بالرغم من التدفق المعلوماتي الهائل الذي نشهده في هذا العصر وفي ظل العولمة فإن أغلب المحتوى والمضمون الذي تتناقله الميديا "التقليدية والحديثة" عبارة عن أكاذيب وتسطيح في أفضل حالاته، زادت مساحات التعبير وزاد معها الغث والتلفيق، ونادراً ما تجد معرفه أصيلة باستثناء شذرات هنا وهناك.
قديماً في عصور الإسلام المشرقة لم تكن هنالك هذه الكثافة في المعلومات بقدر ما هي عليه اليوم، ولم تكن هنالك هذه السرعة في نقل المعلومة وانتشارها كما هو الحال الآن، ومع ذلك فإن المجال الثقافي العام قديماً كان أغنى وأثرى للروح والعقل.
الأغاني كتابٌ لأبي الفرج الأصفهاني (897 – 967م)، حلية الأولياء كتابٌ لأبي نعيم الأصفهاني (948 – 1038م)، الأول يحدثك عن حياة الفن وجمال الصوت واللحن وروح الموسيقى والأشعار، والآخر يحدثك عن الأولياء وسمت الصالحين وأحوال الزهاد والعباد وكلاهما يؤرخ لنفس الحقبة الزمنية، مما يدل على الغنى والتنوع الثقافي والمعرفي الذي اتسمت به تلك الحقب.
ابن سينا (980 – 1037م)، ابن النفيس (1213 – 1288م)، الرازي (864 – 923م)، ابن حيان (721 – 815م)، اجتمعت عندهم علوم الطبيعة والشريعة وقيل أيضاً علوم الحقيقة.. كتبوا وألفوا في الطب والفلك والفلسفة والحساب واللغة والموسيقى والشريعة وجمعوا بين الإلهيات والطبيعيات بعبقرية متفردة.
أبو الوفاء ابن عقيل (1040 – 1119م) ألف كتابه الواسع المسمي بـ"الفنون" في أربعمائة مجلد (يعد أكبر مؤلف في العالم على الإطلاق) يقال إنه جمع فيه أكثر من مائة باب في المعرفة من اللغة إلى الفقه والحساب والسير والأخبار والرياضة.. إلخ وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على موسوعية أبناء تلك الثقافة وتمكنهم المعرفي وإلمامهم بأغلب ضروب العلم والمعرفة.
وكقياس لمدى العمق الثقافي.. بدأت في ذلك الزمان حركة علمية ومعرفية كثيفة واسعة؛ حيث أفضت إلى ظهور بدايات لنظرية المعرفة (الأبستمولوجيا) التي بدت تتكشف أثناء محاولة البحث عن أجوبة لبعض الأسئلة التي شغلت المهتمين بالمعرفة آنذاك، وأول الأسئلة كانت ماهية المعوقات التي تقف أمام طالب العالم للدخول في العلم؟ بصيغة أخرى.. ماهية المبادئ الأولية التي يحتاجها الطالب أو الدارس للدخول في علم معين، بحيث يستحيل عليه من دونها الدخول في ذلك العلم؟
هذا السؤال من الأهمية بمكان؛ لأنه يعكس مدى الثقافة العامة للناس (ثقافة الشارع) ومدى إلمامهم بالأساسيات فكلما زادت الثقافة عند عامة الناس، بالمقابل تقل الحاجة إلى المبادئ المطلوبة للإقبال على العلم، والعكس هو الصحيح كلما ضعفت الثقافة العامة عند عامة الناس زادت الحاجة إلى المبادئ والمقدمات التي يحتاج إليها تهيئةً قبل البداية أو الشروع في العلم وفهم مسائله.
وبعد استقراء لواقع حال الثقافة المجتمعية وقتئذٍ وجد العلماء أن هنالك "جهالتين وعبثين" إذا ما تم تداركهما صح للطالب الشروع في العلم، وبهذا يكون الغرض من المبادئ التي يحتاج إليها قبل الشروع في العلم هو إزالة الجهالتين والعبثين.
