بما أننا نعيش في عصر تطغى فيه المعايير الماديّة أكثر من أي شيء آخر، ودخلت لُغة الأرقام في حياتنا بشكل لم نعتد عليه من قبل، فحتى عندما يتعلق الأمر بتوسيع مداركنا ورؤيتنا للعالم بتنا نبحث عن المُدونات "الأكثر تفاعلًا" والكتب "الأكثر مبيعًا" وكأننا نؤكد لأنفسنا كُل يوم أننا نعيش في غابة داروينيّة، البقاء فيها للأقوى، و"الأليَك" و"الأشيَر" – من كلمتي Like وShare – وكأننا نرفض أن كُل منّا له خصوصيّة وعالمه الخاص والفريد!
هذه الأفكار لم تأتِ من فراغ، ولا هي نظريّة بحته، بل هي وليدة تجربة سيئة مع قوائم الكُتب الأكثر مبيعًا، التي لم أجد فيها الكثير من الكُتب التي قرأتها وشدّتني أكثر بكثير من غيرها، وبل وغيّرت الكثير الكثير في حياتي.
أكثرنا سمع عن رائعة رضوى عاشور "ثلاثيّة غرناطة"، وهي من أفضل الروايات حقًا، ولكن الأكثرية الساحقّة لم تسمع لربما بالأستاذ علي الكتاني صاحب كتاب "انبعاث الإسلام في الأندلس" وهو من أجمل و"أعظم" ما قرأت في تاريخ الأندلس، يتحدث فيه عن الوجود الإسلامي في الأندلس من بعد السقوط حتى سنوات قريبة جدًا، وفيه كم هائل من الحقائق والأسماء والحكايات المُدهشة من أرشيف المحاكم الاسبانيّة، وهي تؤكد أن سقوط الأندلس عام 1492 لم يكن إلا سقوطا سياسيًا، وحتى الطرد الكبير 1609 لم يعن النهاية.. فحكايات المُسلمين "المورسكيين" لم تغب عن الأندلس، بل تواصلت حتى يومنا هذا، ولعل زيارتي لقريّة "الثغرة" في جبال غرناطة ولقائي بعائلة روميرو "المورسكيّة" هناك هي التي جعلتني أعشق هذا الكتاب الذي جعلني أربط الماضي بالحاضر بشكل مُبدع.
حتى في الكُتب التي تتحدث عن فلسطين، فإنني أعترف أن رواية "أمير الظل" للأسير عبدالله البرغوثي أبهرتني، تمامًا كما فعلت رواية "زمن الخيول البيضاء" لإبراهيم نصر الله، ولكن ومع كُل الاحترام فإن كتاب "رحلة جبليّة رحلة صعبة" الأقل شُهرة وكتاب "الرحلة الأصعب" وهو الجزء الثاني منه، كان من الكتب التي دفعتني لاكتشاف فلسطين، ولكن كتاب "أيام الصبا" الذي يتحدث فيه د.يوسف هيكل – آخر رئيس بلديّة لمدينة يافا قبل النكبة – كان من أمتع ما قرأت، بل إن إعجابي بهذا الكتاب الذي وجدته في مكتبة القرية التي لا تبعد عن يافا كثيرًا، بل إن الكتاب جعلني أحمل نفسي وأخرج إلى تل أبيب للبحث عن مقبرة "عبد النبي" حيث قبر أخت المؤلف "فاطمة"، فوجدت أن أكثر أراضي المقبرة تحوّلت إلى فندق "هيلتون"، ولم أجد قبر فاطمة ولكنني عُدت إلى المقبرة أكثر من مرّة.. وقُمت بعده بالكثير من الرحلات في تل أبيب لاستكشاف وجهها الآخر.
في أدب الرحلات مثلًا، وجدتُ كتابًا هو أقل شهرة من كتاب "رحلات ابن بطوطة" أو "رسالة ابن فضلان" و"رحلات أنيس منصور حول العالم"، ترددتُ كثيرًا قبل شرائه لأن التفاعل معه أقل من القليل، ولكنه أبهرني حقًا ولعلّه من أجمل ما قرأت فقد أبدع الصحفي اللبناني كامل مروّة في هذا الكتاب الذي لا يبدو جذابًا من عنوانه "بيروت برلين بيروت – مُشاهدات في أوروبا وألمانيا أثناء الحرب العالميّة الثانيّة"، إلا أن المحتوى كان مُدهشًا ويجعلنا نعيش الرحلة بكُل تفاصيل، فوصفه لإسطنبول وحكاية شباب العرب معها لا يختلف عمّا يحصل اليوم، كما لا يبخل علينا بحكاياته عن مدى التشابه بين العرب والبلغار مؤكدا أن هناك 3000 كلمة مشتركة بين اللغتين.
لكن الأكثر إثاره هي مغامراته مع المخابرات الألمانيّة "النازيّة"، وحكايته مع عامّة الناس هناك مثل العجوز الألماني الذي كان يرى أن البطاطا هي سبب الحرب، و"شلّة" من الألمانيّات احتفلن به عندما اكتشفن أنه "عربي وأبيض" ولا تنطبق عليه حكايات "ألف ليلة وليلة"، كما حديثه عن غلاء أسعار القهوة والصابون والشوكلاطة أثناء الحرب وهذه التفاصيل كلها تجعلنا نفهم التاريخ أكثر بكثير من الأبحاث العلميّة الجافة وأفلام البروباغندا الأمريكية!
المهم، أنني لا أكتب عن هذه الكُتب لأقول أنها الأفضل، أو تستحق أن تكون الأفضل، ولكنني أكتب ما أكتب لأقول حقيقة واضحة وبسيطة لا يجب أن نغفل عنها، أننا بشر ولكل منّا اهتماماته وهمومه ولا يُعقل أن نُلغي ذواتنا ونحصر ثقافتنا في الأكثر تفاعلًا ومبيعًا وشهرة.. بل الأصل كُل الأصل أن نبحث عمّا يجعلنا نفهم أنفسنا والعالم من حولنا بشكل أفضل.
هذه التدوينة منشورة على موقع الجزيرة مدونات
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.