أحمد شاب نشأ في أسرة معتادة الطريقة والتفاصيل، وحين أصبح في العشرينات من عمره التزم بالدين وتعاليمه بالطريقة المعتادة في بلده، وحظي بمباركة أهله في ذلك.
وبعد عدة سنين أكمل خلالها تعليمه الجامعي ومرحلة الدراسات العليا في مجال الشريعة والدين، اعتنق أحمد فكر التطرف والإرهاب ثم اختفى فجأة عن أهله لتأتي به شاشات الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي كإرهابي مطلوب للجهات الأمنية ثم بعد ذلك دون سابق إنذار يحدث انفجار في أحد المساجد ويكون منفذه أحمد.
في جهة أخرى من البلاد هناك محمد هو الآخر نشأ في أسرة معتادة التفاصيل والطريقة، وحين أصبح في العشرينات من عمره امتهن الصحافة والإعلام، وأكمل دراسته بتفوق ليعمل في المجال الصحفي والإعلامي؛ ليصبح كاتباً له شهرته وتأثيره وجل كتاباته طابعها الاعتدال الإنساني وتارة ينتقد فيها المتطرفين والإرهاب، ولا يترك في ذلك أية فرصة، بالإضافة إلى كتاباته الداعمة للمرأة وحقوقها وكذلك الحقوق العامة للإنسان، ودون سابق إنذار ينتشر في وسائل الإعلام المختلفة التقليدي منها والحديث خبر اعتدائه على إحدى أخواته بالضرب المبرح، ومن ثم قتل زوجته نتيجة خلافات أسرية.
وفي زحمة وسائل التواصل الاجتماعي المعاصرة وسرعة انتشار الأخبار بين أفراد المجتمع تطالعنا كل يوم بأخبار في كافة صورها نصية ومسموعة ومرئية لا تخلو من جريمة أو فضيحة تتناقلها أجهزة أفراد المجتمع، فأب يقتل طفلته، وأخ يقتل أخته، وشاب يتحرش بفتاة بالرغم من كونه متزوجاً ولديه طفلة، وآخر يسرق ويمتهن الجريمة وكثر يمارسون التفحيط ويتعاطون المخدرات ويعتادون الجريمة وغيرهم ممن يتناول كل هذه الأخبار ينتظر مجرد الفرصة؛ ليصبح هو الآخر خبراً تتناقله الوسائل الإعلامية المختلفة.
كل هذه العناوين تنتشر وبكثرة في كل وسائل الإعلام المعاصرة، وعنوانها الأبرز شباب يتسابقون في طرق غير سوية في أقصى اليمين تارة، وأخرى في أقصى الشمال تحمل في طياتها الكثير من الألم والأذية في مجتمع يحرص كثيراً على مسألة الدين والأخلاق السوية ويتباهى بها.
إن المتابع الدقيق لعمق هذه التفاصيل اليومية لأخبار تتناقلها الناس ما بين ناقد ومهاجم وناقم ومتحفظ، من الضروري أن يبرز في ذهنه سؤال جوهري حول ماذا يجري بالضبط؟ وما الذي يدفع شاباً إلى أن يكون ضحية فضيحة أو فجيعة تتناقلها الناس ولا يذوق مرارة ألمها إلا من تربطه صلة بتفاصيل هذه الأحداث والأخبار المتناقلة.
كثير من الشباب يعيش بشكل يومي منذ طفولته تحت ضغط غير معلن اسمه: "خلك رجال"، إن المتابع لتفاصيل أي أسرة محلية وحتى على مستوى كثير من الأسر حول العالم لطالما تتردد عبارة: "خلك رجال" على مسامع كل ذكر منذ سنوات طفولته الأولى، ومروراً بفترة مراهقته، وحتى مرحلة الرجولة وربما حتى وفاته، ولطالما تتردد على مسامعه هذه العبارة دون أن يكون لها تعريف دقيق وصريح لماهية "الرجولة" المقصودة، فالكل يطلقها، ويحث عليها دون أن يكون لها تفصيل واضح، هي فقط توجه للذكر منذ ولادته وحتى مماته وعادة ما ترتبط بعمل غير مرغوب صدر منه.
