من يقرأ المجموعة الشعرية الأخيرة للأميركية "شارون أولدز"، التي فازت بها بجائزة "ت.إس.إليوت" للشعر، يدرك دون شك أن هناك شيئاً مبتكراً وغير معهود في هذه الكتابة النسائية التي جُمعت في ديوان تحت عنوان "قفزة الأيل".
"الأيل" ذلك الحيوان البري الذي يعتمر شجرة جرداء فوق رأسه، والذي يركض بعيداً حين ينتهي موسم التزاوج قصير الأمد، في إحالة مجازية إلى الطريقة التي يمكن للرجل أن يقفز بها بعيداً عن أنثاه تاركاً وراءه إرثاً من الذكريات مندسة في كل مكان من حياتها.
عن الرجال الذين يخرجون دون وداع، ودون أن يغلقوا الأقواس التي فتحوها في قلوب النساء، وحتى دون تكبد عناء النظر إلى الوراء؛ ليروا شكل الخراب الذي يتركونه وراءهم.
ديوان "قفزة الأيل" حديث عن تجربة الشاعرة "شارون أولز" الشخصية مع الطلاق؛ حيث قررت الشاعرة أن تكتب صوت الفقدان الذي يتردد بداخلها منذ أن قرر زوجها بعد ثلاثين سنة من الزواج أن يقفز مثل الأيل حراً منطلقاً متخفِّفاً من ذكرياته، وكأنه لم تكن هناك امرأة ولم تمر بينهما حياة.
وكيف استطاعت أن تتناولها شعرياً دون إسفاف، ودون أن تصاب بالأعراض الجانبية التي تصيب الكتابة النسائية أثناء الحديث عن تجربة مثل هذه، فجاءت قصائد الديوان مثل بوح طويل النّفَس عن آلام وأوهام وحياة ما بعد فراق زوجها الذي قفز مثل "أيل" جامح منطلقاً صوب امرأة أخرى، تاركاً وراءه امرأة تحترق بالذكريات التي تركها وراءه.
وقد ظلت الشاعرة تدوّن هذه الذكريات كل يوم، وتضع في كل لحظة أصبعها على شكل مختلف من الجراح، وتضغط عميقاً؛ ليسيل الشعر عميقاً، حيث تقول أولدز: "رَجُلي ذهب يعيداً، وأنا عدت لأعيش في بيت أمي.. وأنا الآن أنظر إلى الحب بطريقة مختلقة".
"قفزة الأيل" شكل غير معهود من النصوص التي قلما تكتبها النساء، نص طويل عن ألم الفقدان، لكنه مع ذلك غير مهووس بالكبرياء الأنثوي الكاذب الذي غالباً ما يصيب الكتابة عن مثل هذه التجارب الخاصة والمؤلمة؛ لأنه مهموم بالدرجة الأولى بالتفاصيل التي تتخلل حياة ظلت الشاعرة تكتبها لمدة خمسة عشر عاماً بعد الطلاق، كشكل من مراجعة الحياة بعد الطلاق يوماً بيوم، ولحظة بلحظة، حياة نجحت "أولدز" في تشكيلها شعرياً في نسق جديد لا يتخذ من البكاء أو المكابرة أو الشكوى وسيلة، حين تقول: "وأنا أعرف، أعرف أنه عليَّ أن ألقي بهذا الزواج من الشرفة وأتركه تحت الشمس".
وخلافاً لما قد نتوقعه، هذا الديوان يخلو كذلك من كبرياء الأنوثة الكاذب، ولا يروج لوصفات للنسيان التي تعتبر موضة الكتابة النسائية اليوم التي تقترح "النسيان" وكأنه الإكسير الأمثل للعيش بعد الفراق أو الطلاق؛ حيث تظهر "أولدز" شاعرة وامرأة ترفض الترويج لأكذوبة "النسيان"، بل تدافع بكل شجاعة عن حق المرأة في عدم النسيان، وعن حقها في التذكر، وعن حرية العيش في الذكريات التي سكنت مفاصل الحياة، وعن التشبث بالداخل العميق كي لا يفلت من التوثيق الشعري، مثلما تبدو غير معنية بتحريض المرأة ؛ لكي تبدأ حياة مع رجل آخر، فليست كل النساء قادرات على البداية من الصفر في كل مرة مع رجل غريب.
ديوان "قفزة الأيل" دليل قوي على قدرة الشعر على صنع شيء من بقايا حياة، حياة ما بعد الطلاق التي تشبه الاقتيات من بواقي باردة لعشاء رومانسي أخير، حياة ما بعد الطلاق التي يمكن ببساطة أن تكون نهاية صامتة لشيء صاخب اسمه الزواج.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.