فازت رواية (موت صغير) للسعودي محمد حسن علوان بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) في دورتها العاشرة.
ورواية (موت صغير) هي سيرة روائية متخيلة لحياة الفيلسوف محيي الدين بن عربي منذ ولادته في الأندلس في منتصف القرن السادس الهجري وحتى وفاته في دمشق، وجاء الإعلان عن الجائزة مساء اليوم الثلاثاء 25 أبريل/نيسان 2017 في أبوظبي عشية افتتاح الدورة 27 لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب.
الحقيقة والخيال في "موت صغير"
توسع الحب في رواية علوان الخامسة، ولم يعد هو الحب بين الرجل والمرأة فقط بما يحمله من مآسي القلب وانكساراته وأفراحه، ولكن الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر -كما يلقبه مريدوه- يظهر في رواية علوان كمتصوّف إنسان، مثلما يظهر كعاشق ولهان يشبه أبطال رواياته السابقة، لكن علوان يجرده تماماً من قدسية العلم والعرفان، ويجعله شخصاً عادياً يخطئ ويرتكب الآثام، ويقع في الحب ويعاني الفراق والغربة ولوعة الفقد وضيق اليد، ولم تخلُ الرواية التي قاربت الستمائة صفحة من حقائق تاريخية عامة وخاصة، لكن الكاتب نجح في رسم سيرة ابن عربي في رواية أدبية ممتعة، حكاها عن صاحبها بضمير المتكلم، فلا تشعر معها بملل السرد التاريخي.
الحب هو موضوع الرواية و"الحُبّ موتٌ صغير" كما يقول ابن عربي الذي يحكي في الرواية أحداث حياته بضعفها وترددها وانكساراتها كإنسان بسيط يذنب ويخطأ ويعشق وينكسر لا كمفكر وشاعر وفقيه كبير وقطب متصوف، ورغم أن الرواية مليئة بالحكمة والمعرفة، فإن عرض إنسانية ابن عربي خلال رحلاته وأسفاره يجعل موضوعها جديداً ومتميزاً.
"لا بد من السفر كي نستجلب العِبَر، والمؤمن في سفر دائم. والوجود كله سفرٌ في سفر… ألا يعلم أن من ترك السفر سكن، ومن سكن عاد إلى العَدَم!"
الروائي السعودي حكى الرواية في زمنين مختلفين، يحكي في الأول انتقال أوراق مخطوطة سيرة ابن عربي من عام 610هـ/1212م وحتى وصولها بين أيدينا عام 1433هـ/2012م، بينما يستعرض في الآخر سيرة ابن عربي الإنسان خلال أسفاره ورحلاته من مرسية التي ولد بها في الأندلس ورحلاته إلى أقصى الشرق في أذربيجان الحالية، مروراً بالمغرب وتونس ومصر والحجاز والشام والعراق والأناضول، مروراً بمحبوبته نظام التي اكتشف أنها الوتد الرابع حتى وفاته ودفنه في سفح جبل قاسيون بدمشق.
الحب بحاجة إلى خيال، والخيال فسيفساء من الكذبات الصغيرة. يقول ابن عربي.
يعيد علوان تشكيل شخصية ابن عربي بقلمه، ليتجاوز بذلك الجدل الهائل المرتبط بسيرته الحقيقية وأفكاره، فخلال فصول الرواية التي تبدأ بولادة محيي الدين لأب يعمل لدى أمير المرابطين، الذين يحكمون الأندلس، وأم بسيطة ومربيته العجوز التي رسمت له رحلة حياته المميزة، وأن عليه أن يبحث عن "أوتاده الأربعة" في الأرض، والطريق لذلك "طهّر قلبك ليجدك وتدك، ولِتر!"، ويكبر محيي الدين ويتلقى علوم الدين والفلسفة والرياضيات، ويتنقل في بلاط أمراء المرابطين والموحدين ويصاحب الأولياء والأوتاد والعلماء ويسافر ويتزوج ويعشق، ويتعلق أخيراً بنظام التي كتب فيها ديوانه "ترجمان الأشواق"، ويضطر للرحيل عنها ليلتقي بها بعد وفاة أبيها زاهر الأصفهاني، ويكتشف الحقيقة التي بحث عنها طويلاً وغابت عنه!
