إسمه أحمد:بين العتوم و الدقامسة

وحيث إن الدقامسة وقد أصبح في الرواية مثقفاً على مستوى رفيع وصاحب شخصية ثقافية مركبة مقارنة ببساطته قبل تعمقه في القراءة، فإن إعادة محاكمته عقلياً لفعله كانت ستثري الرواية، لكننا لم نلحظ ذلك وإن استدرك المؤلف ليفاجئنا برسالة مطولة من عم الدقامسة يحاكم فيها فعل أحمد من كافة الزوايا.

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/03 الساعة 01:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/03 الساعة 01:33 بتوقيت غرينتش

رواية أخرى للشاعر والروائي الغزير الإنتاج أيمن العتوم. رغم طولها النسبي مقارنةً بأكثر الروايات العربية فقد وجدتني متحمساً لقراءتها متأثراً بإعجابي بروايتين سبق أن قرأتهما للمؤلف: حديث الجنود ويا صاحبيَ السجن، وكعادة العتوم، فإن هذه الرواية حظيت باسم مستوحى من القرآن الكريم.

يذكر المؤلف أنه استغرق في كتابتها ما يزيد قليلاً على السبعين يوماً، وقد كتبها بمناسبة الإفراج عن السيد أحمد الدقامسة، الذي قضي في سجون بلاده عشرين عاماً، وكان ذلك لأنه قتل سبع إسرائيليات جئن بهيئة سائحات للأردن بعد معاهدة السلام.

قوة الدلالة فيما فعله السيد الدقامسة تكمن في بساطة هذا المجند ورتبته العسكرية المتواضعة، وفيما بدا أنه تصرف على نحو تلقائي وعفوي، مجند أردني عايش المأساة وفاض في نفسه الشعور بالظلم.

وكعادة الناس الصادقين مع أنفسهم لم يصدق ما يقال عن السلام، ولم تقبل نفسه سلاماً يمليه الظالم قبل أن يعود عن جرائمه.

الدقامسة لا يملك فذلكات المثقفين وليس منشغلاً بالتأويلات، ولم يتصرف نشداناً لبطولة، بل كان يستجيب لنفس تأبى الضيم، تاركاً الحوار عن حكمة فعلته لمثقفي المقاهي، وأظن أن دلالة فعلته ستبقى مؤرقة للصهاينة أبد الدهر، ولذلك ترى أن وفداً من عائلات القتيلات زار الأردن والتقى رئيس وزرائها بعد الحادثة بخمس عشر سنة، وأخذ من الأردن تأكيدات بأن الدقامسة لن يُفرج عنه قبل استيفاء عقوبته.

وعندما نعود إلى الرواية، فإنني لا أتوقع أن يلتزم الروائي بشكل حرفي بالأحداث، ولكنني أعتقد أن تصوير فعل الدقامسة على أنه كان فعلاً مرتباً مخططاً له من قِبل صاحبه عبر سنوات طويلة وحِيل كثيرة ربما أدى إلى إفساد العفوية والتلقائية في تصرف الدقامسة، وهما مصدر قوة الدلالة في الحدث.

فالعتوم رغم أنه نقل لنا أن الدقامسة قد دخل الجيش في سن الخامسة عشرة بعد أن أنهى الصف الثامن من دراسته، إلا أنه يعطي شخصية الدقامسة أبعاداً ثقافية أكبر مما يسمح به الواقع.

وقد أظهر أن الدقامسة كان مثقفاً حتى قبل أن يقضي سنوات سجنه التي أصبح فيها رفيقاً للكتاب.

فأنت تراه (الدقامسة) يتحدث عن جحيم دانتي، ويحب غناء مارسيل خليفة وسميح شقير، وكلاهما في تلك الفترة لم يكن معروفاً إلا لبعض مثقفي اليسار، وكان للكاتب أن يكتفي بالثقافة التي اكتسبها بطله من سماعه لأشرطة الشيخ كشك، لكن الرواية تذهب بعيداً ليتحدث البطل عن تأملات صوفية وأخرى فلسفية بل وتجده يفصل في أجهزة التعذيب وأشكالها وهيئاتها تفصيلاً لا مما عايشه وإنما لا يمكن أن يحصل عليها من ثقافة مقصودة، وحين يُلقي القبض عليه، فإنك تجده يعرف نفسه بأنه مثقف نوعي، ويتحدث عن السجائر الأرستقراطية التي يأخذها من المحققين، ويناقش الأطباء النفسيين عن المرض النفسي بمفهومه الغربي نقاش مثقف كبير.

