة المغربية 90% من برامجها هي برامج ترفيهية أو بتعبير أدق برامج بطابع البهرجة الفارغة من أي محتوى تثقيفي هادف، معظمها برامج رياضية وسهرات غنائية وبرامج المسابقات، ناهيك عن المسلسلات التركية والمكسيكية المدبلجة ذات الـ1207 حلقات والتي نال أحدها في تقييم داخل وموطنه الأصلي بتركيا 1.2 من 10.
ذاك هو الرهان الذي تعتمده المؤسسات الثقافية في البلاد، ولا تفتأ عن الدفاع عنه في كل مناسبة يتم إحراجها بالأسئلة الحارقة حول آفاق ومستقبل المشهد الثقافي في المغرب.
رهان الصخب والبهرجة والترفيه بدل التثقيف رغم أن المناخ الثقافي برهن أكثر من مرّة عمّا يشبع فضوله ويتجاوب مع شغفه الفكري والمعرفي، سواء عبر مقاطعته لبرامج القنوات العمومية أو إقباله المكثف على الندوات الفكرية والأدبية التي تحتضنها الفروع الثقافية للسفارات الأجنبية أو الصالونات الثقافية الخاصة.
الأرقام غير المتفائلة التي اعتدناها بخصوص أزمة القراءة بالمغرب، على غرار مثيلاتها بالدول العربية، هي نفسها تشهد بأن المقاهي الثقافية ذات المبادرات الفردية والخاصة في كل من الرباط ومراكش والدار البيضاء وفاس وطنجة في ازدياد ملحوظ، والندوات واللقاءات والمناظرات الفكرية والثقافية التي ترعاها بعض الأيادي الغيورة، سواء من داخل الحقل الأدبي أو الفني، تتدفق نحوها الجماجم المتعطشة للجودة والقيمة والأسلوب، والرافضة للرتابة والبهرجة والاعتباط، وقد قيل: اللبيب بالإشارة يفهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.