يستاء أغلب المواطنين في العراق وحتى العالم العربي عندما تستخدم بعض القنوات التليفزيونية أو وسائل الإعلام بصورة عامة مصطلح" القتيل" عن القتلى سواء كانوا من المدنيين أو من قواتهم المسلحة، وفي العراق خاصة قتلى "الحشد الشعبي" والجيش العراقي، ويعدون وسيلة الإعلام تلك خارجة عن مفاهيم الوطنية ويزايدون على مهنيتها وحياديتها.
في نظرة مبسطة لكلمة "شهيد"، فهي تعبير ديني إسلامي يراد به حالة معينة غيبية عن بني البشر، فلو بحثنا في القرآن الكريم لا نجد كلمة "شهيد" بهذا المعنى أبداً، وإنما لها معانٍ أخرى حسب السياق والمراد من الآيات. لكن، سنجد لفظة "شهداء"، وهي المراد بها القتيل في المعارك؛ ليكون بعد ذلك من المصطَفَين من قِبل الله تعالى ليكون من "الشهداء"، وجاءت عدة آيات في القرآن للتعبير عن هذا المعنى، منها قوله تعالى: "وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ، وَاللّهُ لَا يُحِبّ الظّالِمِينَ" [سورة آل عمران: 140]، فهو اصطفاء من الله لأحد البشر، وهو أمرٌ غيبي لا يمكن لأحد أن يعلمه.
أما لفظة "قتيل" ومشتقاتها، فهي السائدة في القرآن، وجاءت بنحو 80 مرة، بعضها تخص الأنبياء؛ مثلاً: "وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ"، و"قلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ"، حتى لو كان المعنيّ هو النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- فقط "وَمَا محمد إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُل، أَفَإِن مّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ". فنجد هنا أن الآيات تخص الأنبياء والمرسلين وتصفهم بالقتلى وليس بالشهداء.
فعند وصف وسائل الإعلام القتلى بهذه الكلمة، فهي لا تستنقص منهم ولا تنال من قدرهم، وكذلك لا ترفع من شأنهم أو تخترع لهم مقعداً في الجنة لتقول عنهم "شهداء" وهو مصطلح غيبي ميتافيزيقي. وهذا يعني أن استخدام هذه اللفظة للتعبير عن حالة معينة هو الأفضل لوسائل الإعلام العراقية والعربية؛ كي لا تقع في تناقضات لا يمكنها بعد ذلك الخروج منها، خصوصاً أن في العراق تعيش عدة مكونات وأديان ومذاهب؛ فهناك على سبيل المثال الإيزيديون واليهود والمسيحيون والكاكائيون وغيرهم، وأغلب الديانات لا يروق لها هذا المصطلح، أو على الأقل لا تؤمن به، أو إيمانها بالحياة الأبدية مختلف.
ومن ثم، لا يمكن أن نطلق هذا الوصف على الإيزيدي أو الصابئي أو غيرهما من أتباع الأديان التي لا تؤمن بالقتال في سبيل الله كما هو الحال عند المسلمين. فلو افترضنا أن الإيزيديين يستخدمون مصطلح "الارتفاع إلى السماء" للتعبير عن القتل، فلن يكون مناسباً للمسلمين استخدامه؛ لأنه يناقض عقيدتهم التي تعتقد أن الجسد باقٍ في الأرض وهم دفنوه بأيديهم. وهذه في الحقيقة إشكالية واضحة، خصوصاً في دولة تتشكل من أديان مختلفة مثل العراق، وحتى تلك الدول التي يغلب عليها دين واحد أو مذهب واحد، وهو ما حدث فعلاً في المملكة العربية السعودية، حيث كانت القنوات ووسائل الإعلام عامة تستخدم لفظة "قتيل" لقتلى البلدان الأخرى، لكن عندما بدأت التفجيرات تضرب بعض المدن السعودية عبرت عن مواطنيها القتلى بـ"الشهداء". ولغاية الآن، القتلى العراقيون "قتلى" والقتلى السعوديون "شهداء"، وهو تضارب وتناقض غير مبرر.
ولا يقتصر الأمر على السعودية فقط لكنها مثال، وحتى قناة الجزيرة، التي من المفترض أن سياستها التحريرية واضحة وتتبع ميثاقاً مهنياً تدّعي الالتزام به، انخرطت في الجدل الحاصل في تلك المصطلحات واستخدمت مصطلح "شهيد" للقتلى الفلسطينيين حصراً، وتدخّلت عند ذلك الفتاوى الدينية باعتبار أن الفلسطينيين يقاومون الاحتلال الإسرائيلي المغتصِب لأرضهم. لكنّ الغريب أنه حتى الذي يموت على الحدود الفلسطينية ولم يسمع بإسرائيل طيلة حياته ولم يقاوم مع المقاومين أيضاً هو "شهيد"، المهم أن جنسيته فلسطيني! والغريب أيضاً أن القتلى العراقيين على يد القوات الأميركية منذ عام 2003 هم قتلى بنظر "الجزيرة" وليسوا "شهداء"، رغم أنهم أيضاً تحت اضطهاد الاحتلال الأميركي ومنهم من قاوم الاحتلال، إلا إذا كان هناك فرق بين الاحتلال الإسرائيلي والأميركي، فهذا بحث آخر!
فإذا كانت تلك المعطيات على صعيد الواقع الإعلامي العربي، فلا بد من منطلقات حقيقية وواقعية تؤسس لسياسة تحريرية واضحة لا لبس فيها ولا غموض، وتستخدم ألفاظاً تعبر عن المعنى دون إعطائه أبعاداً سياسية أو دينية، وتتعامل مع كل الطوائف والأديان والبلدان بالسياسة نفسها، وتعمل على تعزيز المشتركات بين بني البشر ما داموا على الأرض ولم يفارقوا الحياة، وتحاول تأطير الفوارق الدينية والمذهبية بما لا ينعكس سلباً على الأداء المِهني لوسائل الإعلام، وفي القضية متسع طالما يسندها الدين والعقل وحتى اللغة العربية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.