الناشط الاجتماعي "جو إيهرمان – Joe Ehrmann" والمتخصص في العمل الحكومي الاجتماعي الأميركي في رعاية الأحداث والشباب ممن وقعوا في الجريمة على اختلاف أنواعها ما بين القتل والاغتصاب والخطف والسرقة وغيرها من جرائم اجتماعية، يعاني منها المجتمع الأميركي.
يتحدث "جو" عن ذلك محاولاً اختصار تجربته في مجال عمله طوال 30 عاماً بقوله: "إن معظم الجرائم التي يقع فيها الشباب، لطالما ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بمحاولات الشاب، الواقع في الجريمة باختلاف أنواعها وتفاصيلها، الحثيثة للوصول إلى معنى مفردة "الرجولة" التي تتردد على مسامعه منذ سنوات طفولته الأولى، ونتيجة لعدم وضوح معنى "الرجولة" التي يريدها لديه، يكون غالب سلوكه للوصول إليها شاذاً يتخلله الكثير من الخطأ وعدم الصواب لينتهي المطاف به بالوقوع في الجريمة".
إن عبارة كـ"خلك رجال"، عادة ما يكون ارتباطها منذ سنوات الطفولة في عقل أي رجل بمعنى ضمني مفاده "توقف" عن التعبير عن المشاعر والعواطف، وكذلك عن فعل ما تفعله ومهما كان ذلك الشعور المعبر عنه أو ما يفعله صواباً أو خطاً، فإن أثرها على المدى القصير أو البعيد يكون سلبياً.
على يقين بأن أي رجل يقرأ هذا المقال الآن ويقرأ عبارة "خلك رجال" سيمر في ذهنه تلقائياً موقف ما سلبي يحمله في عقله ومشاعره منذ طفولته، بل إن مثل هذه العبارة أصبحت متوارثة بين الأجيال للتعبير عن الامتعاض والسلبية في عمومها.
هناك الكثير من المعاني الثقافية الاجتماعية التي ترتبط بمعنى "الرجولة"، لعل أبرزها وأكثرها ظهوراً وبروزاً وتنافساً في أي مجتمع هي ثلاثة معانٍ: القوة البدنية والجسدية، والقدرة الجنسية، والقوة المالية والاقتصادية.
ولا شك أن هذه المعاني الثلاثة لها أهميتها في حياة أي فرد، لكن أن تصبح هدفاً إقصائياً وتمايزاً بين رجال أي مجتمع ويتم توارثها وتوارث معانيها هو ما يقود إلى الشذوذ لأجل الحصول عليها والتميز بها.
إن من يتواصل مع من هم في سن المراهقة ويناقش مشاكلهم وقضاياهم بشكل مباشر وصريح سيجد أن كثيراً من الشباب والمراهقين يعيش تحت وطأة تحقيق هذه الثلاثة معانٍ بأسلوب حاد للغاية.
فمعظم تحديات الشباب لا تخرج عن قضية الاستعراض البدني والجسدي وإبراز مظاهر القوة لديه ومحاولة السيطرة والغلبة على أقرانه في كل فرصة مواتية، حتى يغذي حاجته النفسية ليكون "رجلاً".
كما أن كثيراً من الشباب يتباهون بكثير من علاقاتهم مع الجنس الآخر، وكثير منهم يتحدث بذلك علانية وكيف أن لديه الكثير من العلاقات المحرمة، بل ويتحدث عن أدق تفاصيل ما قام به مع تلك الفتاة التي نام معها وكيف أنه أوهمها بالحب وربما بالمال ثم تركها متباهياً بذلك، ومعتبراً ذلك جزءاً من انتصاراته التي تغذي معنى "الرجولة" لديه.
ثم يأتي المعنى الثالث وهو القوة المالية والاقتصادية وهذا ملاحظ بكثرة في أوساط الشباب في جل تصرفاتهم وسلوكياتهم الحياتية واليومية.
كما أن كثيراً من الشباب وحتى الرجال يجد الكثير من الحرج وربما يراه نقصاً أن يعبر عن حالة شعورية معينة تضايقه.
