"لا يمكن لأي بيروقراطية حكومية أن تقتلع عيون أطفالها وتشوه أجساد شعبها بدون أن توفر لنفسها التبريرات، فلم تُشن حرب على الإطلاق إلا بادعاء أنها من أجل السلام، ولكن في الحالة العراقية التبرير كان يُصنع عن طريق الخوف من العنف لا الموافقة أو الخداع، وهكذا تم توريط مئات الآلاف من الناس العاديين فيه.. هذه هي خصوصية عراق صدام الذي وطّد شرعية حكمه بالخوف".
بهذه الكلمات، فسّر الأكاديمي العراقي كنعان مكية، شرعية حكم صدام حسين، في مقدمة كتابه "جمهورية الخوف"، الذي أصدره في العام 1989 باسم مستعار هو سمير الخليل.
الخوف – كما يذهب الكتاب – لم يكن أمراً ثانوياً أو عرضياً كما في أغلب الدول العادية، بل كان مكوناً رئيسياً من مكونات عراق صدام حسين، حيث شكل الرعب أحد أركان وقواعد الحكم البعثي، فيما شكل العنف لغة الدولة.
حتى مشهد اعتلاء صدام كرسي الحكم كان مشهد رعب بامتياز، فبعد انقلابه على أحمد حسن البكر، وفي اجتماع درامي بقيادات الحزب بقاعة الخلد في 22 يوليو/تموز 1979، أعلن صدام اكتشافه مؤامرة على العراق، وكان قبلها قد احتجز ثلث عائلات مجلس قيادة الثورة كرهائن، وضمنها عائلة محيي عبد الحميد رشيد، الذي أُجبر على الاعتراف بأنه جزء من المؤامرة، وسيطر الخوف على جميع من في القاعة لتنطلق الهتافات المؤيدة لصدام في أجواء مرعبة، يقول كنعان عن ذلك المشهد "تفاصيل هذه المسرحية لم تخطر على بال ستالين أو هتلر".
فكيف تحول العراق إلى جمهورية الخوف"؟، كيف أصبح المواطن النموذجي "مخبراً"؟
شبكة معقدة وسرية من مؤسسات العنف
"أعرف الخائن قبل أن يعرف نفسه"، ليست مجرد مقولة رمزية لصدام، ولكنها حقيقة فرضتها طبيعة الأجهزة السرية التي كانت تراقب المواطنين بشكل معقد، عن هذا يقول كنعان في كتابه، "لم يقترب أي جهاز بوليسي في أي فترة من فترات العراق من هذا الإنجاز العجيب، فعراق ما قبل صدام كان يحدد الخيانة في بيع أسرار الدولة للخارج أو الأعمال الانقلابية، لكن صدام وسّع مفهوم الخيانة ليصبح أكثر غموضاً وتجريدية، وصار يشمل أفكار الناس لا أفعالها فقط، ليحل العمل البوليسي محل السياسة".
وشملت مؤسسات العنف، كما يشرح الكتاب:
الشرطة السرية: أحاط صدام العراقيين بشبكة معقدة وسرية من أجهزة الأمن، هي "جهاز أمن الدولة الداخلي"، "الاستخبارات العسكرية"، جهاز "استخبارات الحزب" الأكثر رعباً، وهو منظمة فوقية تراقب أعمال الشبكة البوليسية الأخرى وتتحكم في نشاطات الجيش والحكومة والمنظمات الجماهيرية.
الجيش: استطاعت بنية السلطة العراقية في عهد صدام "تبعيث" الجيش، فتحدد عمله الأساسي في كونه مؤسسة للقهر الداخلي.
ميليشيا البعث: أنياب صدام التي وازن بها قوة الجيش، خوفاً من الانقلاب.
التعذيب كمخطط للتربية وتنمية الخوف
تميز عراق صدام بطقوس خاصة في ممارسة التعذيب، كالشنق العلني وعروض الجثث والإعدامات التي كانت توازي في أهميتها العروض العسكرية، وكان الهدف منها إظهار الفارق الشاسع بين سلطة الجلاد والضحية، فالتعذيب هنا ليس مجرد آلية لكشف حقيقة أو نزع معلومات، بل جزء من جمهورية الخوف.
كما عمل "بعث صدام" على عصرنة "الممارسات العشائرية" – اشتهرت العشائر التكريتية التابعة لصدام بـكسر عين أي شخص غير مرغوب فيه باغتصاب نسائه أمام عينيه -، فأضحى الاغتصاب يُمارس رسمياً على نظام واسع من خلال غرف مخصصة لذلك في السجون العراقية – بحسب المؤلف -.
ومن أجل إرساء أسلوب الرعب في النفوس، نشر البعث شبكة واسعة من المرشدين بين العراقيين، مهمتهم الأساسية ليس التعرف على فاعلي الشر ولكن ربط أكبر عدد ممكن من الأفراد برعب النظام، فالنجاح يتحقق بالدرجة التي يكون فيها المجتمع مستعداً ليراقب نفسه بنفسه بوليسياً.
بالعلم.. ضعوا في كل زاوية ابناً للبعث
شكّل العلم أحد أهم أدوات سيطرة البعث على الجماهير من المهد، فالبعث في مناهج التعليم البعثية حقيقة مُسلم بها، والأطفال من سن العاشرة فيما فوق يبدأ تغذيتهم بالمبادىء البعثية.
