لا يوجد الكثير ليراه الناس في مدينة هولمول القديمة، فهي للمراقب العادي مجرد سلسلة من تلال منحدرة، تغطيها الأشجار بوسط الغابة في شمال غواتيمالا بالقرب من الحدود المكسيكية.
أما إذا ما ألقيت نظرة فاحصة؛ قد تلاحظ أن معظم هذه التلال تترتب في حلقات ضخمة، مثلما يلتف المسافرون حول النار في ليلة باردة، وبإلقاء نظرة أكثر دقة؛ تكتشف أن أجزاء من التلال مصنوعة من قطع حجرية، وفي بعضها أنفاق محفورة على جوانبها، وهي في الواقع ليست تلالاً على الإطلاق بل أهرامات قديمة تركت للتحلل بعد انهيار حضارة المايا منذ ألف عام.
إذ كانت تلك المنطقة مستوطنة مزدهرة خلال فترة حضارة المايا في العصر الكلاسيكي (250-900 بعد الميلاد)، في الوقت الذي ازدهرت فيه الكتابة والثقافة فيما يعرف اليوم بأميركا الوسطى وجنوب المكسيك، بحسب تقريرٍ لمجلة National Geographic الأميركية.
صراع بين تيكال وكانول
كانت فترة اضطراب سياسي، إذ حوت اثنتان من عواصم المدن المتناحرة في نزاع دائم من أجل السلطة، ولفترة وجيزة سادت واحدة من تلك العواصم وأصبحت أقرب ما يكون إلى إمبراطورية في تاريخ المايا، حيث كان يحكمها (ملوك الأفعى) من سلالة كانول.
لم يعلم أحد بوجود تلك الإمبراطورية حتى بضعة عقود مضت، إلا أنه بفضل الحفريات في جميع أنحاء هذه العاصمة – بما في ذلك هولمول -، تمكن علماء الآثار من جمع أجزاء قصة (ملوك الأفعى).
مدينة هولمول لم تكن كبيرة مثل موقع تيكال الشهير المجاور لها، تجاهلها علماء الآثار حتى سنة 2000، حيث اكتشف مع وصول فرانسيسكو استرادا بيلي، وهو غواتيمالي ولد بإيطاليا، لم يكن يبحث عن شيء فخم مثل ألواح تعود للعصر الكلاسيكي، أو مدافن مزخرفة، وإنما حاول الوصول لبعض النظريات حول جذور المايا، ومن أول الأشياء التي عثر عليها كان أهرامات هولمول، حيث حوت داخلها بقايا من لوحة جدارية تصور الجنود في رحلة حج.
والغريب في الأمر، أن أجزاء من الجدارية دُمرت من قبل المايا أنفسهم، كما لو أنهم أرادوا أن يمحوا التاريخ الذي تصوره تلك الجدارية، فيما حفر بيلي أنفاقاً إلى عدة أهرامات مجاورة ليحاول فهم السبب وراء ذلك.
بنى الأميركيون القدماء خلال العصور الوسطى الأهرامات على مراحل متداخلة، واحدة تلو الأخرى، وعندما أضاف شعب هولمول طبقة جديدة، حافظوا على الطبقة التي تحتها؛ وهو ما سمح للباحثين بحفر نفق بالداخل والعثور على الهياكل السابقة كما كانت تقريباً.
وفي العام 2013، اقتفى بيلي وفريقه آثار الدرج القديم إلى مدخل مبنى الاحتفالات في أحد تلك الأهرامات، وبعد الصعود من خلال فتحة في الأرض، اكتشفوا شريطاً بارزاً في جدار يبلغ طوله 26 قدماً، ويصور ثلاثة رجال، بما فيهم الملك هولمول حيث يصعد من أفواهه وحوش غريبة تتشابك مع ثعابين عملاقة ذات ريش.
كما اكتشف منحوتات عند القاع، وعليها رموز منقوشة تسرد ملوك هولمول، مع نقش لثعبان مبتسم في مركز المنحوتات، ومن بين تلك الأسماء اسم كانول أو الأفاعي، وتبين من هنا وجودهم وإنشاء إمبراطورية في تيكال، وكانوا أبغض أعدائهم.
