هذا الكتاب هدية لمن لا يستطيع قراءته.. لماذا يمثل صندوق النقد الدولي قوة عظمى؟

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/01 الساعة 05:03 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/01 الساعة 05:03 بتوقيت غرينتش

"هذا الكتاب هدية لبني البشر في إفريقيا وآسيا وجنوب أميركا، الذين لا يستطيعون قراءته، لأن سياسة صندوق النقد الدولي قد حرمتهم من الالتحاق بالمدارس"، هكذا يبدأ المؤلف إرنست فولف، الاقتصادي الألماني، كتابه.

إنه كتاب مخيف وصادم، وهو مناسب بشدة لمن يريد أن يفهم كيف "يعمل ويفكر" صندوق النقد الدولي، ولمن يتبع، وما أهدافه المعلنة، وما الدول العشر، وماذا يعني نادي باريس؟ والتداعيات الاقتصادية لشروط الصندوق، وتدخلات صندوق النقد الدولي بشرح مبسط وافٍ بدون تعقيدات اصطلاحية كثيرة.

لا يعتمد هذا الكتاب على أقوال وتصريحات الصندوق المعلنة فقط، لكن يقارنها بقراراته وتداعياتها الفعلية على أرض الواقع، في خلال نصف قرن، منذ نشأته في بريتون وودز، وحتى الوقت الحالي؛ فيجعلك قادراً على رؤية التبعات الفعلية لسياسات صندوق النقد الدولي، بعيداً عن أبواقه الإعلامية، و"طنطنته الفارغة" بمساعدته للدول الفقيرة، وتحسين الأوضاع الاقتصادية للدول؛ فما هو إلا أداة أخرى من أدوات تمكين الدول الصناعية الكبرى، والمؤسسات التجارية من إحكام سيطرتها على العالم، والتحكم في رسم السياسات النقدية بما يتوافق مع مصالحها، الذي لم يكن لينجح لولا تواطؤ سياسيِّي هذه الدول معه.

عند قراءة هذا الكتاب يمكن أن يمر على خيالك شخصية شايلوك، في مسرحية تاجر البندقية للكاتب الإنكليزي ويليام شكسبير، ذلك المرابي الاستغلالي الجشع، الذي اشترط أن يقطع رطلاً من اللحم من أي جزء يختاره شايلوك من جسم أنطونيو النبيل؛ إذا عجز هذا الأخير عن ردِّ 3 آلاف جنيه، التي اقترضها منه، في الموعد المحدد.

هذا بالضبط منهج صندوق النقد الدولي في التدخل بالسياسات الداخلية للدول، وفي فرضه شروطه عليها، على سبيل المثال بانتهاج سياسة التقشف المالي، وتخفيض العملة الوطنية، ورفع معدلات الفوائد، وإلغاء القيود المفروضة على الاستثمارات الأجنبية، وخصخصة المشاريع الحكومية، وأملاك الدولة.

ومع كارثية هذه الإجراءات بالنسبة للطبقات العاملة والفقيرة، سواء بتدهور قوتهم الشرائية لخفض قيمة العملة الوطنية، ورفع الضرائب على الفقراء، وفصل الموظفين، وتقليص الإنفاق على قطاعي التعليم والصحة، اللذين يعانيان بالأساس من نقص في التمويل بتلك الدول، التي تعتبر فيها الأمية والتدهور الصحي من أكبر العوامل المعيقة للتنمية؛ فكل ما يهتم به الصندوق هو تعزيز قدرة الدولة على سداد ديونها وفوائدها، وليس ذلك فحسب، لكنه يجبرها على تعرية أوراقها الاقتصادية، وأوجه إنفاقها، ويطلع على خططها الاستراتيجية.

جدير بالذكر، أن تلك الإجراءات لا بد أن يصحبها كثير من الاضطرابات الداخلية الشعبية للطبقات المطحونة والفقيرة، مثل الانتفاضات العمالية والنقابية، وثورات داخلية، التي تقمعها الحكومات، ويقتل فيها عشرات المواطنين.

