ربما تجلس الآن في نفس المكان الذي كان ابن خلدون يخرج محبرته فيه في جامع الزيتونة بتونس، أو تمشي في الرواق الذي كان يجوله ستيفن هاوكينج أو تشارلز داروين في جامعة كامبريدج العريقة.
لطالما يعتقد بعض الطلاب أن جدران هذه الجامعات القديمة ومقاعدها شهدت أحداثاً غريبة ومخيفة، لكنها لا تستطيع أن تخرج عن صمتها وتحكي ما رأته وما سمعته عن أعظم الرجال في التاريخ الذين مروا عليها.
إليك في هذا المقال خفايا كواليس أقدم 10 جامعات في التاريخ لا تزال تعمل حتى الآن:
1- جامعة القرويين.. أقدم جامعة في العالم تولد من قلب امرأة
حين تدخل جامع القرويين بالمغرب، الذي يسع الآن أكثر من 22 ألف مصلٍّ، بأقواسه البيضاء البديعة الكثيرة المتتالية، فإنك لن تصدق أن هذا المكان وُلد من قلب امرأة نذرت ألا تفطر حتى يتم بناؤه، وأنفقت عليه ما ورثته من مال.
كانت السيدة فاطمة بنت محمد بن عبد الله الفهري قد نزحت وهي صغيرة من مدينة "القيروان" إلى أقصى المغرب، وهو الاسم الذي اشتق منه الجامع اسمه، وتحقق حلم في غرة رمضان عام 245 هجرياً، 859 ميلادية، حين دشن الجامع مع "المدرسة" الملحقة به في مدينة فاس بالمغرب، لتكون أول جامعة في التاريخ.
وقد صنفتها اليونيسكو وموسوعة غينيس كأقدم مؤسسة تعليمية ما تزال تعمل حتى الآن، الجامع الذي تحول إلى جامعة حديثة عام 1963، كان مهداً لولادة مفهوم "الكرسي العلمي"، الذي يجلس عليه العالم، ويعلو حسب درجة ضلوعه في علمه، لتلتف حول الكراسي المتخصصة حلقات طلبة العلم.
كما قدمت علوماً مختلفة عما كان سائداً آنذاك، حيث لم يقتصر على العلوم الشرعية، وإنما اتسع ليشمل علوم الحياة والعلوم العقلية والطبية، حتى شاع بين علماء فاس مقولة أن: "العلم ولد بالمدينة، وربي بمكة، وطحن بمصر، وغربل بـ فاس".
كما كان لها دور سياسي وثوري مخيف للمستعمر الفرنسي، للدرجة التي دفعت الجنرال الفرنسي للقول: متى سيغلق هذا "البيت المظلم؟"، وقد درس فيها عالم الاجتماع والمؤرخ ابن خلدون، والفيلسوف لسان الدين ابن الخطيب.
2- جامعة الزيتونة.. أقفال في منتصف الليل
بعد منتصف الليل في العام 1988، خرج جنود الرئيس التونسي زين العابدين علي تحت جنح الظلام وغيروا أقفال جامعة الزيتونة، ليمنعوا الطلبة الذين وصل عددهم آنذاك إلى 2500 طالب -بينهم أجانب- من الدراسة فيها.
هذا الأمر كان دلالة على "الصداع" الذي سببته الجامعة دائماً للسلطات كمنارة للوعي الشعبي، بداية من المستعمر الفرنسي الذي وجد مقاومة عنيفة من 20 ألف طالب آنذاك، إلى بو رقيبة وزين العابدين.
وكان طلابها وعلماؤها تحت الضغط من قبل تلك السلطات، للدرجة التي شردت علماءها ومشايخها وجعلتهم يشتغلون في مهن بسيطة مثل البناء والسباكة، حيث اضطر الشيخ علي العرياني صاحب القراءات السبع إلى الاشتغال في تصليح مواسير الصرف.
الجامع الذي يصل بناؤه إلى القرن الأول الهجري والعام 737 ميلادية على يد حسان بن عباد، تحيط بناءه الأساطير الشعبية، أحدها أنه بني قرب زيتونة وحيدة في المكان، أو في مكان ينبت فيه الزيتون بكثرة، أو أن راهباً كان يصلي هناك رأى نوراً في المكان الذي يتعبد فيه فبُني المحراب عليه.
