جعلت الثورات العربية، بكل ما فيها من نجاحات وإخفاقات، الجماهير المحط الأول للأنظار؛ فالتحولات التي تمت قبل 6 سنوات من الآن، وأحدثت تغييراً كبيراً على صعيد السياسة والاقتصاد، وشكل التحالفات في المنطقة الشرق أوسطية، كانت الجماهير عنصراً مستخدماً فيها على كافة المستويات.
وسواء كانت تلك الجماهير فاعلة أم مفعولاً بها، فهي حلقة رئيسية في مسلسل أحداث لم ينتهِ بعد؛ ومن هنا تصبح معرفة الجماهير والقرب من خصائصها النفسية ضرورة ملحة لرؤية الصورة بشكل واضح ودقيق.
روح الجماهير.. بداية عصر جديد
في الوقت الذي ظهرت فيه الجماهير على سطح المسرح الأوروبي وهددت النظام الاجتماعي القائم، نجح عالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون في تأسيس مفهوم جديد قائم على ربط علم النفس بعلم السياسة، عرف بعلم نفسية الجماهير.
فمن خلال كتاب "سيكولوجية الجماهير" الذي صدر عام 1895، يمكن فهم العديد من الظواهر وتقديم تفسيرات مرضية للأحداث، فضلاً عن إعطاء الفرصة لتصويب المعتقدات الخاطئة حول الجماهير التي كثيراً ما يساء فهمها.
إذ وجد لوبون أنه من الصعب التنبؤ بالمستقبل؛ نتيجة حالة الفوضى والتشويش التي كانت تشهدها أوروبا في القرن ١٩ بعد الاكتشافات الصناعية والعلمية، وما تبع ذلك من تدمير العقائد الدينية والسياسية والاجتماعية.
فلجأ إلى دراسة القوة المولودة حديثاً المتمثلة في "روح الجماهير"، فلم يمضِ سوى قرن واحد فقط كانت فيه السياسة التقليدية للدول والمنافسات الجارية بين الحكام العوامل الأساسية لتحريك الأحداث، وبذلك تأخذ الحقوق الإلهية للجماهير، محل القانون الإلهي للملوك.
احذر الجمهور النفسي فهو الأقوى
يعتبر غوستاف لوبون أن الجمهور النفسي يتشكل تحت تأثير انفعالات معينة أو حدث قومي عظيم في لحظة من الزمان؛ فتذوب الشخصية الواعية للأفراد، وتسير أفكار وعواطف الوحدات المشكلة للجمهور في اتجاه واحد، مكونةً روح جماعية، تجعلهم يحسون ويفكرون ويتحركون بطريقة مختلفة تماماً عن طريقة كل فرد منهم على حدة، فيشبه المركب الكيميائي الناتج عن خلط عناصر مختلفة، تتداخل مع بعضها البعض، لتشكل مادة جديدة مختلفة عن العناصر المفردة.
فيما لا يقبل الأفراد بذوبان خصوصيتهم وصفاتهم العادية داخل الجمهور إلا لأسباب عقلانية، فالأفراد يكتسبون بواسطة العدد المتجمع شعوراً عارماً بالقوة؛ وبذلك يتخلون عن المسئولية الفردية التي تردعهم كثيراً.
ويشبه غوستاف لوبون حالة الفرد المنضم حديثاً لجمهور هائج بحالة الانجذاب الشديد الذي يشعر به المنوم مغناطيسياً تجاه منوَّمه، فتفقد الشخصية الواعية وعيها، وتُلغى إرادة التمييز والفهم؛ إلا أن القوة الهائجة أقوى لدى الجماهير مما لدى الإنسان المنوم مغناطيسياً، لأن المحرض واحد، وبالتالي يتضخم ويكبر بالعدوى، بحسب ما يراه الكاتب.
هل يلعب الجمهور؟
يصف غوستاف لوبون الجمهور بلعبة واقعة تحت تأثير المحرضات الخارجية، فتهيمن الانفعالات التحريضية المتنوعة، سواء كانت كريمة أو مجرمة وبطولية أو جبانة، على غريزة الجماهير إلى درجة زوال غريزة حب البقاء نفسها.
فتستطيع الجماهير أن تعيش كل أنواع العواطف، وتنتقل من النقيض إلى النقيض بسرعة البرق، وهي أيضاً لا تعترف بالمستحيل، كالإنسان الهمجي، الذي لا يعبأ بأي عقبة تقف بين رغبته وبين تحقيق هذه الرغبة، فكثرة العدد تشعر الجماهير بامتلاك قوة لا تقاوم.