وكما سيطرت تيكال على سهول المايا لقرون، سيطرت أيضاً آثار المايا منذ خمسينيات القرن الماضي، ووصل عدد سكان تلك المدينة إلى 60 ألفاً، واستطاعت أن تبهر زوارها في العام 750، حتى سقوطها في القرن التاسع، وذلك بمبانيها الأنيقة، والمنحوتات أو المسلات التي تشبه الأضرحة، مثلما ينبهر السياح اليوم أيضاً.
ثعبان مبتسم يفك لغز تيكال!
لكن الغريب في الأمر، أنه لم تُنحت أية مسلات في الفترة بين العام 560 وحتى 690، وبسبب طول فترة الانقطاع الثقافي والحضاري تلك، أطلق العلماء عليها فترة "الانقطاع المستمر لتيكال" واعتبروها لغز حضارة المايا القديمة.
بينما حاول العلماء ملء تلك الفجوة في ستينيات القرن الماضي، إذ لاحظوا وجود رمز غريب منقوش حول مختلف مواقع العصر الكلاسيكي، وكان الرمز عبارة عن ثعبان مبتسم ابتسامة فظة، مع رسوم وعلامات تحيط بهن وربطها العلماء بالملوك.
وفي العام 1973، تعرفت عالمة الآثار جويس ماركوس على الرمز بصفته شعاراً ذا أحرف مرسومة ترمز كلماته للمدينة ولقب الحاكم والذي كان بمثابة نوع من الرمز إلى الأصل النبيل، فيما تساءلت عن صلته بـ "الانقطاع المستمر لتيكال"، وطرحت فكرة احتلال المدينة من قبل محاربين غير معروفين، وإذا كانوا قد فعلوا فمن أين ممكن أن تأتي مثل هذه القوة.
ومع أن أدغال بيتين تكون حارة وجافة خلال موسم الجفاف، ولا يمكن المرور بها في موسم الأمطار، لانتشار النباتات السامة والحشرات ومهربي المخدرات المسلحين، تمكنت جويس من استكشافها لعدة أشهر، وزيارة الأطلال والتقاط صور للرموز المنقوشة، ورأت انتشار الثعبان المبتسم ابتسامة عريضة تلك في كل مكان ذهبت إليه، وخصوصاً بالقرب من الحدود الجنوبية حول مدينة كالاكْمول القديمة والتي تعرف الآن بالمكسيك.
كما دفع لغز الثعابين الباحث البريطاني الشاب سيمون مارتن، لتجميع كل المعلومات الممكنة عن الرموز المنقوشة للثعبان في كالاكمول ومواقع أصغر، واستخدم تلميحات عن المعارك والمكائد السياسية من جميع أنحاء عالم المايا لتكوين صورة عن (الأفاعي) وسلالتها.
واعتبر مارتين أن كالاكْمول حالة ضبابية بالمقارنة بتيكال التي عُرف كل شيء عنها بتتبع آثارها، إذ نشر مارتن وعالم الآثار نيكولاي جروبي كتاباً بعنوان (تاريخ ملوك وملكات المايا)، ووصفا التاريخ المتداخل لممالك عالم حضارة المايا القديمة، معتبرين أن مملكة (الأفعى) كانت ثقباً أسوداً نوعاً ما والذي ابتلع جميع المدن المحيطة به، وبنى إمبراطورية المايا.
فيما يبقى العديد من الأسئلة غير المجاب عنها حول (الأفاعي) مثل كيف كانوا يعيشون ويحكمون، ويحاربون وحتى ما إذا كان بعض منهم حقيقي.
كيف حشد الأفاعي ولاء المدن؟
يتوقع علماء الآثار أن تيكال تقلدت موقعها بمساعدة مدينة أكبر من ذلك بكثير، والتي تقع عاليا في الجبال وتبعد 650 ميلاً في اتجاه الغرب وتدعى تيوتيهواكان قرب ما يعرف بمكسيكو سيتي، إذ صاغت هاتان المدينتان الرسم والعمارة وصناعة الفخار، والأسلحة، وتخطيط المدن في المايا لعدة قرون، قبل أن يتغير كل ذلك في القرن السادس عشر، عندما انسحبت تيوتيهواكان من منطقة المايا، تاركةً تيكال لإعالة نفسها.