وبالرغم من أنه يسبق القرويين تاريخياً في البناء، لكنه لم ينتظم في دوره التعليمي إلا بعد مسجد القرويين، بحسب ما أجمع الكثير من المؤرخين، وتحول الجامع إلى جامعة حديثة في 1956.
أعادت الثورة التونسية في 2011 استئناف التعليم الزيتوني، وعادت خطبة الجمعة حرة، وقد درس فيه أسد بن الفرات وابن خلدون مؤسس علم الاجتماع، كذلك كان صاحب البيت الأشهر في الثورات العربية أبا القاسم الشابي "إذا الشعب يوماً أراد الحياة.. فلابد أن يستجيب القدر"، ابن الزيتونة.
3- جامعة الأزهر.. العراقة والمقاومة
في 1798 دخل الجنود الفرنسيون جامع الأزهر ودنسوه بخيولهم وأسلحتهم، مدمرين محتوياته، عقب اشتعال انتفاضة القاهرة الأولى ضدهم منه، كما أمروا بإغلاقه، ومن ثم اعتقلوا الشيخ الشرقاوي، قائد هذه الانتفاضة، وقطعوا رأسه.
حينها، أصيب الفتى العشريني الأزهري سليمان الحلبي الآتي من قرية في حلب بحالة صدمة، غادر بعدها مصر، لكنه عاد في العام 1800 مجدداً، متخفياً في زي شحاذ، وقتل "كليبر" خليفة بونابرت في قيادة جيوش الاحتلال الفرنسي بخنجره.
ولم يكن سليمان الحلبي حالة المقاومة الوحيدة التي أنجبها الأزهر، بل إن خريجي الأزهر بقوا شوكة في حلق الاحتلال البريطاني، حيث تخرج منها الزعيم أحمد عرابي، وسعد زغلول، وكذلك قائد المقاومة الفلسطينية الشيخ عز الدين القسام.
تصل أصالة هذا الجامع إلى العصر الفاطمي حين وضع الخليفة المعز لدين الله الفاطمي حجر أساسه عام 970 ميلادية، ويعتقد المؤرخون أنه سمي بـ"الأزهر" تيمناً بالسيدة فاطمة الزهراء بنت النبي محمد (ص).
ثم تحول إلى جامعة على النظام الحديث عام 1961م، اكتسحت في عدد طلابها جميع الجامعات المصرية الحكومية في 2015 بحسب تقارير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء المصري بعدد تجاوز الـ 322 ألف طالب.
4- جامعة بولونيا.. أول ثورة طلابية في العصور الوسطى خرجت من أبوابها
جامعة بولونيا أنشئت عام 1088م، وهي تعد أول جامعة في التاريخ، بمفهوم الجامعة الحديث الأوروبي، الذي يرفض الاعتراف بالمدارس التي نشأت في الجوامع العربية بدعوى كونها مؤسسات للتعليم العالي لا تنطبق عليها شروط تسمية "جامعة".
شهدت جامعة بولونيا، أول تكتلات متمردة للطلبة الأجانب، ونواة النقابات الطلابية، إزاء كون المواطن الإيطالي آنذاك ذا حقوق أعلى من الجميع، وبسبب قوانين المدينة المتعسفة التي كانت تفرض العقاب الجماعي على الأجانب عند خطأ أي من مواطنيهم.
وهنا قررت التكتلات الطلابية المجتمعة أن تتحد وتسمي نفسها universitas، والتي اشتق منها اسم university، وهو اسم "الجامعة"، وهددوا بالرحيل عن الجامعة إن لم يعاملوا بشكل جيد، وبذلك يقطعون الإيرادات الكبيرة للمدينة، وبذلك بدؤوا يحصلون على حقوقهم وتم وقف العقاب الجماعي.
ومن هنا، بدأ أول ضغط وتحكم طلابي ديمقراطي في الجامعة في العصور الوسطى، حيث كان هناك طلاب منتخبون، استطاعوا بالتهديدات بالإضراب السيطرة على محتوى الدروس والمال الذي يدفعونه، كما إنهم قاموا بتغريم الأساتذة الذين يتأخرون في إنهاء المنهج قبل موعد الاختبارات.
