كوني پالمن
ترجمة: ميادة خليل
في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2007 طلب هانس فان ميرلو من الكاتبة والفيلسوفة الهولندية كوني بالمن للزواج، في 11 نوفمبر 2009، في اليوم الذي أكملا معاً 11 سنة و11 يوماً، تزوجا، في 11 مارس/آذار 2010 وبعد مرض دام لستة أسابيع، توفّي السياسي والصحفي الهولندي هانس فان ميرلو. بعد 48 يوماً من وفاته بدأت بالمن بالتدوين من 28 أبريل/نيسان 2010 إلى 18 مارس 2011.
سجلّ الأحداث (Het logboek) هو بمثابة تقرير لذكريات حزنها على زوجها المتوفّى.
الملاحظات الأولى: 28 أبريل 2010 (48 يوماً بعد وفاته)
كنت سأكتب رواية اسمها "يهوذا"، وعندها توفي زوجي.
39 كغم، فم ممزق، حلق ملتهب، وفكان مطبقان، المعدة تشكو، الأمعاء تنتحب بصوت مزعج من الخواء، القلب تتسارع دقاته، يخفق بشدة، يضخ، رغم كل الصعوبات. داخل الجسد بارد تماماً، وخارجه ينهمر العرق مثل الدموع على جانبيه، في الليل السرير متجمد من الأغطية الباردة المبللة. رغم أن الألم حسي ومُمرض، يبدو لي أن الأعضاء لا تنتمي له، كما لو أنها تهدر بعيداً عني.
لا يمكنها أن تُمثلني
لا يمكن لأي شيء أن يُمثلني
لا تُمثل أحداً
أنا عجز هائل
شغف مستمر، رغبة مندفعة إلى رؤيته وإلى حبه، جسده الرائع المغلف بذلك الجلد المسمر، وجهه الجميل المقرف، فمه، صدره، ساقاه وذراعاه، يداه. أريد الذهاب إليه، أن أكون معه، يحيط بي، في داخلي. ذكريات الجنس طوال تلك السنوات تهاجمني عشرات المرات كل يوم، مشاهد قصيرة، ومضات من الصور تنطلق بوتيرة عالية، بلا تسلسل زمني وبلا صوت.
نِمنا في السنتين الأوليين إلى جانب بعضنا على فراش طوله 140 سم، طوله نحو 190 سم، وطولي نحو 160 سم وبنصف وزنه، عندما يستدير لينام على جانبه الآخر، يجذبني مثل قرد من ظهره ويضعني على التواء جذعه وساقيه المثنيتين.
"يمكنكِ أن تضعينا معاً على طاولة الكي" طمأن الخادمة التي أبدت قلقها بشأن سرير الضيوف الصغير.
منذ أسابيع وأنا أحبذ البقاء في سريرنا تحت غطاء وحشته ووحشتي، في السرير أكون معه، مع حزني لخسارة زوجي الرائع، كل صوره تسلبني أنفاسي، كان لطيفاً جداً، محبوباً جداً، جميلاً جداً، جذاباً جداً.
يستخدم الحزن في الجسم نفس لغة الحب، ليس هناك أي فرق، أجهزة الجسم السخيفة تبث القلق والشهوة دون أن تميّز الفرق بين الرغبة إلى الميت والرغبة إلى الحي. القلب، الأمعاء، المعدة، الجلد، تبدأ معاً بالرثاء للفقد، ذلك المزيج من الخوف والرغبة، حالة الشك لدى العاشق الذي يرغب الذهاب إلى الآخر؛ ليعرف إن كان لا يزال على قيد الحياة، ذلك الحب، أو إن كان قد توفي في لحظة غفلة منه، اختفى تماماً، يحدث هذا.
العشاق مذعورون
منذ لحظة اللقاء والعاشق يعد نفسه غير كافٍ، لا يعرف كيف يتعامل مع جسمه، غير مدرك أنه شيء منه؛ لأنه مريض بالحب، مُعتل، تحول إلى حاجة رغبة كاملة، إلى شيء لا ينتمي له يعمل كما لو أنه موجود على مسافة بعيدة جداً من ذلك الجسم الآخر، أعضاء العاشق المشتاقة تهدأ فقط عندما ترى الآخر، تشمه، تلمسه.
هو الوحيد الذي يمكنه تهدئة جسمي، وهو ميت الآن.
الحزن عشق بلا خلاص.
أنا مرعوبة من دونه.
ما عدا أغنية "" target="_hplink">Un jour tu verras" بصوته، تتردد دائماً في رأسي جملة من مسلسل تلفزيوني عن آني إم. خي. شميت. "أفضل أن أضعك في صندوق"، توقفت بعد عدة أسابيع، لا ترتيل، لا أغاني بعد الآن.