وهنا بالتحديد يدخل (الملوك الأفاعي)، الذين لا يدري أحد من أين أتوا تحديداً، إذ لا يوجد دليل واحد على حكمهم لكالاكمول قبل العام 635، فيما يتصور بعض الخبراء أنهم كانوا موجودين منذ مئات السنين قبل العصر الكلاسيكي، ينتقلون من مكان إلى مكان، وينشئون المدن الضخمة واحدة تلو الآخرى، ولكنها لا تزال مجرد تكهنات، إلا أن أول رمز منقوش واضح لأفعى ظهر في (ديبانشيه) وهي مدينة في جنوب المكسيك على بعد 80 ميلاً شمال شرق كالاكمول.
وحيثما كان منشأ (الملوك الأفاعي)، فبداية من أوائل القرن السادس أدرك ملكان متعاقبان أن تيكال كانت ضعيفة وقاموا بألعوبة جريئة من أجل السيطرة السياسية، وكان الملك الأول (جاكوار ذو اليد الحجرية) الذي أمضى عشرات السنين في إجراء اتصالات للمجاملة في جميع أنحاء الأراضي المنخفضة بمايا، مثل إقامة حفلات الزواج ولعب الكرة القديمة (رياضة تشمل كرة وعديد من العصي والأطواق الحجرية).
وهو ما يُفسر كيفية حدوث الغزو في كثير من الأحيان في عالم المايا من خلال تقديم الهدايا وإظهار الاحترام وبناء تحالفات مصيرية، ويبدو أن لا أحد كان أفضل في هذا من (الأفاعي)، وسرعان ما انحازت كاراكول حليفة تيكال في الجنوب الشرقي، في صف (الأفاعي)، مثلما كانت واكا مدينة محبة للحرب بالنسبة للغرب.
إذ حشد (الأفاعي) بصبر ولاء المدن الأخرى من شمال وشرق وغرب تيكال، مشكلين كماشة عملاقة للضغط على خصمهم، وفي النهاية كان (جاكوار ذو اليد الحجرية) وحلفاؤه على استعداد لتنفيذ خطتهم على تيكال، إلا أن قائد (الأفعى) مات قبل استطاعة مناوراته السياسية أن تؤتي ثمارها.
خليفة الأفعى دمّر تيكال
حتى أصبح الأمر مرهوناً بـ(شاهد السماء) خليفته _ وربما ابنه _ لإطلاق الفخ، ويبدو أن الملك الشاب كان شخصية مثيرة للإعجاب، إذ يقول العلماء الذين فحصوا رفاته أنه كان قوي البنية وأن جمجمته تعرضت للضرب من جراء معارك لا تحصى بندوب فوق ندوب سابقة.
وحسب النقوش على مذبح في كاراكول، وضع (شاهد السماء) حداً لعهد تيكال في 29 أبريل/نيسان عام 562، إذ خطط الملك جيداً ثم ضرب، فتحرك قائداً جيش (الأفعى) شرقاً من واكا، في حين تحركت قوات من كاراكول ونارانخو عاصمة المدينة المجاورة، ومن المحتمل هولمول أيضاً إلى الغرب، وسرعان ما سحقت (الأفعى) وحلفائها تيكال.
ومن المحتمل أن شعب هولمول في هذا الوقت دمروا تقريباً الجدارية التي عثر عليها استرادا بيلي بعد أكثر من 1400 سنة في وقت لاحق والتي تكرم تيكال وتيوتيهواكان كعلامة للولاء لـ(لوردات الأفاعى) الجدد ليبدأ عهد (الأفعى).
وتعد السنوات الثلاثون التالية من تاريخ المايا غامضة بعض الشيء، وبفضل عالمي الآثار المكسيكيين إنريكي نالدا وساندرا بالانزاريو علمنا أن (شاهد السماء) توفي بعد 10 أعوام من انتصاره وذلك عندما كان في أوائل الثلاثينات.
وفي العام 2004، كشف العالمان النقاب عن سلسلة من المقابر بهرم في ديبانشيه والتي عثرا فيها على إبرة مصنوعة من عظام كانت تستخدم لأجل طقوس الدم وسط أقنعة من اليشم (حجر أخضر صلب يستخدم في الأدوات والحلي)، والزجاج البركاني الأسود، واللؤلؤ وذلك تحت طبقة سميكة من التراب الأحمر الزاهي.
