تدقيق: رزق
في الكتابة بوصفها خدعة
كان غابرييل غارسيا ماركيز يقول إنه عاش ليروي، وهي الفكرة التي طوَّرها في كتابه الذي يحمل نفس الفكرة: "عِشت لأروي، قبل أن يبدع رائعته الأدبية" مائة عام من العزلة التي حاز بها وبغيرها من أعماله الخالدة جائزة نوبل للآداب سنة 1982. وكما في الكلام المأثور فإن لكل إنسان على الأقل حكاية تستحق أن تُروى. فالإنسان كائن حاكٍ، له القدرة على استثمار أساليب اللغة وملكة تخزين الأحداث في قالب سردي أكان شفوياً أو مكتوباً، لكي يبتكر صنعة أدبية يمتزج فيها الواقع بالخيال والأحاسيس الإنسانية المتعددة، ولأن لكل صنعة ضوابط تضبطها وشروطاً تقيِّدها، فإن صُناع الأدب وحِرفيي الكتابة الأدبية سيَّجوا كتابة الأدب بوابل من السياجات الشكلية الرامية لضبط وحماية هذا الموروث الإنساني الذي رافق الإنسان منذ بداية خلقه.
لكي تكون كاتباً، لا بد أن تكون موهوباً، ولكي تكون كاتباً موهوباً، وجب عليك أن تكون قارئاً موهوباً، أما إن قررت بعد طول أحلامك مع الكتاب والكتابة أن تكون كاتباً كبيراً، فلا بد لك من أن تكون قد راكمت أساليب الكتابة لدى الكبار وطرق استغراقهم في الأحلام والتجارب الخيالية وتحويلها لنص منطوق، ولكي تتمكن من كتابة نصوص جميلة بأسلوب لغوي سليم وبصور بلاغية فنية، وجب عليك أن تتمكن من قواعد النحو والصرف والبلاغة وصور التشبيه وغيرها حتى تسلم يدك ولسانك من السقطات اللغوية. ثم وأخيراً، لكي تكتب نصاً آسراً وعالمياً، يلزمك تراكم أدبي كبير وفكر فني مخضرم متجاوز لحدود التاريخ والجغرافيا إلى رحابة المشترك الإنساني العميق.. هكذا قالوا.
الكتابة غوصٌ في الذاكرة الإنسانية، واستجداءٌ للأحلام، وهوَسٌ بألاعيب اللغة، وزَعمٌ بأحقية المشاعر على الوقائع والمكبوت على المفضوح والبوح على الكتمان. الكتابة تشترط الغياب، الغياب عن الواقع المعيش، عن التجارب الجماعية، لكي تنتج نصاً عن الذات للآخر، أي الإبحار في عالم الخيال للحديث عن عالم الواقع. الكتابة تجربة نفسية فردية قبل أن تكون جماعية، أي أنها تخاطب الذات عبر الذات ولا تخاطب الآخر عبر الذات. تخرج الكتابة الأدبية عن أدبيتها عندما تكتب من أجل الآخر وفقط، رغم أن العمل الأدبي لا يكتمل من دون الآخر المتلقي الذي ينضجه بتعدد قراءته وتنوع فهمه وتذوقه، تبدأ حياة الكتاب بالتشرد وتنتهي به، والتشرد هنا ليس بمفهومه الجسدي الواقعي، بل بمفهومه الذهني أيضاً، يسميه البعض بمعاناة الكتابة أو بحرقة الكلمة أو بالقلق الأدبي، لكن التشرد ليس شعوراً تمثيلياً وحالة نفسية مصطنعة، بل هو تجربة وجدانية قبل أن تكون واقعية. يعيش بعض الكتاب التعاسة، ويعيش بعضهم التوحد والتيه والمتاهة، وآخرون يموتون في الأزقة ومطارح الأزبال وآخرون يصيرون حمقى معتوهين، كما يعيش البعض الآخر فشلاً اجتماعياً مقيتاً، وعلاقات تواصلية ضعيفة، وهَوناً في إثبات الذات وسط الجماعة، هذه حالات كثيرين من الكبار الذين عاشوا بهذه الصور المعيشية لكي يكتبوا صوراً بلاغياً رفيعة، هذه حال فيكتور هيغو وجورج أورويل وإدكار ألان بو وتوماس هاردي وهيمينكواي وآخرين. ولكن أعمالهم ما زالت تعيش معنا، بكثير من التميّز والإنصاف وهم يكتبون عن الحرية والجمال والفن والسعادة والحب والثورة وغيرها من التيمات التي استعارها وكتب عنها بزيفٍ، المُتأنقون من الكُتاب.
كل رواية هي كذبة، والأدب مجرد خدعة كبيرة، يتمكن الأدب العظيم من إخفائها بينما يكشفها ويفضحها الأدب الرديء، هكذا قال الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 2010. في كتابه الأدبي الجميل "رسائل إلى روائي شاب"، يراسل ماريو فارغاس شاباً يحلم أن يصير كاتباً، فيخبره عن الكتابة وعن شروطها وأصولها قبل أن يصدمه بحقيقة الكتابة الكبرى. يروي له فارغاس، أن الكتابة أولاً هي حلم يراود صاحبه قبل أن يعمل على تحقيقه، وهي تمرد على الواقع ونقد للحياة كما هي عليه، ورفض للمرئي، وإبحار في عالم الخيال، وكشف لحياة خفية لم تُعَش من طرف أصحابها الذين كانوا يتمنون أن يعيشوها ولكن لم يتمكنوا من ذلك في الواقع، والأدب يتدارك هذا الحلم ويجعله ممكناً.