كما تجد في كلامه حديثاً عن ممثل أميركي وعن مفكر كهشام جعطيط وعن نظريات هشام شرابي، ويتحدث عن محمود درويش… إلخ، ثم حين يحادث زوجته مخيراً لها بين أن تستمر معه أو أن تختار التسريح يذكر قصة المناضل كامل السنانيري وحميدة قطب….كل هذا في مرحلة مبكرة من اعتقاله مما لا يعكس أي واقعية. وبتتابع القراءة تجد نفسك تتساءل مَن الذي يحكي عن نفسه في الرواية وقد جاءت بأسلوب المونولوج أهو بطل الرواية أم أن الروائي قد تماهى مع بطله لدرجة أنه يكتب عن نفسه هو لو مر بنفس التجربة.

فكأنما أنت في الرواية لا شاعرية العتوم فقط بل وعن قراءاته وكتبه ومقالاته الصحفية ومواقفه السياسية من قضايا كالحرب على العراق وغزوة مانهاتن، وأظن أن الكاتب لو بقي في محيط بطله لاستغنى عن ثلث الرواية.

الأسلوب الشعري العذب عند العتوم يجذبه هنا لدور أشبه بدور شاعر الربابة الذي قد يغير أحياناً في سيرة بطله؛ لتناسب الموقف واللحظة.

فحين يدخل السجن تجده يتلقى درساً من المهندس الحكيم عن قواعد ميكيافيللي، درساً من الصعب على الدقامسة أن يستوعبه في مرحلته الفكرية تلك، لكنه يفسر للمستمع بعض ما يلقاه وما سيلقاه من مجتمع المساجين.

نرى هنا تواطؤ بعض المساجين مع الأمن الوقائي الذي يتآمر على الدقامسة في السجن.

تتحدث الرواية عن مجتمع المساجين وتجارة الحشيش، ويأتي الحديث عن ذلك في مواقع متناثرة وبأسلوب غير محكم، ولكن الكاتب احتاجه ليصل بنا إلى محاولة اغتيال الدقامسة داخل السجن، وظني أنه كان من الأجدر جعل محاولة الاغتيال هذه مرتبطة بجواسيس الدولة العبرية، خاصة أن الصهاينة يخترقون مجتمع تجارة الحشيش ومجتمع رجال الأمن.. ولربما أدى ذلك إلى إضافة قوة أخرى إلى الرواية، وإلى منظومتها الأساسية في تبرير فعل الدقامسة وإعطائه أبعاداً نضالية.

يبذر العتوم في رواياته أفكاراً روائية خصبة، لكنه هذه المرة لم يتابعها حتى تثمر، تبدأ الرواية مثلاً برؤيا والدته التي توجهها إلى أن تسميه أحمد، في إيحاء قوي بأنه يُعد لمهمة رسالية كبرى مستوحاة من رسالة محمد عليه السلام.

وكنت منتظراً أن أرى لها ثمراً حتى اللحظة الأخيرة، لكن الصفحات الأخيرة تركت للبطل ليقول فيها بعد خروجه من سجنه بأنه لو عاد الزمان لفعل نفس الفعل، ويؤكد أنه يعرف أن إسرائيل ستطارده لقتله، وأنه يعد نفسه للتحدي ويريد شهادة تليق به كأن يحدث ذلك عن طريق طائرة لا بمسدس كاتم للصوت، وهذا يندرج ضمن تأكيد قناعته بالفعل.

لكن تجربته في السجن وقراءاته كان من الممكن أن تقوده إلى أفعال أكثر ريادية وفيها اقتداء أوضح بالرسول؛ لتتحقق النبوءة، وألا تكون المسألة فقط احتيالاً ليتحقق للرواية اسم جميل.

وحيث إن الرواية هي أكثر الفنون الأدبية التي تعيش على التناقضات، فإنني كنت أتوقع أن يصل الدقامسة إلى إعادة تقييم فعله، خاصة وقد تباينت ردود الأفعال عليه، فمن رأى أنه بطولة رفيعة إلى آخر يرى أنه عمل يخلو من الحكمة.

وحيث إن الدقامسة وقد أصبح في الرواية مثقفاً على مستوى رفيع وصاحب شخصية ثقافية مركبة مقارنة ببساطته قبل تعمقه في القراءة، فإن إعادة محاكمته عقلياً لفعله كانت ستثري الرواية، لكننا لم نلحظ ذلك وإن استدرك المؤلف ليفاجئنا برسالة مطولة من عم الدقامسة يحاكم فيها فعل أحمد من كافة الزوايا.

وهذا العم هو الذي شارك في معركة الكرامة وخرج منها بإعاقة جسدية، وكان اختفاء العم مُستغرباً، خاصة أنه في الرواية كان ملهماً لابن أخيه، وفوجئنا وكأن الروائي يعيد اكتشافه.

رغم كل ما أشرت إليه، فإن "اسمه أحمد" تبقى عملاً أدبياً ممتعاً للقارئ، تجلت فيه عذوبة أسلوب العتوم وجمال ألفاظه واحتشادها بأشعار مؤثرة، ورغم أن ذلك كان أكثر مما تحتاج له الرواية، فلا بأس به في عمل أدبي يخرج به صاحبه عن حدود الرواية إلى هوامش واسعة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد