تعدُّ مدينة حلب أكبر مدينة في سوريا، كما أنها من أقدم مدن العالم، إذ أعلنت منظمة اليونسكو مدينة حلب القديمة جزءاً من التراث العالمي عام 1986.
وعلى مدار تاريخها، توالى على حكم حلب العديد من القوى الحاكمة متمثلةً في عشرات الإمبراطوريات، والدول العالمية، والإقليمية.
دعنا نتعرّف في هذا التقرير على أشهر الإمبراطوريات التي حكمت مدينة حلب على مر العصور.
الإمبراطورية السلوقية.. والرومانية والفارسية
كانت حلب أو "بيرويا" ضمن إمبراطورية الإسكندر الأكبر التي تركها بعد وفاته عام 323 قبل الميلاد، قبل أن يحدث صراع على السلطة انتهى بضم سوريا إلى الإمبراطورية السلوقية بقيادة لاوميدون؛ أحد جنرالات الإسكندر الأكبر، وكان هذا في العصر الهيلينستي (الفترة التاريخية بعد وفاة الإسكندر الأكبر)، وقد استمر حكم السلوقيين حوالي 300 عام.
انتهى الحكم السلوقي عام 88 قبل الميلاد، بعدما أصبحت حلب أو بيرويا جزءاً من الدولة الأرمنية بقيادة الملك ديكرانوس الثاني، واستمر هذا الحكم 24 عاماً، وقد استطاع القائد الروماني بومبيوس الكبير الاستيلاء على المدينة عام 64 قبل الميلاد، لتصبح بذلك مقاطعة رومانية.
ازدهرت المدينة في العصر الروماني، فكانت ثالث أكبر مدينة في العالم الروماني، وتعتبر فترة حكم الإمبراطورية الرومانية أطول فترات الحكم لمدينة حلب حيث استمرت لأكثر من 3 قرون، ثم بدأت الإمبراطورية البيزنطية كامتداد للإمبراطورية الرومانية عام 476 ميلادية.
يذكر أنه في عام 540 ميلادية، قام الفرس بإحراق حلب بقيادة الملك كسرى الأول فيلسوف الدولة الساسانية، وذلك بعد نقضه لمعاهدة السلام الأبدية مع الإمبراطورية البيزنطية عام 532 ميلادية.
وقد استطاعت الإمبراطورية البيزنطية استعادة المدينة مرة أخرى، قبل أن يتجدد اعتداء الفرس عليها مرة أخرى عام 608 ميلادية؛ لتستمر بذلك الدولة الساسانية حتى عام 622 ميلادية عندما أعادتها الدولة البيزنطية تحت إمرتها مرة ثالثة.
الحكم الإسلامي
ظلت حلب كغيرها من دول الشام تحت الحكم الروماني ومن ثمّ البيزنطي قرابة سبعة قرون، عانت فيها بلاد الشام كلها من الظلم الاجتماعي بسبب فرض الضرائب الباهظة على عامة الشعب لسد احتياجات الإمبراطورية العسكرية، واستمر ذلك حتى حرب حلب عام ٦٣٧ ميلادياً بين الروم والغساسنة من جهة، وبين الجيوش الإسلامية من جهة أخرى تحت قيادة خالد بن الوليد.
وبعدها أصبحت سوريا ولاية تابعة لمركز الحكم الإسلامي، بقيادة أبي عبيدة بن الجراح ثم تتابع الخلفاء على حكمها، حتى عصر الدولة الأموية، حيث كانت سوريا الولاية الوحيدة التي خضعت مباشرةً للحكام الأمويين، وأصبحت عاصمتهم، حيث تمتّعت بازدهار اقتصادي واستفادت من فائض الأموال التي كانت ترسل لبيت المال فيها، بالإضافة إلى ازدهار التجارة مع الشرق.
تبعت حلب بعد ذلك للدولة العبّاسية، وأصبحت سوريا خلال هذه الفترة مجرّد ولاية تابعة للدولة العباسية، حيث خسرت مكانتها كمركز للدولة، لكن وضعها الاستراتيجي أجبر الحكام العباسيين على الاهتمام بها، ولكن سرعان ما تدعورت الأوضاع في فترة حكم هارون الرشيد وخلال صراع ولديه الأمين والمأمون.
أتبعها خلافة المعتصم، فيما بدأ الاعتماد على الأتراك حتى سيطر أحمد بن طولون على سوريا عام ٨٧٧، واستمر حكم الطولونيين حتى عام ٩٠٥، ثم عادت سوريا إلى الخلافة العباسية فترة قصيرة، ولكنها لم تلبث أن خضعت للأخشيديين سنة ٩٤١.
وقد دخل الحاكم العباسي سيف الدولة الحمداني حلب سنة ٩٦٨، وبعد ذلك استطاعت الدولة البيزنطية إخضاع حلب تحت حكمها، فيما فرضوا عليها إتاوة سنوية تدفع لهم، ثم خضعت سوريا بعد ذلك لنفوذ الفاطميين، ثم الأتراك والسلاجقة الذين دافعوا عن المدينة ضد الصليبيين.
المغول.. استيلاء متكرر للتخريب وسرقة الخيرات
ظلّت حلب تحت حُكم الدولة الأيوبية منذ عام 1183، حيث كان يحكمها ابن صلاح الدين الأيوبي الملك الظاهر غياث الدين غازي حتى تُوفي عام 1193، واسّتمر حكم حلب في أسرة الظاهر غياث الدين غازي حتى سقوطها بيد المغول عام 1260 بقيادة هولاكو.
ظلّت حلب تحت حكم المغول في هذه الفترة القصيرة، حتى قيام الملك الظاهر بيبرس بإرسال قواته عام 1261 لاستعادة المدينة ونجح في ذلك.
وفي عام 1271، عاد المغول مرة أخرى لغزو حلب بعد إلحاح من الملك إدوارد الأول، ملك إنجلترا ليستولي المغول على حلب، حيث قاموا بتخريبها بتدمير الجوامع والأسواق، ولكن الظاهر بيبرس أعد جيشاً قوياً وتمكّن من طرد المغول عن حلب مرة أخرى.
وللمرة الثالثة، قام المغول بالاستيلاء على حلب، وذلك في عام 1280، ولكن القائد المملوكي سيف الدين قلاوون جهّز قواته للرد وطرد المغول من حلب إلى ما بعد نهر الفرات.
وأخيراً في عام 1400، قام القائد المغولي تيمور لنك بغزو المدينة، ثم رحل عنها بعدما تركها خاوية على عروشها؛ لذا تعتبر تلك الفترة أقصر فترات تواجد الإمبراطوريات داخل مدينة حلب.
حلب تحت الحكم العثماني
نجح العثمانيون في تشييد إمبراطورية كبرى، وكانت حلب واحدة من المدن التابعة لها بعد السيطرة عليها إبان دخول الجيوش العثمانية إلى سوريا، عقب تغلُّب السلطان العثماني سليم الأول على المماليك في معركة "مرج دابق" عام 1516 م، معلناً بذلك انتهاء حقبة المماليك وبدء عهد العثمانيين.
وقد تعرَّض اقتصاد حلب إلى ضربة موجعة عقب إنشاء قناة السويس عام 1869، والذي أثر عليها سلباً وأفقدها مكانتها حتى تدهورت رويداً رويداً، فيما انتعشت مدينة دمشق، وعاشت حلب عقب ذلك فترة من التخبط السياسي والنزاعات الداخلية التي عصفت بها مع نهاية الحرب العالمية الأولى.
قضت معاهدة سيفر( إحدى المعاهدات الموقعة عقب الحرب العالمية الأولى) بتبعية حلب إلى سوريا، وقد عارض القائد العثماني وأول رئيس لتركيا مصطفى كمال أتاتورك ذلك، وتمسك بضم حلب إلي الأناضول وحارب لاستقلال تركيا.
لكن في النهاية جاءت النتائج كارثية على حلب، فمع عقد معاهدة لوزان (معاهدة سلام قادت لاعتراف دولي بالدولة التركية) تم انتزاع معظم مقاطعة حلب باستثناء حلب نفسها والاسكندرونة (تقع ضمن محافظة هاتاي التركية حاليًا) وقطعت الروابط التجارية بينها وبين الأناضول، إلى أن جاءت معاهدة سايكس بيكو وقطعت حلب من كل الأوصال العثمانية.
الانتداب الفرنسي وتقسيم سوريا للشكل الحالي
كانت سوريا ولاية تابعة لفرنسا منذ عام 1919، وحتى عام 1946، وقد شن السوريون تمرداً ضد الانتداب الفرنسي نتيجة للشعور القوي بالوطنية خاصةً في سوريا خلال الفترة بين ديسمبر/تشرين الأول 1919 ويوليو/تموز 1920 ولكنه باء بالفشل.
وقد قامت فرنسا بإعادة تقسيم سوريا إلى دويلات أصغر، وكانت حلب ودمشق أكبر تلك الدويلات، بالإضافة إلى ذلك، أنشأت فرنسا الأقاليم العلوية، وأخيراً تم تقسيم الأراضي السورية حتى بقيت على هيئتها هذه إلى وقتنا الحالي، ومن ثم انفصلت لبنان لتصبح ولاية مستقلة عن سوريا.
جرى التوقيع على معاهدة جديدة تضمن لسوريا الاستقلال؛ وجاء هذا الاستقلال عن فرنسا تدريجياً على مدى 25 عاماً، في المقابل احتفظ الفرنسيون بحق الوصول العسكري إلى سوريا، وقد اضطر السوريون للانتظار حتى عام 1946 لتحقيق الاستقلال الكامل بعد أن اضطرت بريطانيا العظمى الفرنسيين بالجلاء عنها.
سوريا ما بعد الاستقلال.. حلب مقابل دمشق
شهدت فترة ما بعد الاستقلال زيادة حادة في حالة التنافس على الريادة بين حلب والعاصمة دمشق، وكان السبب الحقيقي وراء ذلك هو إعراب حلب عن رغبتها في اتحاد فوري بين سوريا والعراق الهاشمية، مما تعارض مع رغبة دمشق في اتحاد سوريا مع مصر والمملكة العربية السعودية.
ولم يكتفِ هذا الاختلاف بحدوث حالة من الاحتقان بين كل من حلب ودمشق وحسب، بل أدّى إلى فصل الكتلة السورية المتحدة وولادة حزبين بمذاهب فكرية مختلفة أحدهما بدمشق وسُمي الحزب الوطني عام 1946، والآخر بحلب وسُمي حزب الشعب عام 1948، كما أبدت حلب رغبتها بنقل العاصمة من دمشق إلى مدينة أخرى وتركت النقاش مفتوحاً حول هذا.
انقلابات متوالية.. وحلب باقية
شهدت سوريا أول انقلاب في الشرق الأوسط والعالم العربي في مارس/آذار 1949 بقيادة الضابط الحلبي حسني الزعيم الذي اتصف بديكتاتوريته، وفتح هذا الباب الكثير من الانقلابات بعد ذلك، ففي أغسطس/آب 1949 قام الضابط الحلبي سامي الحناوي بانقلابٍ مع الحزب الشعبي لتحقيق الاتحاد مع العراق، وهذا ما حرَّض على انقلابٍ آخر بقيادة أديب الشيشكلي لمنع هذا الاتحاد الذي كان على وشك أن يُعلن، ولكن سرعان ما ارتخت قبضة الشيشكلي وانهارت هيمنته على البلاد عام 1954.
إلى أن تم إعلان وتنفيذ الوحدة الوطنية بين مصر وسوريا عام 1958 في عهد جمال عبد الناصر، ولكن سرعان ما انهارت هي الأخرى بعدما قام بعض الشباب السوري بانقلاب للانفصال عن مصر.
وقد تولى الرئيس السوري السابق حافظ الأسد الحكم عام 1970، بعدما فشلت محاولات عديدة لاستعادة الوحدة بين مصر وسوريا، وعمل على زيادة قوة الاقتصاد السوري في دمشق ما أصبح شاقاً على حلب منافستها، وبالتالي لم تعد حلب العاصمة الاقتصادية أو الثقافية لسوريا إلى أن سُميت من قبل منظمة العلوم والثقافة الإسلامية (اليونسكو) باسم عاصمة الثقافة الإسلامية عام 2006.
حلب والثورة السورية
بدأت الثورة السورية في فبراير/شباط عام 2011 ضمن موجة ثورات الربيع العربي، مطالبةً بمجموعة من الإصلاحات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية. وكغيرها من الثورات تمت مواجهتها بالقمع من قِبل عناصر الأمن النظامي ممّا آل إلى مقتل مجموعة من الثوار، فتغيَّرت مطالبهم إلى إسقاط نظام بشار الأسد.
وكانت حلب ركيزة كبيرة في الثورة السورية، إذ تكرّرت المظاهرات في حلب وغيرها من المدن السورية، فيما حاصر الجيش العديد من المدن السورية التي تخرج فيها المظاهرات، مما دفع المتظاهرين في حلب إلى الخروج للاحتجاج.
وفي 30 يونيو/حزيران، خرجت مظاهرات من حلب تحت عنوان "بركان حلب،" مع حلول العام 2012، بدأت عمليات التفجير التي تستهدف قوات أمن النظام السوري، في أواخر يوليو/تموز 2012 بدأت التفجيرات تتخذ شكلاً أكثر تدميراً.
أما في العام 2013، استقرّ الجيش السوري في منطقة غرب حلب، بينما الثوار في المنطقة الشرقية.
وفي 2014، كان التدمير قد حلَّ بمدينة حلب، ومبانيها التاريخية، وبينما كان الوضع مُتأزماً، تم إجراء "انتخابات رئاسية" فاز فيها بشار الأسد بنسبة تعدَّت 88% من أصوات الناخبين.
ثم بدأت "معركة حلب الكبرى" في نهاية يوليو/تموز، الماضي، حيث سيطرت قوات المعارضة على غالب حلب لفترة، ولكن ما إن استقرت أحوالها حتى بدأت أسهم النظام في الصعود.
وفي 12 ديسمبر/كانون الأول 2016، سيطر الجيش على مدينة حلب بأكملها وفقاً لما أعلنه التليفزيون السوري، بينما الوضع الإنساني لا تسأل عنه خبراً!