والجهالتان هما: جهالة محضة، وهي عدم المعرفة أو السماع بهذا العلم أصلاً، ومعها يستحيل الشروع في العلم، وجهالة عرفية وهي معرفة في العموم دون إدراك المصطلحات والتفاصيل في قضايا وموضوعات العلم.
والعبثان هما: عبث محض، وهو الشروع في العلم قبل معرفة ثمرته وغايته، وعبث عرفي وهو الشروع في العلم بعد معرفة الثمرة، ولكن ودون معرفة التفاصيل والأدوات اللازمة والجهد المطلوب لتملك العلم.
قرر الإمام سعد الدين التفتازاني (1322 – 1390م) في كتابه "المطول في البلاغة" أن المبادئ التي يحتاج إليها من أجل إزالة الجهالتين والعبثين هي ثلاثة مبادئ لا بد من معرفتها قبل الشروع في العلم هي: (الحد، والموضوع، والثمرة) وفسر ذلك قائلاً:
الحد: هو تعريف العلم تعريفاً واضحاً مانعاً (وبه تزال الجهالة المحضة).
الموضوع: هو تبيّن المجال العام للعلم وطبيعته (وبه تزال الجهالة العرفية).
الغاية: وهي الثمرة والمقصد من العلم (وبه يزال العبثان).
فبات يقال في ثقافتهم العامة: "معرفة العلم بحده (أى بتعريفه) يدفع الجهالتين، ومعرفة فائدته التي توازي مشقته تدفع العبثين.
ظلت هذه الثلاث مقدمات للعلوم لبعض الوقت، وظل يتدارسها الدارسون قبل الشروع في أى علمٍ من العلوم، والملاحظ أنه خلال القرن الثالث عشر أورد الإمام الصبان أن مقدمات كل فن عشرة!! ويلاحظ أن هنالك زيادة في المبادئ، مما يدل على نقصان وضمور فى الثقافة العامة لدى عامة الناس، مما استوجبهم ذلك زيادة في مبادئ العلوم حتي يتهيأ الناس للعلم، وأورد الإمام الصبان في حاشيته لشرح "السلم المنورق" ما نصه الآتي:
أن مبادئ كل فنٍ عشرة الحدُ، والموضوعُ، ثم الثمرة، وفضله، ونسبتةٌ، والواضع، والاسم، والاستمداد، وحكم الشارع، والمسائل.. البعض بالبعض اكتفى ومن درا الجميع حاز الشرفا.
وأصبحت هذه الأبيات تردد بين الناس، وشاعت كثقافة عامة بينهم، فلا تتعجب إذا طالعت اليوم في المكتبة كتاباً بعنوان Principles of Management أو Fundamentals of Computer أو مبادئ القانون التجاري، فتلك هي كانت بدايتها مع علماء لم يحتاجوا إلى مقدمات أو مبادئ (ابن سيناء والرازي وغيرهما) لموسوعيتهم وإلمامهم الشديد بالعلوم المختلفة، بل تنسب إليهم اليوم بعض العلوم لإثرائهم الكثيف ومساهمتهم فيها، ثم تقهقر الحال إلى الحوجة إلى مقدمات يتلمس بها الطلاب والدارسون طريقهم للعلم مع مرور الزمن تزايدت هذه المقدمات شيئاً فشيئاً إلى أن وصلنا الآن، وللأسف أصبحت مقدمات العلوم كتباً ومجلدات ضخمة عوضاً عن معلومات ضئيلة في السابق لا تتجاوز الحد، والموضوع، والثمرة، مما يدل على أننا نعيش في ضمور واضمحلال ثقافي ومعرفي متزايد.
سلفنا وعلماؤنا السابقون بلغت بهم الهمم مبلغاً لم تبلغه بنا العولمة والتكنولوجيا اليوم بكل زهوها وسطوتها، واستحقوا أن ينالوا ألقاب العلماء بجدارة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.