من غير المفهوم أن شخصاً يعيش هذا ويبقى على قيد الحياة، يتبع أخي الأصغر في المنزل كل تحركاتي ويعتني بي، ذات مساء استأذنت منه السماح لي بالموت، لم يعطني الإذن، حسناً، قال: لا آذن لكِ.
للقلب المهجور أتناول بروبرانولول، محصر البيتا، للمعدة المتذمرة أتناول أوميبرازول، أود لو أتناول حبة ضد الحياة لكي أبتعد لبعض الوقت.
الخجل عندما أخرج لأول مرة إلى الشارع بعد عدة أسابيع، وأنا أتنهد، ألهث، أتأوه، نادراً ما أخرج دونه، إذا لوحظت أعرف أن الآخرين لا يرون أي إنسان.
أنا لست إنساناً.. أنا مجرد شيء سخيف.. البعض يضربون بيدهم على أفواههم عندما يتعرفون عليّ.. ما إن أخرج أسمع دوي صفارة سيارة الإسعاف.
أتذكر أني سمعتها من قبل، مع الموت السابق*، لكن عندها كان هناك وجود لسيارة الإسعاف، لكن الآن لا، أتخيل ذلك باستمرار في ذلك الوقت مع أني لم أشهده، الانهيار، الوفاة، كيف شدو جسده على نقالة الإسعاف، كيف أنزلوه الدرج الضيق، ووضعوه في سيارة الإسعاف وغادروا الشارع مع نحيب صفارة الإسعاف، عبر المدينة إلى المستشفى، وأنه كان ميتاً بالفعل في سيارة الإسعاف هذه ولا سبيل لإنقاذه، لكن الموت الجديد كان أقل سرعة.
هل لهذه الهلوسة السمعية علاقة بما قلته له عندما سمعتها بالفعل: شخص ما في محنة؟
أم أن صفارة الإسعاف هي بديل حضري لأجراس الموت في القرية: إشارة إلى حزن يحتدم في أحد المنازل؛ لأن هناك شخصاً يحبونه قد مات؟ موسيقى من الألم، إعلان الحزن على الملأ: في قريتك، في مدينتك حدث شيء رهيب.
الهلوسة الحسية في الليل ممتعة، عندها أشعر بيده على رأسي حيث تختفي كما لو أنها اختفت في عش، أحياناً أشعر بها باردة مثل راحة يد ميتة؛ حيث أضع رأسي كل مساء طوال أسبوع، أحياناً أشعر بها دافئة كما لو كانت حيّة، باردة ودافئة، لا أجرؤ على الحركة خشية أن يختفي هذا الوهم.
بعد عدة أسابيع توقفت هذه الهلوسة أيضاً، ليس هناك يد على رأسي بعد الآن، لا أوهام بعد الآن.
هناك اختلاف بين موت وآخر، ذهول الموت المفاجئ يستمر لعدة أشهر، مع الموت الذي يسبقه المرض يبدأ الحزن في الحياة، دون أن تفقد الأمل، دون أن تدرك أنه ليس مريضاً لكنه على فراش الموت، الحزن على أن الحياة ما زالت مستمرة، أنك تتمسك بالحياة بينما أنت تودعها، أنت لا تؤمن بالموت، لا يمكنك تخيّله، شيء لا يُصدق، لكنه حقيقي.
أستيقظ كل صباح في الخامسة والنصف تقريباً قبل أن تبدأ العصافير بالتغريد، أستيقظ بشكل مختلف عما كنت عليه مع الموت الأول، عندما كان الوعي بالواقع يحتاج إلى أجزاء من الثانية لكي أدركه ويكسرني إلى شظايا لبقية اليوم، أستيقظ الآن مع مزيج من الألم وشيء من السعادة فيما يخص الصحوة.
أنا من جديد
بمجرد أن أفكر به، أتخيّل أنه لم يعد وحده في هذا الموت، إذا أجبت على مضض على سؤال لا أريد الإجابة عنه، أتلعثم، أقول: أنا متّ بين ذراعيه.
سألني البعض بعد أسبوع أو أسبوعين إن كنت أكتب الآن، يا إلهي، بالطبع لا، أي فكرة هذه، أولئك الذين يسألونني لا يعرفون أي شيء عن الجحيم الذي وقعت فيه، أنت لا شيء في هذا الجحيم، لا تستطيع أن تفعل أي شيء، في الوقت الذي بدأت فيه كتابة هذا، سجل أحداث سنة قاسية، بعد 48 يوماً من وفاته، أنكرت ما أقوم به، أقول إنك لا تستطيع تسمية هذا كتابة، لكني أدوّن ملاحظات عن الحب والموت، ما أقوم به ليس له علاقة بالكتابة، أقول: مجرد خربشة بالقلم على جلد الألم، أفعل هذا لأني أعرف أنك نسيت هذا، رعب الأشهر الأولى من السنة الأولى، أنت نسيتها مثلما تنسى وجع أسنانك، أو كما ينسى الرجل ما قيل له عن آلام المخاض، أنت تعرف أن هذا كان مزعجاً، فظيعاً، أفظع ألم شعرت به في حياتك، لكنك لم تعد قادراً على الشعور بعد الآن.
