التدوين الذي نفتقد

بات التدوين فناً من فنون الإعلام الميسورة في متناول الجميع.. فالسوق مفتوحة، والكل يعرض بضاعته، فمن بائعِ خمرٍ، إلى بائع ورد، ومن شاعرٍ يترنم بسوق عكاظ، إلى أديبٍ ومفكّرٍ ينمّق المعنى والمبنى ويسحر الألباب بتراتيبه وفكره.

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/15 الساعة 04:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/15 الساعة 04:24 بتوقيت غرينتش

بات التدوين فناً من فنون الإعلام الميسورة في متناول الجميع.. فالسوق مفتوحة، والكل يعرض بضاعته، فمن بائعِ خمرٍ، إلى بائع ورد، ومن شاعرٍ يترنم بسوق عكاظ، إلى أديبٍ ومفكّرٍ ينمّق المعنى والمبنى ويسحر الألباب بتراتيبه وفكره.

إن الأمة العربية تعيش مرحلة انتقال التأثير ودوائر التوجيه من النخب إلى الطبقات الوسطى، بل إلى كل صاحب فكرة يبحث لها عن منبر ليصدح بها، بعيداً عن استحواذ التلفاز والتكميم والإعلام الذي لا يسطر إلا ما يرى سعادة الفندم والقائد واللاهوت!

لكن ثمّةَ تدوينات لا تزال أجنة في البطون لم ترَ النور بعد، ومثلها هي التي نحتاج، ليس فقط تعبئة الصفحات وإعادة تدوير الكلمات.

أولها وأهمها فئة الشباب التي أشعلت ثورات الربيع العربي، وخرجت عن الطوق تبحث عن حريتها وكرامتها وحقوقها التي سلبتها منها الأنظمة العربية الوظيفية المستبدة، ثم ما لبثت القوى الدولية بمساندة رجالات المستبدين في الداخل إلى حرب ثورات الشباب بلا هوادة، بثوراتٍ مضادة تارة، وأخرى بالإرهاب وداعش، وثالثة بانقلابات عسكرية، ورابعة بإعادة تدوير الأنظمة الآفلة، وامتصاص غضب الشباب العربي ببيانات هزيلة ممجوجة.

إن هذا الشباب الطاهر يحمل الكثير من الآلام، وفي جعبته ما يُغني عن ألف خطبة وبيان لقائد سياسي، ولسان حالهم عبّر عنه الشاعر بقوله:

(لا شيء أفصح من بلاغة جرحنا)

فجراحهم وآلامهم وأصواتهم أبلغ من كل بيانات الأحزاب والساسة والأدباء، ومثلهم ينبغي أن تُفتح لهم الأبواب مشرّعة؛ لتصل آلامهم بحرية تامة.

وأما التدوين الثاني فهو تدوين أصحاب التجارب الناجحة في عالم الاجتماع والسياسة والاقتصاد والفكر والفلسفة والدين والأدب وسائر الفنون، ومثل هؤلاء ينبغي عليهم كتابة تجاربهم الشخصية، فإن شباب الأمة يعيشون حالة من التيه واللارؤية وخبط البدايات، وشيوع مثل هذه التجارب للعامة من شأنه أن يوسع دائرة البدائل والخبرات، فيسهل على أحدهم الاقتداء والبدايات وشق طريقه نحو عوالم الإبداع!

والفئة الثالثة التي نحتاج لتدوينها هم رجالات الحركة الإسلامية في العالم والدعاة إلى الله، بعيداً عن زهدٍ مذموم في هذا، أو تقليل من حجم الأثر الذي ستورثه للأجيال، أو تحجج واهٍ بعدم التفرّغ لكتابة ذلك كأفراد وجماعات!

لقد ألف الإمام ابن الجوزي -رحمه الله- "صيد الخاطر"؛ لينقش كل ما يجول بخاطره مخافة الفوات وحرمان أمته من علم غزير وأدب جم وخبرات السنين، وجميعنا اليوم يتسابق في المكتبات لشراء خواطره الرائعة تلك!

بل إني أجزم أن من أسباب مأساة العمل الإسلامي في غالب البلدان عدم كتابة تجاربهم الحقيقية كما هي، وإنزالها للأتباع، للمراجعة والنقد الذاتي والمحاسبة؛ لكي لا يكرّروا الأخطاء، ويبدأوا من حيث فشل أسلافهم، ناهيك هذا طبعاً عن أن تُكتب للجمهور الناقد المتربص، إلا من بعض الأقطار التي تعد على الأصابع، وعلى قلّةٍ فيها أيضاً!

إن هذه التجارب تُنقش بماء الذهب مهما كان فيها من أخطاء منهجية أو غيرها؛ كونها تورث للأجيال فقهاً جماعياً، وخبرة متراكمة، وجهداً بشرياً تستطيع أن تبني عليه، وتستدرك، وتتجنب الحفر والمطبّات التي وقع فيها أسلافهم!

ومن حسن حظ الأديب المسلم والداعية المجاهد في كتابة هذا أنه لا يلزمه التقيد بمنهجيات البحث العلمي؛ بل هي أشبه ما تكون بالمذكرات الشخصية، التي يتعطش لها الجمهور، وسيحكم فيها بعد ذلك بخلع القبعة له احتراماً، أو تسليط السهام عليه انتقاماً!

والفئة الرابعة التي نحتاج تدوينها هم أصحاب القرار في البلدان العربية، من رؤساء وقيادات سياسية ووزراء وعسكريين، الذي يواري الثرى كثيراً منهم دون تسطير مذكراتهم أو مقالات لهم على الأقل تنفع الأجيال، طبعاً وبعيداً عن حال ارتداء قبعاتهم السياسية أو العسكرية للحساسية التي نتفهمها لطبيعة مواقعهم؛ لكي لا تجرجر لقرارات على الأرض أو تثير فوضى إعلامية في غنى عنها ذاك المسؤول والقائد… إنما المستقيلون ومن تركوا الجهات الرسمية، أو من يضبطون إيقاع الكلمات وآثارها بعيداً عن صفاتهم الرسمية فهم المطلوبون خصيصاً لإفادة الجمهور.

خذ مثلا ًما كتبه بول بريمر، حاكم الاحتلال الأميركي للعراق، وما كتبه بعض الرؤساء العرب السابقون أو العسكريون، أو علي عزت بيجوفيتش، وانظر ما تحويه من معارف وطرائق تفكير وتجارب ومنهجيات، يستطيع من خلالها الفرد والحزب والدولة إضافتها لتجاربها والبناء عليها والحذف والإضافة والاستفادة حتى تكتمل الصورة وتتراكم الخبرات.

هذا بعض مما أرى أن الحاجة إليه ماسة، فـ"الكلمة قد تبني أمة أو تهدمها، وإشاعة الأفكار أَوْلى من دفنها معك، فاربط الفكرة بالفكرة، واسطرها للجمهور، وكن مشعل نور في سماء الإعلام، تزاحم بها ظلمات أقلام الزور".. والسلام.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد