قرأت كتاب المآسي الكبرى لشكسبير قبل ما ينيف عن اثني عشر عاماً، أي عندما كنت في الصف الثامن، وتوقفت حينها عند المأساة الثالثة "عطيل" بعد ما أمضيت نصف يومي على سطح منزلنا أبكي بحرارة شديدة متأثرة بجراحي النفسية تجاه مقتل "ديدمونة" بطريقة تراجيدية ظالمة على يد رجل أحبها، وأخلصت هي الحب له!
بالتأكيد لم أكن في عمر ووضع نفسي يتحمل خيانة كهذه من صديق، وظلم كهذا من زوج، خصوصاً ذاك المشهد المتعلق بمقتل زوجته، حتى إن طريقة رواية الأحداث بدت لي مستفزة لدرجة أردت معها أن أُدخل يدي في الكتاب لأجتث "ياغو" من جذوره، أو حتى أن أمنع "عطيل" من قتل تلك البريئة، لكن كان أكثر ما أستطيع فعله هو أن أعيد الكتاب للمكتبة دون أن أكمل المأساة الرابعة "هاملت"، كمحاولة -ربما- للانتقام من شكسبير نفسه!
هل حدث أن عاديت كتاباً قبل أن تكمله؟
قبل وقت ليس ببعيد كتبت إحداهن على موقع فيسبوك سؤالاً تستفسر به عن اقتراح لكتاب تقرأه فتاة في الثالثة عشرة من عمرها، وتابعت التعليقات بنهم أبحث عن اقتراحات لألحظ أن كل واحد يقترح ما قرأ سابقاً دون نظر للفتاة والمرحلة العمرية التي تمر بها.
قرأت كل العناوين المقترحة لتكون الرواية سيدة الاقتراحات. فهل من عمر ٍ يحدد ماذا نقرأ ولمن؟
أعادني هذا السؤال لقصة "الريشات الثلاث" و"صافي يبحث عن عش" وغيرها من تلك القصص البسيطة التي كانت تشتريها لي أمي من المكتبة بعشرة قروش، وقرأت حينها ما يكفي لأفوز بمسابقة لأوائل المطالعين، وأنا في الصف السادس لتكون هذه بداية الشغف.
كانت البدايات متخبطة وغير متزنة، وأقرأ ما يلفتني من عناوين سواء في مكتبة المدرسة المتواضعة، أو في المكتبة العامة بتنوعها الجيد، أو تلك الكتب التي كان يقتنيها أبي في مواضيع مختلفة غير محددة.
"ابتسامة على شفتيه" رواية ليوسف السباعي، بدت حينها وقبل أربعة عشر عاماً وكأنها ملتصقة في يدي اليسرى، فأقوم بكل ما علي القيام به بيدي اليمنى، بينما الأخرى ترفع لي الكتاب أينما ذهبت، حتى إنني كنست المنزل كله وعيني على الكتاب ما انفكت تغادره حتى طفى الدمع النهاية، وأجهشت بالبكاء لاستشهاد البطل الذي لم يبتسم بحياته حتى للفتاة التي أحب!
ندمت حينها على القراءة، بينما لم يدم هذا الندم كثيراً لأعيد قراءتها ما يزيد عن أربع مرات في أوقات مختلفة؛ ليراودني نفس الإحساس عند كل نهاية، وكأنني لم أقرأها من قبل، وأسأل نفسي إن ما كنت سأبكي بذات الحرارة لو أعدت القراءة الآن، خصوصاً بعد أن علا الغبار الكتاب، وعاث النسيان به فساداً!
أحاول أن أجيب بـ" لا"، وألا أتذكر أنني وقبل أسابيع قليلة بكيت حتى ساعات الفجر الأولى عندما شاهدت فلم "تايتانيك" لأول مرة بحياتي، وليست دموعاً عابرة بقدر ما كان بكاء حاداً أثار سخرية زوجي الذي حاولت أن أشرح له أنني لا أستطيع ببساطة أن اتناسى حقيقة أن القصة حقيقية وحدثت يوماً ما، وحينها لم أبكِ السفينة وحسب، بل بكيت كل الأطفال المعنَّفين والمتأذين من الحروب والكوارث الطبيعية وغير الطبيعية في هذا العالم.
هل من أحد مثلي يسقط كل مشكلات العالم في مشهد واحد؟
ومن جديد، هل هي المرحلة العمرية أم أنه وبالفعل يختلف الكتاب باختلاف عمر القارئ؟
لقد حاربت يوماً ما توفيق الحكيم عندما قرأت له روايته "عهد الشيطان ،"واعتبرته شيطاناً حينها وكنت ما زلت صغيرة لا أعي أصلا مفهوم "القبول أو التقبل"، وخصوصاً داخل مضمار الأدب، فلم أتقبل بسهولة ما اعتبرته حينها تجاوزات دينية واجتماعية وحتى أخلاقية؛ لأنني وفي وقتها أيضاً لم أكن أستطيع تقبل فكرة وجود "قُبلة" مثلاً في المشهد، فتوقفت حينها عن القراءة، وبدافع شخصي بحت لم يتدخل به شخص، وكأنني حينها أحاول كطفلة ألا أنجرف في التيار.. وهنا أعيد الاستفسار هل كانت مناسبة لعمري آنذاك؟
أضحك كثيراً حينما يخطر ببالي فكرة ماذا لو أن كتاباً لأحد الفلاسفة أو الكُتاب الروس وقع في يدي حينها؟ أظنني كنت سأكون في المحكمة أقيم دعوى على الموتى بعد أن أكون قد أحرقت ذاك الكتاب في تظاهرة حاشدة أمام نفسي!
تغيرت كثيراً، وأصبحت أكثر تقبلاً لجميع الأفكار، حتى تلك المتطرفة لم تعد تستفزني، فلو وقفنا أمام كل كلمة أو فكرة مستفزة في كتاب لما كنا نهلنا من العلم شيئاً، ولكي تتشكل المعرفة في حدودها القصوى – حيث لا أؤمن بالمعرفة الكاملة – لا بد من الجمع بين كل المتضادات لتستطيع التنقيح والوصول للحكم النهائي أو على الأقل تستطيع تبني الفكرة الصحيحة، بدلاً أن تكون تبعاً لفكرة ما لا تستطيع تقبل غيرها.
أعرف أشخاصاً لا يقرأون لكُتاب بعينهم فقط لفكرة عامة سمعوها عنهم؟ كيف ستعرفني إن لم تسمعني؟
العالم مليء بالصور النمطية المضللة والمضحكة أيضاً، ومن الجهل تداول هذه الأفكار وتبنيها دونما تحقق، ولأننا لا نستطيع أن نسافر إلى كل مكان، فإننا نستطيع جلب كل مكان عن طريق كتاب واثنين وثلاثة للوصول للصورة بأنقى درجاتها.
أسمع عن أشخاص كثر غيّرهم كتاب ونقلهم نقلة نوعية على المستوى الفكري والشخصي، في الحقيقة إنها طاقة عظيمة تلك التي يحملها الكتاب ليغير حياة إنسان.
وبالعودة إلى البداية، فإنني لا أعرف حقيقة ماذا أقترح لفتاة مراهقة صغيرة، لكن أعرف تماماً مدى تأثير نوعية القراءة على الشخص، خصوصاً في مثل هذا العمر، وهذا التأثير حدا بأرسطو للحكم على أحدهم من خلال الكم والنوعية التي يقرأ، وقد لا أتفق كثيراً مع هذا القول، لكنه وارد جداً.. ماذا تصف شخصا يقرأ "لنيتشه" كل كتبه ويحفظ معظمها عن ظهر قلب؟
معظم مسابقات القراءة والمطالعة المحلية والإقليمية أخذت طابعاً "أرسطاوياً" بينما لو كان القرار لي لجعلت الموضوع يتعدى مرحلة القراءة البحتة إلى مرحلة أكثر عملية، فمثلاً يمكن للرواية والقصة أن يعاد طرحها بأسلوب جديد أو بناء قصة جديدة تعتمد نفس العقدة أو نفس الشخوص أو تغيير العقدة كلياً، وخلق نهاية جديدة، ومن السهل حينئذ خلق التحدي ضمن شروط تستفز الجانب الإبداعي لدى القارئ، أو فلنقُل المتسابق.
بعض الكتب الأخرى ممكن أن تتحول إلى مشاريع واقعية ضمن أعمال تطوعية مثلاً، وأذكر هنا على سبيل الذكر لا الحصر كتب التربية والأعمال اليدوية والزراعة وغيرها، وهكذا تستطيع أن تنقل كتاباً قرأته إلى عشرة أشخاص مثلاً ضمن مشروع تطوعي داخل منافسات كهذه، فتعم الفائدة ونمنع نسيان المعلومة والحشو المتكرر.
برنامج "تحدي القراءة العربي" من أجمل البرامج وأكثرها إمتاعاً، والذي تعدى المحلية إلى الإقليمية في صورة تنافسية جميلة، ونستطيع القول إن هذه التجربة تُكسب الطلاب الكثير من المهارات، والتي في حدها الأدنى تضعه على الطريق.. لكن ماذا لو دخل التحدي حيزاً تطبيقياً جديداً يتماشى مع الطرح الحالي كسياق جديد داخل المنافسة للحفاظ على دوام المضمون؟
هل حصل ونسيت تماماً كتاباً قرأته من قبل؟ أقرأه مجدداً… فمن يجد الوقت اليوم قد لا يجده غداً بينما أن كتاباً تتذكره خير من عشرة لا تتذكر منها شيئاً، فهذا ليس مجرد حبر على ورق، إنه ببساطة.. طاقةٌ كامنة على طبق!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.