في واحد من مقالات الكاتب الصحفي المصري الراحل عبد الوهاب مطاوع، أهدى القارئ نصيحةً يستعين بها حين تضنّ الدنيا وقت الشدة بالصديق والرفيق، وهي أن يستحضر في خياله شخصيات قد قرأ عنها في الكتب وتعلّق بها، يتحدث معها ويفكر في مصائرها؛ فيجد بداخلها السلوى والحكمة، وربما حلولاً لما يعانيه.
فما بالنا إذ يستيقظ الإنسان ذات يوم فيجد تلك الشخصيات حاضرة أمامه تشاركه الحياة اليومية؟
حول هذا المعنى تدور فكرة رواية "مسك التل" للكاتبة سحر الموجي، الصادرة عن دار الشروق للنشر عام 2017.
بطلات الرواية من أزمنة مختلفة
تبدأ أحداث الرواية بـ"مريم"، التي تستيقظ ذات صباح بحنين جارف إلى جولة فى شوارع القاهرة القديمة، طبيبة الأمراض النفسية التي تركت عملها منذ سنوات بعد أن نفدت طاقتها فى الاستماع لمرضاها، وذلك بعد مرورها بعدة أزمات شخصية؛ من فقدان للزوج وفشل علاقة الحب الرابط الوحيد بينها وبين الحياة؛ ليؤدي بها ذلك إلى مرض الاكتئاب، فتتشابه أيامها لدرجة تفقد مع التكرار إحساسها بمرور الأيام من حولها حتى التقت بطلتي الرواية الأساسيتَين.
"أمينة"، صاحبة الشخصية الشهيرة في الرواية الأشهر، "بين القصرين" للكاتب نجيب محفوظ، تلك الشخصية البسيطة في ملامحها وصفاتها، التي تحولت إلى نموذج للدراسة والتندر بأحوال المرأة المصرية وما عانته في تلك الفترة، من حرمان لحقوقها كافة ومقارنة ذلك بما نحياه الآن.
"كاثرين"، بطلة رواية "مرتفعات وذرنغ" للكاتبة الإنكليزية إميلي برونتي، تلك البطلة التي تخلت عن قصة الحب لبعض المطامع ولعله الأمل في حياة أفضل؛ فتزوجت رجلاً اكتشفت عيوبه وتشوهت حياتها بعد الزواج وظلت تعاني الندم سنوات.
اعتادت الكاتبة في أعمالها السابقة أن تصاحب قرّاءها في البحث عن حقوق المرأة ومعاناتها النفسية بالدرجة الأولى ومناقشة مصادر تلك المشكلات بشكل مباشر، لكن في هذه الرواية جمعت بين 3 سيدات من أزمنة مختلفة؛ لتناقش مشكلاتهن من وجهات نظرهن، فيمكننا القول بكل ثقة إن الكاتبة نفخت الروح في شخص "أمينة" و"كاثرين" وجمعتهما بـ"مريم" التي تعدّت الخمسين من عمرها؛ ليشاركنها الحياة في القاهرة عام 2010؛ للبحث عن إجابات للعديد من الأسئلة.
ومنها: هل اختلفت مشاكل المرأة بالفعل بتعاقب الأجيال والتفاوت في الظروف المحيطة؟ وهل تختلف المشكلات باختلاف المجتمع؟ وهل إحساس المرأة بقيمتها وبمن حولها يتأثر باختلاف العادات والتقاليد من حولها؟
تصطحب "مريم" كلاً من "أمينة" و"كاثرين" إلى منزلها دون أن تشغل بالها كيف التقتهما ومن جاء بهما إلى هذا الزمن، على الرغم من أن السرد لا يخلو من لحظات تعجُّب "مريم" من هذا اللقاء، لكن كان شغلها الشاغل أنها وجدت من يشاركها حياتها بدلاً من أن تظل وحيدة.
بالفعل، استطاع الثلاث تكوين حياة يومية عادية، فقد تعايشت "كاثرين" واعتادت صخب القاهرة والحياة اليومية، وكذلك "أمينة" تمكنت من تفهّم هذا العصر، وإثبات حضورها اليومي في الحياة بشخصيتها التلقائية وقدراتها البسيطة، أما "مريم"، بالنظر إلى كل منهن في الوقت الحالي، ومقارنتها بتجاربهن في الماضي، فتمكنت من مراجعة خطوات حياتها، حتى استطاعت التخلص من معاناتها والتعايش؛ بل التصالح مع الماضي والاعتراف بأخطائه.
رصدت الكاتبة تلك التغيرات للسيدات الثلاث، من خلال سرد اليوميات التي حرصت "أمينة" على كتابتها وعقد مقارنة من خلالها بين الماضي والحاضر لما كانت تحياه وما كانت تستطيع أن تعيشه، مثلما طرحت الكاتبة من خلال هذه اليوميات سؤالاً في غاية الأهمية؛ فإذا عادت بنا الأيام للخلف مرة أخرى فهل نقوم بتصحيح أخطائنا، ونعيد ترتيب الخطوات بشكل أفضل وفقاً لإدراكنا الحالي؟ أم أن اتضاح الرؤية مرهون بمرور الزمن واستحالة إعادة المواقف مرة أخرى ليؤدي الندم دوره ونتوارث العبرة والعظة من تجارب الأولين؟
شخصيات الرواية من أعمال أدبية مختلفة
من أهم النقاط التي تستوقف القارئ، وجود شخصيات عديدة من أعمال أدبية مختلفة استعانت بها الكاتبة في مواقف متعددة داخل الرواية، مع حرصها على وجود مسودات تحتوي أسماء تلك الأعمال التي ينتمون إليها وكتابها؛ فيجد القارئ نفسه أمام مرجع أدبي قوي.
لكن في الوقت نفسه قد يشعر بالتشتت؛ لقصور معرفته بكل هذه الأعمال، مثلما جاء دور الرجل في الرواية بسيطاً جداً سوى من تجارب السيدات، فهو بطل الظل في حياة كل منهن، سواء بالسلب أو الإيجاب.
على الرغم من تفاوت الأزمنة التي انتمى إليها الأبطال، فإنه يعطي لعامل الزمن قوة وحضوراً داخل الرواية؛ فقد استطاعت الكاتبة التنقل بكل بساطة بين الأزمنة خلال السرد، فلا نشعر بالسنوات الطويلة التي تفصل الأبطال في القاهرة عام 2010، أو حداثتها عن العهود السابقة لهم.
تنتهي أحداث الرواية وقد حصلت السيدات الثلاث على حياة يومية سوية إلى حد كبير، ولم تضع الكاتبة لكل منهن نهاية محددة؛ ليضع كل منا نهاية تناسب مفهومه عن تجربة الرواية وتجربته الشخصية.
وقد وضعت الكاتبة كل امرأة في مصر بشكل خاص وفي أي مكان عامة أمام حقيقة قوية؛ وهي أن كلاً منا لا بد أن يكون بداخلها جزء من شخص هؤلاء السيدات، لا بد من أن تحمل بداخلها إيجابيات "أمينة" في محبتها بساطة الحياة وتقديسها تلحياة الشخصية والعائلية، وجزءاً من "كاثرين" وتمرُّدها وحبها الحياة في كل الظروف، وجزءاً من "مريم" في اعترافها بالمعاناة ومشاكل الحياة وتأثيرها في شخصها.