النسيان يلزمه الهدف
لا أحد سوف ينجب طفلاً أو يحب شخصاً آخر إذا عرف كم هو مؤلم أن تحصل على المحبوب وفي يوم ما يجب أن تخسره، كما حدث تماماً منذ خمسة عشر عاماً، عندما تسلل الموت لأول مرة، كنت أبحث عن آخرين يمكنهم أن يخبروني إن كان قد حدث هذا معهم أيضاً، هذا الحزن المذهل، حاولت أن أقيس حزنهم الماضي وأقارنه مع حزني، أريد أن أعرف إلى متى سيستمر هذا التعذيب، وإن كان هناك طريقة لتقليل المعاناة بعض الشيء، ولو قليلاً.
فشلت في الحصول على إجابة، ما إن أبدأ في الحديث عن الألم حتى أرى كيف يتسلل شيئاً من اللاجدوى إلى الوجوه، ذكرى لا يمكنهم أن يفعلوا إزاءها شيئاً.
كان هذا فظيعاً، يقولون، وسوف يستمر طويلاً لسنوات طويلة.
أدوّن هذه الأحداث ضد وداع النسيان؛ لأني لا أتحمل المزيد من الوداع بعد الآن، لا تستطيع أن تسمي هذا كتابة، أنت تكتب إذا كان لديك شكل، بنية تربط الجمل مع بعضها البعض، عدد من الأفكار التي تجمعها معاً، تجعلها مثيرة وترسلها، هذه الملاحظات غير المقيدة لا تستحق اسماً.
أشعر بالخجل
أشعر بالخجل أني أكتب ومن الكيفية التي أكتب بها، كلمة دفتر اليوميات تشعرني بالاستياء، تخلف، شيء يخص الفتيات، تستحضر الكثير من الذكريات لوقت كنت أدون فيه مذكراتي بالفعل، من العاشرة وحتى الخامسة عشرة من عمري، هذه الكتابة العاجزة كنظير لإخفاء ما فعلت، يبدو لي أن سجل الأحداث أفضل، يمكنك أن تعلق ملاحظة في تيار الحزن، وتقيس سرعته، وتقيس عمقه، عندها يمكنك أيضاً أن ترقد في سكون لأيام؛ لأنك لا تستطيع أن تفعل أي شيء، الملاحظة تبقى مغروسة في الطين، أو لأنك مربوط بعجزك.
في البداية كان اختياراً بديهياً لتفادي مذهب دفتر اليوميات، لكن صديقاً بحاراً شرح لي بالضبط ماذا يعني تدوين الأحداث وكيفية عمله، بدا لي ذلك مناسباً لما أريده، قياس السرعة يتم عن طريق العُقد في الحبل الذي تجعله ينزلق من بين يديك، كل عقدة لها قيمة الساعة الفائتة، في البحر الواسع لا تستطيع تحديد المسار، أو اكتشاف اتجاهك، يمكن فقط تحديد مكانك.
أين أنا؟
هذا أول شيء يريد أن يعرفه الطفل عندما يستيقظ من حلم مزعج، خائف مع لمحات من ذكريات مكان مرعب كنت هائماً فيه على وجهك منذ بضع ثوانٍ، أو عند مبيتك خارج منزلك وعندما تستيقظ لا تتعرف على مرسى المكان المألوف.
أين أنا؟
الحياة تنزلق عقدة بعد أخرى من خلال راحة يدي، كل ساعة عقدة، بدأ بعد شهر أول شق في ذكريات الستة أسابيع والثلاثة أيام على فراش المرض التي انتهت بموته، ذكريات أول أسبوع مع رجل ميت والأسابيع التي تلته، تلاشي الذكريات يشبه الموت الإضافي، تلاشي المخزون لهذا الحب. يجب أن أكتب ضد النسيان، لا يهم بأي طريقة "Do not go gentle into that good night "** حذرني الشاعر. " Rage، rage against the dying of the light ".
تحدث ديلان توماس عن الموت.
الكتّاب يكتبون ضد الموت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* وفاة حبيبها الصحفي والكاتب الهولندي إيشا ماير بشكل مفاجئ في 1995.
**عنوان قصيدة كتبها الشاعر ديلان توماس إلى والده المتوفى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.