فيما تحمل الإبرة علامات على جانب واحد منها تقرأ كالتالي "هذا هو قربان دم شاهد السماء"، ومن بين ثمانية من ملوك الأفاعي الذين تولوا الحكم خلال (الانقطاع المستمر لتيكال)، يعد شاهد السماء واحداً من اثنين فقط ممن عُثر على بقاياهم.
مدينة بالينكو الصغيرة تواجه الأفاعي
والمرة التالية التي ظهرت فيها (الأفعى) كانت بعيداً إلى أقصى الغرب، في مدينة بالينكو المترفة، فعلى عكس سهول المدن الكبرى الأكثر جفافاً في تيكال كالاكمول كانت بالينكو محسّنة ومتطورة، وكانت أهراماتها البهية والمغطاة بالجص وبرج المراقبة تقع عند سفوح الجبال التي تؤدي إلى خليج المكسيك والهضاب الوسطى، وبفضل أنهارها الوافرة وشلالاتها كان لديها الكثير من المياه، ربما كان لديها ينابيع تتمتع بماء جاري.
ولم تكن مدينة بالينكو كبيرة فربما ضمت 10 آلاف شخص، لكنها كانت منارة للحضارة وبوابة للتجارة إلى الغرب، وهو ما يجعلها مستهدفة بشكل رئيسي للقوة الشابة الطموحة، ومن بعد ذلك قاد (الأفاعي) ملك يدعى (الثعبان المتنقل) والذي غزا مثل أسلافه باستخدام الوكلاء والحلفاء.
دافعت ملكة بالينكو والتي تدعى (قلب المكان العاصف) عن مدينتها ضد هجمة (الأفاعي) ولكنها استسلمت في 21 أبريل/نيسان عام 599.
وقد كانت مثل هذه النزوات التوسعية نادرة في المايا خلال العصر الكلاسيكي والتي غالباً ما توصف بأنها مفككة ومحبة للنزاع وتركز على أراضيها دون طموحات أكبر إلا أن (الأفاعي) كانوا مختلفين، ويقول غييرمو برنال عالم نقوش بالجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك "كان الهجوم على بالينكو جزءاً من خطة أكبر"، مستبعداً وجود أسباب مادية في طابعها ولكنها كانت أيديولوجية، فقد كان هدف كانول بناء إمبراطورية.
فيما تشكل فكرة بناء إمبراطورية مثاراً للجدل بين علماء آثار المايا، فهو بالنسبة للكثيرين مفهوم ثقافي وغير قابل لتصديقه من الناحية الجغرافية، ومع ذلك، بالنظر إلى (الأفاعي) يغدو من الصعب ألا نشاهد نمطاً من التوسع.
فقد كونوا حلفاء من أكبر المدن في الشرق، وحققوا الانتصارات حتى الجنوب، كما تاجروا مع الناس في الشمال، إذ تشكل بالينكو حافة عالم المايا بالنسبة إلى الغرب، ولكن دون الخيول والجيوش بشكل دائم، كيف بإمكانهم أن يصمدوا؟
توسيع نطاق الحكم
التأثير على هذه المنطقة المترامية الأطراف التي تبلغ من الكبر مثل حجم ولاية كنتاكي الأميركية، يتطلب شكلاً من أشكال التنظيم لم يسبق له مثيل في المايا، كما يحتاج إلى سلطة جديدة، تكون أقرب إلى المدن الغنية باليشم في الجنوب.
وكانت ديبانشيه على قرابة 100 ميل من كالاكْمول وهي مسافة مثيرة للإعجاب لهؤلاء الناس الذين يقطعونها سيراً على الأقدام خلال غابة كثيفة، فيما لا توجد سجلات للانتقال إلى العاصمة الجديدة كالاكْمول ولكن في عام 635 أقام (الأفاعي)نصباً تذكارياً يعلنون به أنفسهم أسياد المدينة وذلك بعد أن شردوا سلالة معروفة هنالك باسم (الخفافيش).
وخلال عام واحد تولى أعظم حكام الأفاعي _ وربما أعظم ملك في المايا على الإطلاق _ العرش، وكان يدعى (ياكنوم تشين الثاني)، أو (مزلزل البلاد) كما كان يُطلق عليه في بعض الأحيان.
وكان كل من (شاهد السماء) و(الثعبان الدوار) غزاة بارعين، ولكن كان ياكنوم تشين ملك حقيقياً، مثل سايروس في بلاد فارس أو أغسطس في روما، فقد تلاعب بمهارة بإحدى المدن أمام الأخرى، عن طريق رشوة بعضها، وتهديد أخرى، بينما يحكم قبضته على سهول المايا بخلاف أي من ملوك المايا من قبله أو بعده، وواصل هذا التوازن السياسي لمدة 50 سنة.
مهربو الآثار ساعدوا في كشف الحضارة القديمة
بما أن أفضل طريقة لفهم الملك عبر لقاء خادمه، في الغالب، فإن أفضل طريقة لفهم إمبراطورية في كثير من الأحيان هي أن ننظر إلى (المدينة العميلة)، وقد كان أكثر خدام الأفاعي إثارة للاهتمام هي مدينة صغيرة تسمى ساكنيكت.
إذ اكتشف علماء الآثار ما أسموه الـ(موقع Q) صدفةً، بحلول أوائل السبعينيات، وذلك بعدما عثروا على ألواح حجرية يتم بيعها في السوق السوداء، دون معرفة مصدرها الحقيقي، وكان قد نُقش على تلك الألواح نصوص معقدة ورمز الثعبان المبتسم.
وأصبح هذا الموقع سفينة العهد لعلماء الآثار أمثال مارسيلو كانوتو، ففي العام 2005، رافق كانوتو باحثين آخرين يرسمون خرائط الموقع الملقب بـ(لا كورونا) في غابة بيتين، وبينما كان يبحث عن قطع خزفية للمساعدة في تأريخ الموقع، صادف خندقاً لأحد اللصوص مقسماً على شكل هرمي حيث رأى بقعة في حجم محفظة من الحجر المنحوت مكشوفة على الجدار.
وقد ذهب أمراء تلك المدينة الصغيرة أو الموقع الخاص بالمايا -الذي كان له مكانة خاصة في مملكة الأفعى-، إلى كالاكْمول للتعليم، وتزوج ثلاثة منهم من أميرات (الأفعى)، وعلى خلاف مدينة واكا العسكرية في الجنوب، لم تخض ساكنيكت العديد من المعارك، وكان لملوكها أسماء سلمية والتي تترجم تقريباً مثل (الكلب المشمس)، و(الدودة البيضاء)، و(الديك الرومي الأحمر).
ووفقاً للوحات منحوتة وجدت من قبل فريق كانوتو، أن ياكنوم تشين زارها قبل أن تنتقل عاصمة (الأفعى) رسمياً إلى كالاكْمول، فيما لم تكن ساكنيكت المكان الوحيد حيث بنى فيه (الأفاعي) نفوذهم، فاسم ياكنوم تشين يظهر في جميع أنحاء منطقة المايا. فقد زوج ابنته (يد زنبقة الماء) إلى أمير واكا، وأصبحت فيما بعد ملكة محاربة قوية.
كما قام ياكنوم بتثبيت قدم الملوك الجدد في كانكون حتى الجنوب، ورسخ إصلاحات أخلاقية حتى قرابة مائة ميل إلى الغرب، كذلك انتصر في دوس بيلاس على شقيق ملك تيكال الجديد جاعلاً منه تابعاً مخلصاً.
كما أنشأ طريقاً تجارياً جديداً على الجانب الغربي من مملكته، كي يربط بين حلفاء متعددين، وقد لاحظ العلماء غرائب في هذه المدن التابعة لحكمه، فعلى ما يبدو أنه لم يكن لدى حلفاءه المقربين شارة منقوشة خاصة بهم، وعلى الرغم من التزين الفخم لملوكهم لكنهم لم يستخدموا الألقاب الملكية بمجرد أن خضعوا لـ(الأفاعي).
كيف هددت تيكال الأفاعي رغم قوتهم؟
يعتقد توماس بارينتوس، عالم الآثار الغواتيمالي الذي شارك في إدارة موقع ساكنيكت، أن الأفاعي غيروا الطريقة التي كانت تمارس بها السياسة، واعتبرت تلك المرحلة طفرة في تاريخ المايا.