فالكثير من طلاب المدارس من الشباب والمراهقين ربما تمر عليه الكثير من المشاكل والتحرشات اليومية، وبدلاً من التعبير عنها وذكرها لأسرته حتى يتم التعامل معها بحكمة، يقوم بمحاولة الانتقام ومهاجمة الآخرين حتى لا يتعرض لسوط العبارة "خلك رجال".
وبحسب الجمعية النفسية الأميركية فإن ما يعادل ٨٠٪ من الرجال في الولايات المتحدة الأميركية يعانون من أعراض ما يعرف علمياً بـAlexithymia وهي عدم القدرة على التعبير عن المشاعر ووضعها في كلمات ومحاولة مناقشتها مع ذويه دون أذية لمن هم حوله.
وهذه الدراسة والنسبة في دولة إلى حد كبير هي أكثر انفتاحاً وأقل تحفظاً كما هو الحال في دول العالم العربي في سلوكيات مجتمعاتها، وبالرغم من ذلك يعاني رجالها من فكرة "الرجولة" وعدم فهم معناها بشكل صحيح.
إن عدم فهم معنى "الرجولة" بشكل صحيح وتناقل الفهم الثقافي الاجتماعي الخاطئ لماهية الرجولة ومن ثم ترسيخ ذلك في الأجيال القادمة منذ سنوات الطفولة الأولى يقود الطفل الذكر إلى سلوك شاذ يتطور بتقدم سنه، وكلما تم قرعه بعبارة "خلك رجال"، زاد لديه ترسيخ خاطئ لمعنى الرجولة، مما يقوده في مرحلة معينة من العمر إلى الانعزال، ومن ثم التفكير بأفكار شاذة تلبي رغبته لأن يكون رجلاً؛ ليقوده ذلك في المحصلة إلى فعل الجريمة مهما كان نوعها وسيجد الكثير من المبررات اجتماعياً ودينياً وثقافياً، وكل ذلك لأن يكون رجلاً وربما ليلبي رغبة الانتقام من مجتمعه وأسرته.
إن مسؤولية فهم معنى "الرجولة" ومن ثم زرعها بشكل صحيح في الأبناء هي مسؤولية الأسرة بالدرجة الأولى، كما أن الثقافة الاجتماعية المتداولة حول معنى "الرجولة" انطلاقها من مكون الأسرة؛ لذا فإن كل أب وكل أم عليهم مسؤولية فهم معنى "الرجولة" أولاً بالشكل الصحيح ومن ثم تربية الأبناء على ذلك.
يقول المولى -عز وجل- في سورة القصص، آية 26، في وصف موسى -عليه السلام- على لسان إحدى ابنتي صاحب مدين: "إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين".
ومما ذكر القرآن في تفاصيل قصة موسى -عليه السلام- مع ابنتَي صاحب مدين، حين قام بقضاء حاجتهما والسقي لهما دون أن تسألاه ذلك، وأيضاً مما تذكره التفسيرات لهذه القصة، ما ذكرته ابنة صاحب مدين عن سلوكه معها، وأنه حين ذهبت تكلمه أطرق رأسه، ولم ينظر إليها، كما أنه أمر المرأة أن تمشي وراءه، حتى لا تصيب الريح ثيابها فتصف ما لا تحل له رؤيته.
إن وصف موسى -عليه السلام- كما جاء في الآية بـ"القوي الأمين" هو معنى الرجولة الصحيح، فالقوة ليست أن يكون الرجل باطشاً لمن حوله، بل أن يكون سبباً لفعل الخير وجعل الحياة والأرض مكاناً أفضل للعيش، كما أن الأمانة في القول والعمل هي أصل كل علاقة إنسانية. فحين يتم فهم وترسيخ هذين المعنيين في النشء، فإن كثيراً من مشكلات المجتمعات التي يقع فيها كثير من الشباب سيتم تجاوزها بحب وسلام.
وحين تخبر ابنك في المرة القادمة بأن عليه أن يكون رجلاً، وتسمعه عبارة "خلك رجال"، تذكر دائماً أن عليك أن توضح له ماذا تعني بالرجولة، ولتكن بذلك سبباً لجعل الحياة أفضل لابنك ولمجتمعك، وأميناً في تربيتك وترسيخ معنى الأمانة والمحبة في ابنك حتى يكبر ويكون سبباً للخير وأميناً مع الغير، ليكون بذلك رجلاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.