الثورات والانتفاضات ظواهر عابرة
يبدي الجمهور -بحسب غوستاف لوبون- سذاجة وسرعة تصديق منقطعة النظير تجاه المقترحات والأوامر التي يستقبلها.
كذلك تنتشر الأساطير بسهولة في أوساط الجماهير، وتنم عن تضخيم هائل للأحداث في مخيلة الأفراد المحتشدين؛ ولذلك فشهادات الجماهير التاريخية ليس لها قيمة.، بحسب ما يراه لوبون.
فضلاً عن ذلك، تتميز عواطف الجماهير بطابع مزدوج؛ فهي مضخمة جداً أو مبسطة جداً، ما يحميها من عذاب الشكوك وعدم اليقين.
فيما يصنف غوستاف لوبون الاستبداد والتعصب على أنها عواطف واضحة جداً للجماهير، فهي تحترم القوة ولا تميل إلى احترام الطيبة، التي تعتبرها شكلاً من أشكال الضعف، فإذا كانت تدعس بأقدامها الديكتاتور المخلوع، فذلك لأنه فقد قوته ودخل في خانة المحتقرين غير المهابين.
ويشير غوستاف لوبون إلى أن الاعتقاد بهيمنة الغرائز الثورية على الجماهير يعني الجهل بنفسيتها؛ فانفجارات الانتفاضة والتدمير من حين لحين ليست إلا ظواهر عابرة ومؤقتة، فالجماهير محكومة كثيراً باللاوعي، وخاضعة لتأثير العوامل الوراثية التي تجعلها محافظة.
الأكثر استحالة الأكبر تأثيراً!
يشير لوبون إلى أن الأفكار لا يمكن أن تهيمن على الجماهير إلا إذا اتخذت هيئة بسيطة، وتجسدت في نفوسها على هيئة صور، ويمكن للأفكار الأكثر تناقضاً أن تؤثر في الجمهور، الذي لا يستطيع كشف تناقضها لانعدام الروح النقدية لديه.
ويضيف أن الجماهير تقوم بعمل ترابطات بين أشياء متنافرة، وتعمم حالات فردية وخاصة، وهما الخاصيتان الأساسيتان للمنطق الجماعي.
كما ينطلق لوبون للحديث عن خيال الجماهير، فهو يشبه حالة النائم الذي يتعطل عقله مؤقتاً، ويترك نفسه عرضة لانبثاق صورة قوية ومكثفة جداً، لكنها سرعان ما تتبخر على محك التفكير، وتعتبر الجماهير أن الأشياء الأكثر استحالة الأكثر إدهاشاً وتأثيراً عادة.
وأيضاً تؤثر في مخيلة الجماهير الصور الصريحة الخالصة من كل تأويل ثانوي، أو المصحوبة ببعض الوقائع العجيبة الساحرة، مثل النصر الكبير، أو المعجزة الكبيرة، أو جريمة كبيرة، أو أمل كبير.
ويرى لوبون أن قناعات الجماهير تتسم بالخضوع الأعمى والتعصب العنيد وحب الدعاية العنيفة الملازمة لكل عاطفة دينية، وبالتالي تُلبس كل عقائدها زياً دينياً، فالبطل الذي تصفق له الجماهير هو بالفعل إله لها، ويقول غوستاف لوبون: "لن نستطيع أن نفهم قليلاً فلسفة التاريخ إلا بعد أن نفهم هذه النقطة الأساسية الخاصة بنفسية الجماهير؛ أقصد ينبغي على الحاكم أن يكون إلهاً بالنسبة لها أو لا يكون".
سمح لنا غوستاف لوبون الذي رحل في 1931، بأن ننظر إلى الجماهير من زاوية علمية وتاريخية، عكس فيها المزاج النفسي للجماهير الأوروبية قبل قرن من الزمان، وهو المزاج الذي تتلاقى فيه كثير من الشعوب في طور التغيير، وتتلامس معه الجماهير العربية اليوم، ومن خلال كتاب "سيكولوجية الجماهير"، الذي نقله للغة العربية هاشم صالح ونشرته دار الساقي اللبنانية سنة 1991، يمكننا استنباط العبر واستخلاصها حول قيادة مخيلة الجماهير.