إذ أبقى (الأفاعي) أعينهم طوال الوقت على تيكال عدوتهم القديمة، والتي حاولت مراراً وتكراراً النهوض والانتقام، ففي عام 657، بعد حشد ياكنوم تشين لحلفائه، ضرب تيكال ومعه ملك قريب أشبه بألعوبة _ وهو رجل طموح يدعى (الإله الذي يدق السماء)، ولكن بعد عقدين من الزمن قامت تيكال مع ذلك مرة أخرى، إلا أن (الملك الأفعى) دبر لهزيمتها مرة أخرى؛ مما أسفر عن مقتل ملكها في خضم الأمر.
ولكن كيف كانت تيكال لا تزال قادرة على تهديد (الأفاعي) الذين يبدون أنهم قادرين على أي شيء؟ يقول الخبراء أنه كان على ملوك المايا توخى الحذر من أجل الحفاظ على التحالفات فغالباً ما تركوا الملوك المنهزمين على قيد الحياة، ومن المحتمل أن معارك حضارة المايا في العصر الكلاسيكي كانت في معظمها تشريفية، أو ربما خشي حلفاء الملوك المنهزمين أن تضرب أعناقهم فضغطوا من أجل الرأفة بهم، أو ربما لم يكن لدى ملوك المايا جيوش كبيرة بما يكفي للقضاء على المدينة.
أياً كان السبب، لعب ياكنوم تشين لعبة سياسية دقيقة، فبدلاً من تسليم تيكال لحليفه (الإله الذي يدق السماء)، عقد قمة سلام مع ملك تيكال الجديد، ثم كان بعد ذلك أن قدم خليفته _ ومن المرجح أنه ابنه _ (مخلب النار)، الذي سيرث المملكة، ليفقدها في نهاية المطاف إلى الأبد.
صراعات بين ملوك تيكال
توفي ياكنوم تشين في سن متقدمة من العمر وهو يبلغ نحو 86 عاماً، حينما كان باستطاعة معظم مواطني كالاكمول العيش حتى نصف هذه المدة على الأكثر، ولكن ملوكهم كانت من سلالة مدللة، ويتناولون طعام التاماليس المكسيكي (طبق من اللحوم المتبلة وملفوفة في عجين من دقيق الذرة وتخبز في قشر الذرة)، حتى أن أسنانهم قد بدى عليها الشباب بشكل غير عادي.
في الوقت الذي كان سوء التغذية مستشرياً في الطبقات الفقيرة، ولكن كان باستطاعة النخبة أن يكون وزنها زائداً وربما أصيب بمرض السكري.
ويرى بعضهم أن (مخلب النار) كان رجلاً مثل هؤلاء تماماً، كما أنه من المحتمل أنه أدار المملكة قبل فترة طويلة من وفاة والده، ولكن كما هو الحال مع أبناء العديد من ملوك العظماء، سقط بعيداً عن والده.
وعلى الرغم من الهزائم الساحقة المتعددة، قامت تيكال مرة أخرى في عام 695، وفي هذه المرة كان يقودها ملك شاب، والذي كان لديه اسم مثير للإعجاب وهو (الإله المطهر للسماء)، إلا أن (مخلب النار) حشد جيشاً آخر من (الأفاعي) لمواجهة مغرور تيكال.
نحن لا نعرف بالضبط ما حدث في ذلك اليوم من أغسطس/آب، ويعتقد بعض الخبراء أن (الإله الذي يدق السماء) والذي يشعر بالمرارة بسبب صده وازدرائه، خان حلفاءه الأفاعي في ساحة المعركة.
فيما يقول آخرون أن (مخلب النار) خلال منتصف العمر ومعاناته من مرض مؤلم في العمود الفقري لم يبث الثقة في قواته، وربما كان الأمر أن القدر لم ينحز له بكل بساطة.
الأفاعي تفقد لدغتها للأبد
دُحر الأفاعي بالفعل، إلا أنه بعد سنوات قليلة، كان حكم (مخلب النار) في حالة يرثى لها، ومات حاملاً معه أحلام (إمبراطورية الأفعى)، إذ يقول معظم علماء الآثار أن الأفاعي لم يتمكنوا من استرداد قوتهم أبداً لكنهم واصلوا في ممارسة نفوذهم للتأثير، ففي عام 711 أعلنت نارانخو -أقوى حليف للأفاعي- أنها لا تزال موالية لهم، وبعد مرور 10 أعوام ظهرت أميرة أخرى لـ(الأفعى) في ساكنيكت.