ليست الكتابة الأدبية تَرفاً بورجوازياً ولا عبثاً بالكلمات ولا هواية فنية، بل هي اعتناقٌ وعبودية، اعتناقٌ لدين الكتابة التي تفرض عليك المثابرة وأداء الشعائر الكتابية والاستسلام لقدر الكلمة، وهي عبوديةٌ لأن الكاتب يصير مملوكاً لدودة في أحشائه تلتهم كل ما يأكل وهو ملزم بالأكل المستمر وإلا التهمت أحشاءه، والروائي يتغذى على نفسه مثل الكاتوبلياس، وهو تشبيه جميل يذكره فارغاس ليعني به ذلك الحيوان الخرافي الذي يظهر للقديس أنطوان في رواية فلوبير "إغواء القديس أنطوان" الذي أعاد إبداعه بورخيس فيما بعد، وهو مخلوق مستحيل يلتهم نفسه بنفسه بادئاً بقدميه، والتشبيه هنا جائز؛ لأن الراوي يلتهم ويتغذى على تجربته وحياته الخاصة كمادة أولية لإبداع قصص وروايات تخرج الذكريات للوجود حيث لا تصبح هناك ذكريات.
الكتابة الأدبية الرفيعة هي تلك التي تمتلك في طياتها القدرة على الإقناع، أن تجعل المحكي المُتخَيل يصير قابلاً للتصديق الكامل لدى القارئ والمتلقي، ليس فقط بلعبة الإغواء المنوِّمة التي يمارسها الأديب، ولكن بقوة تحويل القصة المحكية من قصة خيالية إلى قصة أقرب للواقع بل أكثر واقعية من الواقع نفسه، إنها القدرة على النفاذ إلى عمق الواقع المَعيش المضمر في أذهان الناس وملامسة أحاسيسه وإخفاقاته وآلامه عن طريق الاستقلال عنه والغوص في إمكانيات الخيال القوية في لعب هذا الدور. في رواية "المسخ" للروائي الكبير كافكا، ربما إن لم نكن من عشاق الخيال العلمي والتجرد الخيالي، لقلنا إن هذه الرواية سخيفة وساذجة، وهي تحكي عن موظف بسيط تحول إلى صرصار مقرف، لكن بأسلوب كافكا القوي، استطعنا أن نتابع بشغف كبير وتصديق عميق حكاية غريغوري سامسا والتحول الرهيب الذي حدث له ومتعة القضايا التي رافقت هذا التحول، لقد استطاع كافكا بتقنية السرد والحكي الدقيق التي تميزه أن يلغي كل تلك الأوصاف القبلية التي نعتنا بها هذا العمل الروائي قبل أن نقرأه، وتهنا في عمق الأحداث وصدَّقنا الحكاية وتأثرنا بمصير الإنسان وهو يعيش حياة لا إرادية.
عُمق الكتابة الذي ذكرناه لا يُلغي باقي أدوات الحِرفة الأدبية، فالأسلوب هو لُبُّ الإبداع الأدبي وكُنهه وهو البساط الريحي الذي يحلق به الكاتب وبدونه تغيب اللمسة الفنية للكتابة؛ لذلك تفشل الكتابات الأدبية التي تحاول تقليد بعض الأعمال الخالدة بلغة ميكانيكية حسابية متمكنة من كل قواعد الكتابة الأدبية ولكن بفراغ أسلوبي، ما يجعل الكتابة هنا تكون جافة وخالية من روح مبدعها، ولا يمكن التوقف عند الأسلوب فقط لكي نُميز عملاً أدبياً من غيره، فاختيار الراوي الذي سيروي الرواية وعلاقته بشخصيات الرواية والمسافة التي ستجمعه بالشخصية المركزية، واختيار المكان والزمن، ومستوى الواقع، والقفزة أو القفزات النوعية أو الحبكة، واختيار الشخوص والأسماء والرموز، والعلبة السوداء أو المعلومة المخبأة واختيار طبيعة النهاية وغيرها من التقنيات والأدوات الفنية، كلها لا تقل أهمية من مجمل الشروط الأدبية التي ذكرناها والمميزة للكتابة الأدبية.
تبدو الكتابة الأدبية بعد هذا العناء الطويل مع محدداتها وشروطها الشكلية، مستنزفة ومعقدة وتحتاج لكثير من التمكن الأدبي، لكنها بالتأكيد لا تحدد وحدها روح العمل الأدبي الخلاق، إنها القدرة على النفاد للطبيعة البشرية والغوص فيها ووصفها بصدق وتتبع معاناتها وسعادتها وإخفاقاتها. إنها فوضى خلاقة وتجربة مع الحرية وثورة على المعتاد والمرسوم والموروث، هي فقط بحث في الذات عن اللامفكر فيه جماعياً وتحريره ذاتياً؛ لذلك نصح الروائي فارغاس صديقه بنسيان الشكل، وكل هذه الشروط التقنية والشكلية، والبدء في الكتابة فقط.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.