من الحب الإنساني إلى العشق الإلهي، رحلة علوان تتقاطع مع رحلة ابن عربي
"منذ أوجدني الله في مرسيّة (الأندلس) حتى توفاني في دمشق وأنا في سفرٍ لا ينقطع. رأيت بلاداً ولقيت أناساً وصحبت أولياء وعشت تحت حكم الموحدين والأيوبيين والعباسيين والسلاجقة في طريقٍ قدّره الله لي قبل خلقي. من يولد في مدينة محاصرة تولد معه رغبة جامحة في الانطلاق خارج الأسوار. المؤمن في سفرٍ دائم. والوجود كله سفرٌ في سفر. من ترك السفر سكن، ومن سكن عاد إلى العدم".
بعد أربع روايات ذات طابع رومانسي تتناول الحب الإنساني بين الرجل والمرأة بينها سقف الكفاية وصوفيا ينتقل علوان للعشق الإلهي في روايته الأخيرة التي لا تخلو من الحب الإنساني أيضاً، وهنا تتقاطع رحلة علوان الروائية مع رحلة ابن عربي الصوفية.
ويعتبر محمد العدوي روائياً وكاتب سيناريو، قال لعربي بوست إن الرواية الناجحة هي التي تستطيع أن تأسرك من السطر الأول بلغتها قبل أن تكتشف شخصياتها، وهذا حصل في روايات محدودة مثل الطنطورية لرضوى عاشور، معتبراً أن هذا ما حدث أيضاً مع "موت صغير" التي كانت لغتها غير متكلفة طوعها لخدمة البناء القصصي.
وأضاف أن علوان خرج من حبس رواياته السابقة التي كانت حبيسة نمط معين، وكان ذكياً في اختيار شخصية ابن عربي واللغة المناسبة للشخصية كانت من أهم عوامل النجاح، لأنها بالأساس شخصية ثرية روائياً، وغير غامضة، وتاريخ حياته له مصادر موجودة بالفعل، فلم يحتج لملء فراغات حياته التي عرضها ابن عربي في سفره الأهم "الفتوحات المكية"، وكذلك أعطته الشخصية تنوعاً جغرافياً وسياسياً كبيراً، ومستويات متعددة، مما أعطى لغة سردية مميزة سلسة، رغم أنها أحياناً كانت تشبه اللغة المعاصرة.
جدل الرواية وجدل ابن عربي
وكانت عربي بوست قد حاورت الكاتب محمد حسن علوان قبل شهرين، حينما ترشحت روايته للبوكر، وقال حينها إنه يكتب لأن الكتابة تستهويه فقط، وإن موضوع التصوّف غير مقصود لذاته، مؤكداً: "ما أكتبه على سبيل الفن لا يحمل سوى طريقتي في تخيّل العالم فقط بلا رسائل. أو على الأقل، هذا ما أسعى لأفعله؛ لأن الأمر ليس سهلاً. الإنسان مجبولٌ على التواصل، والكتابة وسيلة تواصل ضخمة. من الصعب أن يقاوم الكاتب رغبته في تمرير رسالة ودعم موقف وتفنيد ادعاء ونشر فكرة وتوبيخ شخص. ولكني أتمنى أن أكون كاتباً بلا رسائل".
ونأى علوان في الحوار بروايته عن مناقشة التصوّف والجدل المصاحب لابن عربي، مكتفياً باستعراض رحلات أحد المتصوفة قبل ثمانية قرون، معتبراً أن حالة الرحيل الدائم التي اكتنفت حياة ابن عربي هي الفكرة الأساسية للرواية، وهي التي بنى عليها التفاصيل الحياتية اليومية لابن عربي، التي لم يرصدها المؤرخون كما اعتنوا بتصوّفه ومذهبه الجدلي.
تأنسن ابن عربي في الرواية وغادر الجدالات العقدية والفقهية والفلسفية والتاريخية، ليحظى بصورة إنسانية متخيلة عبر عنها علوان على لسانه قائلاً "أعطاني الله برزخين: برزخ قبل ولادتي وآخر بعد مماتي. في الأول رأيت أمي وهي تلدني وفي الثاني رأيت ابني وهو يدفنني. رأيت أبي يضحك مستبشراً ببكره الذكر وزوجتي تبكي مفجوعة في زوجها المسنّ. رأيت فتيل دولة المرابطين يطفئه الموحدون في مرسيّة قبل ولادتي، ورأيت التتار يدكّون بغداد دكاً دكاً بعد مماتي. رأيت الأولياء يستبشرون بمولد سلطان العارفين والفقهاء يكبّرون لهلاك إمام المتزندقين. رأيت كل هذا بكشف الله الأعمّ ونوره الأسنى في سنوات قليلة بين برزخين. فانكشفت لي سرعة عبوري وضرورة فنائي في هذا العمر الذي ليس سوى سطر في رسالته الإلهية، لمعة شهاب في سمائه العلوية، أثر خفٍّ في أرضه الواسعة".