ولكن بحلول منتصف القرن كان الأفاعي قد فقدوا لدغتهم، حتى أن أحد جيران كالاكمول نصبوا مسلة للاحتفال بعودة ملوك الخفافيش تُظهر محارباً يدوس على ثعبان، وعلى مدار القرن التالي عاقبت تيكال عواصم المدن التي ساعدت الأفاعي وتشمل واكا، كاراكول، نارانخو، وهولمول.
إذ دعا شعب ساكنيكت -المعروفين بكونهم عشاقاً لا مقاتلين- أميرة تيكال للزواج من أحد نبلائها في عام 791، ورغم ذلك لم تستطع تيكال بلوغ النفوذ الذي وصل إليه (الأفاعي).
وبحلول منتصف القرن الثامن كانت المايا خلال العصر الكلاسيكي في حالة انهيار، سواء بسبب الزيادة السكانية، وعدم الاستقرار، أو الجفاف الذي طال أمده، فسقطت المدن في حالة من الفوضى، وفي نهاية المطاف تم التخلي عنها.
هل كان باستطاعة الأفاعي أن يحولوا دون الانهيار؟
يعتقد ديفيد فريدل عالم الآثار والذي يقود عمليات التنقيب في واكا أنه كان بإمكان الأفاعي تجنب الانهيار، وأضاف: "إن الفشل في توحيد المنطقة الوسطى من عالم المايا تحت حكومة واحدة يعد عاملاً رئيسياً في الانحدار إلى الفوضى والحروب المتوطنة وشدة التأثر بالجفاف".
بينما يقول رامون كاراسكو، عالم الآثار الذي يشرف على موقع كالاكمول أن الأفاعي لم يعيشوا أبداً في ديبانشيه، ولم يهبطوا من مجدهم قط، ومع أنه عمل جنباً إلى جنب مع سيمون مارتن وغيرهم من الباحثين ونظر إلى الأدلة ذاتها، لكنه توصل إلى استنتاجات مختلفة.
ولذلك يظل علماء الآثار يبحثون عن أدلة، ففي عام 1996 كان كاراسكو يقوم بأعمال التنقيب عن أكبر بناء بكالامول وهو هرم فخم يرجع تاريخه إلى ما قبل 300 سنة قبل الميلاد، وبينما يقوم بالتنقيب ورفع الأحجار اكتشف بقايا جثة وغرفة أسفل منها، إذ رأى العظام والقرابين.
وقد استغرق الأمر تسعة أشهر للحفر بأمان داخل القبر والتنقيب فيه، وعندما استطاع كاراسكو أخيراً الدخول كان يعلم أنه سيجد ملكاً قوياً، إذ كان الجثمان ملفوفاً في شال ناعم مغطى بالخرز، لم يكن الملك بمفرده، وإنما وُضعت امرأة شابة وطفل تمت التضحية بهما كقربان في غرفة مجاورة، وبدا قبره مزيناً بشكل أنيق.
وبتنظيفه وجه الملك وجد قناع من اليشم، الذي استخدم لتكريم الملك في الحياة الأخرى، كما تبين إلى أن الملك رجل ذو جسد ممتلئ، وربما كان سميناً، ولديه أربطة تشد عموده الفقري، وفي مكان قريب منه وُجد غطاء رأس من اليشم، والذي حوى مخلب جاكوار في داخله، وبجانب ذلك كان هناك طبق خزفي برأس ثعبان مبتسم ونقش يقول "لوحة مخلب النار".
حقيقةً أن عالم الآثار يثير الجنون، فقبل أربعين سنة، كان وجود (ملوك الأفعى) شائعة، وقبل عشرين عاماً كان يُنظر إليهم باعتبارهم سادة كالاكمول، أما اليوم فنحن نعرف أنهم حكموا أكبر وأقوى مملكة للمايا في أي وقت مضى.
هذا الموضوع مترجم عن مجلة National Geographic الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.