جامعة بولونيا كانت أول شكل منظم للتحرك الطلابي، غريب على أوروبا آنذاك، ولم يعترف الأساتذة بشرعيته مع إنه كان يمسك بدفة القرار في الجامعة، كما لا يسعنا أن نغفل أن جامعة بولونيا هي التي درّس فيها الكاتب والفيلسوف أومبرتو إيكو صاحب رائعة "اسم الوردة" منذ 2008 وحتى وفاته.
5- جامعة أوكسفورد.. قِبلة العِلم في الأرض
إذا كنت تخطط لدراسة العلوم الإنسانية مثل اللغة الإنكليزية وآدابها، أو اللغات الحديثة والجغرافيا والتاريخ، فإن الجامعة التي ستجدها في المرتبة الأولى عالمياً، هي أوكسفورد، بينما تحتل المركز الثاني في علوم مثل الطب والحقوق، بحسب تصنيف QS العالمي للجامعات.
الجامعة ستبهرك بمجرد دخولها عندما ترى أربع قاعات من العصور الوسطى في المقر الرئيسي للكلية، وهي تتكون من أربعة أقسام أكاديمية تنقسم بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبية والعلوم الرياضية والفيزيائية، بالإضافة إلى علوم الحياة.
وقد خرّجت الجامعة 27 من الحائزين على جائزة "نوبل"، بالإضافة إلى العديد من العلماء في معظم المجالات العلمية والأدبية.
توجد مزاعم حول كونها أقدم جامعة في البلاد الناطقة بالإنكليزية، لكن تاريخ إنشائها غير معروف على وجه الدقة، لكن التدريس بدأ فيها في 1096م وازدهرت بشكل مفاجئ عام 1167 عندما منع الملك هنري الثاني الطلاب الإنكليز من الذهاب لجامعة "باريس".
وقد شهدت تعليق التدريس فيها بسبب عدة حوادث، مثل النزاعات مع سكان المدينة التي أفضت لإعدام عالمين عام 1209، وفي 1355 بعد أحداث شغب عيد القديس سكولاستيكا، وعقب كل انتكاسة كانت تعود الجامعة بأقوى المناهج ووسائل التعليم لتبهرنا من جديد.
6- جامعة سالامانكا.. للنبلاء فقط
جامعة سالامانكا التي تأسست في 1134م، هي أول جامعة أوروبية تحمل لقب University بصريح العبارة بناء على المرسوم الملكي السامي الصادر عن ألفونسو العاشر، كما أنها أقدم واحدة ما تزال تعمل حتى الآن في إسبانيا.
وقيل إنها كانت الأولى في أوروبا التي تحتوي على مكتبة عامة، وقد ازدادت الحاجة لخريجي هذه الجامعة، بسبب إعادة هيكلة الدولة الإسبانية عقب طرد المسلمين واليهود وسقوط غرناطة، إذ كان لابد من تعيين كمية هائلة من البيروقراطيين والمحامين، ليملؤوا مواقع الدولة.
وقد كان لهم دور استشاري حين كونوا فريقاً جغرافياً لمد كولومبوس بالمعلومات اللازمة لرحلته، لكن، في القرن الـ17 استلم أبناء النبلاء تعليمهم في الكليات الكبيرة بشكل احتكاري منعها من تدريس الشباب الفقراء ذوي القدرات العلمية.
فيما تمكنوا من ذلك بشكل ديمقراطي بحت فقد كان عددهم كبيراً بشكل كاف، ليغلقوا التسجيل أمام أولئك الذين لا ينتمون لطبقة النبلاء، بل وطالبوا بإثباتات على نقاء دم النبلاء المتقدمين للدراسة.
وتمتلك الجامعة عدداً من المباني التاريخية مثل متحف جامعة سلامانكا، متحف دار أونامونو ومتحف المركزي التعليمي، فيما تتكون من 22 فرعاً، وتحتوي على مكتبة تعد الرابعة من حيث احتواء عدد كبير من القراء في إسبانيا، حيث تتيح أماكن لأكثر من 5300 مكان، وتحتوي على 906000 مجلد علمي، فيما يتجاوز أعداد طلابها 30 ألفاً.
7- جامعة كامبريدج.. قصة عظيمة بدأت من مشنقة
يعود تاريخ بناء الجامعة إلى عام 1209م، عقب وقوع حادث مروّع في جامعة "أوكسفورد"، حينما قام الأهالي وسلطات المدينة بشنق عالمين اتهما بقتل امرأة دون العودة للسلطات الكنسية، وبناء على ذلك تم تعليق التدريس في الجامعة كنوع من الاحتجاج، وانتقل معظم العلماء إلى مدن مثل باريس، وريدينغ وكامبريدج، ليكونوا نواة جامعة كامبريدج العريقة فيما بعد.