وتكمن راديكالية صدام في تطويق الكبار عن طريق أبنائهم الصغار، فعلّموا الطالب أن يعترض على والديه إذا سمعهما ينتقدان الحزب ومنظماته.
"ضعوا في كل زاوية ابناً للبعث".. هكذا كان يخطب صدام حسين الذي جعل علاقة الطفل بالمعلم أشبه بقطعة المرمر البكر في يد النحّات، فانتهك طفولة الطفل العراقي في أدق خصوصيات شخصيته، وكان يقول: "مهمة مدرس الابتدائي تتقدم على مهمة مدرس الثانوي الذي تتقدم مهمته على أستاذ الجامعة الذي يتسلم الطلاب كنتيجة تم تكوين أساساتها التربوية بحيث لا يمكن حدوث تغيير كبير فيها، فالسلطة والقوة في الأسفل".
طبيعة ومصدر سلطة صدام
حوّل صدام الخوف إلى شرط مسبق لشرعيته، من خلال تحكمه في "الصورة"، فانتشرت صوره في كل مكان، في مدخل كل قرية، وداخل كل منزل، تزين كل مدرسة، وكل مركز حكومي، وصدام بجانب أنه الرئيس فهو يرأس عدداً لا نهائياً من الأجهزة، ويلقب بأكثر من 50 لقباً، واسمه يُردد في الإذاعة أكثر من 30 مرة كل ساعة، ويظهر على التليفزيون لعدة ساعات يومياً، الناس تندفع بجانب الطرقات ليشاهدوه وهو يمر.. بهذه الطريقة تعلم العراقيون كيف يخافون صدام.
الحقيقة السياسية خلف كل هذه الصور هي "قوة الخوف"، وبسرعة فائقة اختار العراقيون أن يحيطوا أنفسهم بصور صدام حسين في مكاتبهم ومنازلهم، آملين بذلك أن يدفعوا عن أنفسهم الشر.. هكذا بدأ كل شيء، وهكذا أقبل مئات الآلاف على الالتحاق بالبعث. فصدام كان يردد "اللي يصير بعثي عنده حصانة قد حصانة عمر بن الخطاب".
القومية العربية.. وانسحاب الجماهير
يعزي مكية التدني الفكري في عراق صدام إلى الهيمنة الإيديولوجية للقوميين، فباسم "القومية العربية" استطاع البعث تحويل الأكاذيب إلى حقائق بسهولة، وباسمها أيضاً نكّل بالطائفة اليهودية بالعراق، وهنا يقف كنعان عند نقطة مفصلية، حيث يعتقد أن "تواطؤ" الجماهير في البداية مع أفعال صدام، تحت دعاوى القومية، رفع من حدة الإجرام والخوف في آن واحد، وهذا ما كان يستهدفه صدام من "تدولة" المجتمع العراقي بتوريط الجماهير في العنف، ولا يمكن فهم الدور غير العادي للخوف في العراق – كأيدولوجية وقوة سياسية – إلا من خلال فهم تلك النقطة.
تحول الخوف إلى شبح يحاصر العراقيين، فانسحبوا من الحياة العامة، واشمأزت الجماهير من مجرد فكرة المشاركة في النشاط السياسي، حتى السخرية اختفت، والنتيجة: تجمع سكاني غير قادر على الدفاع عن نفسه، غير قادر على التفكير، وبالتالي أصبح عرضة لتصديق أكثر الأكاذيب خيالاً.
عراق اليوم انعكاس لجمهورية صدام؟
"لقد اخترت أن أنظر إلى البعث من خلال عنفه، فهذه هي المسألة المحورية في مستقبل عراق ما بعد صدام، حيث سيكون البلد الذي تصبح فيه العدالة المطلب الأول لكل فرد، ولكنها ستكون أيضاً أصعب الأشياء".
هكذا وضع كنعان مكية يده على النقطة المفصلية الحاسمة في مستقبل عراق ما بعد صدام قبل سقوطه بـ 14 عاماً، وهو ما حدث فعلاً بعد الاحتلال الأميركي، حيث امتلأ العراق بالعنف، وإلى اليوم ما زال يعاني بحثاً عن العدالة.
ونحو فهم أكثر عمقاً لطبيعة معاناة عراق ما بعد صدام، نعود إلى فشل حرب الكويت التي شكّلت بداية نهاية جمهورية الخوف في العراق، فالحرب وما تبعها من انتفاضة الجنوب 1991 وسنوات الحصار والعقوبات الاقتصادية أجهضت التجربة البعثية، ولا يعود بقاء صدام على هرم السلطة في العراق، منذ ذلك الحين وحتى سقوطه، إلى دهائه في التغلب على الإدارة الأميركية، ولا لخرافة أنه محبوب، ولا بالخوف الذي جاء وحكم به، بل يعود بالأساس إلى ذلك العنصر الجديد الذي أضافه إلى منظومة حكمه، وهو غرس الطائفية في العراق، حيث شكلت مجموعة السنة قاعدته الاجتماعية الجديدة، وهكذا شجع صدام النزعة الطائفية بين السنة والشيعة، وإن لم تخش الطاغية، فلتخش جارك الذي يؤيد الطاغية.