ويوضح لنا الكاتب بعض التجارب الفعلية ونتائج هذه الإجراءات؛ فيشرح لنا دور الصندوق في زعزعة الاقتصاد الإنكليزي، بإزاحته من قمة الريادة العالمية، لتحتل الولايات المتحدة الأميركية مكانه.

ومن ثم يأخذنا إلى تجربة تشيلي، ففي نفس الوقت الذى كان هنري كيسنجر، وزير خارجية أميركا الأسبق، يدعم بينوشيه لتنفيذ انقلاب دموي، كان صندوق النقد الدولي يسانده في تنفيذ أقصى سياسة تقشف عرفتها أميركا اللاتينية. وعلى الرغم من انتهاك حقوق الإنسان، إلا أن صندوق النقد الدولي ضاعف من قروضه لتشيلي بعد عام من انقلاب بينوشيه الدموي، وزاد قيمة قروضه أربعة أضعاف، ثم خمسة أضعاف في العامين التاليين.

نتج عن تلك السياسات التقشفية زيادة الفقر؛ فقد ارتفعت البطالة في تشيلي من 3% في 1973 إلى 18.7% فى عام 1975، وبلغ معدل التضخم في الفترة الزمنية نفسها 341%، وتفاوت في الطبقات الاجتماعية ففي عام 1980 استحوذ 10% من سكان تشيلي على 36.5% من الدخل القومي، وفي عام 1989 على 46.8% من الدخل القومي، وتمخضت تلك السياسات عن مقتل 30 ألف مواطن، أغلبهم من النقابيين وطلبة الجامعة.

ومن ثم يستطرد الكاتب في توضيح دور صندوق النقد الدولي في المكسيك والبرازيل، والدور الذي لعبه في يوغسلافيا، وفي تفتيت الاتحاد السوفيتي وإضعافه، وفي أيسلندا.

والفصل المميز بالكتاب هو ما يخص جنوب إفريقيا؛ فربما نيلسون مانديلا ليس ذلك البطل الذي نحسبه. ويعتقد الكاتب أنه لولا الدور الذي لعبه نيلسون مانديلا بالاتفاق مع الصندوق لكان من الحتمي طرد الأقلية العنصرية، وربما كان لجنوب إفريقيا شأن آخر، وأن مانديلا كان الورقة الرابحة، التي استطاع من خلالها الصندوق استعماله لعمل توافق يحفظ وجود الطبقة العليا مثلما هي، خلف أسوارها الأمنية المنيعة، ويراكم من ثروتها، ويزداد السود فقراً ومرضاً أكثر مما كان يحدث فى فترة التمييز العنصري.

ولذلك استحق مانديلا أن تنعيه رئيسة صندوق النقد الدولي شخصياً فى جنازته. وإذا كنت تظن أن الكاتب مخطئ أو أن رواية يوتوبيا ﻷحمد خالد توفيق محض خيال؛ فلتلقِ نظرة على ما يحدث فى جنوب إفريقيا في الوقت الحالي.

جدير بالذكر، أن الكاتب لا يلقي اتهاماته بدون أدلة ومصادر.

وعندما تعلم أن اجتماعات نادي باريس غير مسجلة ولا توجد بها محاضر اجتماعات معلنة، وأن اتفاقات صندوق النقد الدولي مع الدول سرية وغير معلنة، ولا تحتاج إلى موافقة برلمانات الدول المعنية عليها؛ ستدرك خطورة هذه المؤسسة ومدى نفوذها.

وفى نهاية الأمر، لن تجد الحكومات التي تحتاج لسيولة نقدية ملاذاً غير صندوق النقد الدولي، بشروطه التعسفية، وستحمل تبعات السياسات التقشفية للفقراء والعاملين، وتحرمهم من تعليم مناسب، ورعاية صحية وحياة كريمة. وعلى الصعيد الآخر، تتكون في العالم حفنة من الأغنياء، يعجز المرء عن وصف رخائها، ولا تتأثر بالأزمات العالمية.