وتعد الجامعة حالياً أقوى منافسة لأوكسفورد، فيما تشمل 31 كلية، وأكثر من 100 قسم أكاديمي مختلف، و114 مكتبة بها أكثر من 8 ملايين كتاب ومجلد علمي، بالإضافة إلى 600 مخطوطة تاريخية من العصور الوسطى، كما تضم عدداً من المتاحف العلمية والثقافية والأثرية.
خرّجت الجامعة عدداً هائلاً من الحائزين على نوبل وصلوا إلى اثنين وتسعين، بالإضافة إلى أعظم الرياضيين والفلاسفة والمحامين والعلماء والسياسيين، ورؤساء الدول الأجنبية، أشهرهم هو الفيزيائي ستيفن هاوكينج، ومؤسس نظرية التطور تشارلز داروين، وكذلك فنياً، لدينا الممثل "هيو لوري" الشهير بدوره في مسلسل House.
8- جامعة بادوا.. سماء الحالمين بالحرية
أسست الجامعة في 1222م في مدينة بادوا بإيطاليا، عندما هربت مجموعة كبيرة من كوادر الطلاب والأساتذة من جامعة بولونيا الإيطالية التي تعد الأقدم في التاريخ بحسب تعريف الجامعات الحديث، بحثاً عن حرية أكاديمية أكبر.
فيما كان القانون وعلم اللاهوت المسيحي أول المواد التي تدرّس فيها، ولعل أشهر الذين درّسوا في هذه الجامعة، العالم غاليليو غاليلي، والذي احتل رئيس قسم الرياضيات بين الأعوام 1592 إلى 1610، كما إنها خرّجت نيكولاس كوبرنيكوس العالم الرياضي والفليسوف الفلكي والقانوني المعروف.
9- جامعة نابولي.. طلبة يُعدّون على الأصابع!
جامعة نابولي التي أسسها الإمبراطور الروماني فريدريك الثاني في نابولي بإيطاليا عام 1224، هي أول وأقدم جامعة حكومية في العالم، وكان لفريدريك الثاني أهداف سياسية خاصة لإنشائها، أولها هو تدريب كوادر وزارية وبيروقراطية ومحامين وقضاة وأصحاب وظائف إدارية للعمل في النظام الملكي.
أما الهدف الآخر فهو توفير مكان بديل للشباب لئلا يسافروا للتعليم في الخارج، ويذهبوا إلى جامعة بولونيا التي كانت معادية آنذاك للقوة الإمبريالية، لكنها فشلت في جذب الطلاب آنذاك.
لدرجة أن "توما الأكويني" الذي درس فيها ويعتبره المسيحيون فيلسوف الكنيسة الأعظم، كان أحد القلائل الذين جاؤوا للجامعة في عدة سنوات، وقد حاولت التغلب على الفشل بالانتقال إلى مدينة ساليرنو، ثم عادت إلى مدينة نابولي ثانية في 1258، في محاولة لإعادة إحياء، وقد نجحت في ذلك، حيث تعد حالياً واحدة من أفضل 200 جامعة بالعالم.
10- جامعة سيينا الإيطالية
أنشئت الجامعة في 1240 في مدينة سيينا الواقعة وسط إيطاليا، وهكذا تكون إيطاليا صاحبة النصيب الأكبر في قائمة أقدم جامعات التاريخ التي ما تزال مستمرة حتى الآن.
حملت الجامعة في البداية اسم Studium Senese، وقد استطاعت جذب عدد أكبر من الطلبة في 1321 بعد حالة نزوح جماعي من جامعة بولونيا العريقة، إثر الحكم على أحد طلابها بالإعدام من قبل قضاة بولونيا بتهمة خطف امرأة شابة، واستطاعت الجامعة استيعاب كل هذه الأعداد.
وقد درّس فيها الكاتب الإيطالي الشهير أنطونيو تابوكي، وأستاذ الرياضيات والاقتصاد ريتشارد غودوين، والبابا يوليوس الثالث جيوفاني ماريا ديل مونتي الذي درس القانون بالجامعة.