قضاة وولاة.. من مآثر قضاة الإسلام

كم سمعنا عن الخلفاء والأمراء والملوك السابقين الذين كانوا يتحاكمون مع أفراد رعيتهم إلى القاضي، وسمعنا كثيرا عن القضاة الذين كانوا ينصرون الرعية على الحاكم، فيستجيب الحاكم لأمر القضاء، هذه ليست صورة مثالية لكنها حقيقة تكررت كثيرا.

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/11 الساعة 04:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/11 الساعة 04:52 بتوقيت غرينتش

مطالعة المجاميع الأدبية مما يمد القارئ بكنوز معرفية تراثية في كافة الشؤون؛ ومما استوقفني عدد من حكايات القضاة في الحضارة الإسلامية مع الحكام والولاة وأصحاب السلطان آنئذ؛ ومنها حكايات متعددة تدعو للفخر بهؤلاء الأعلام من القضاة والحكام آنذاك؛ حيث كان القاضي لا يقبل التدخل في شئون سلطته، وكان كثير من الحكام يضمنون ذلك للقضاة ويتداركون أي تجاوزات قد تقع من مرؤوسيهم؛ وكم سمعنا عن الخلفاء والأمراء والملوك السابقين الذين كانوا يتحاكمون مع أفراد رعيتهم إلى القاضي، وسمعنا كثيرا عن القضاة الذين كانوا ينصرون الرعية على الحاكم، فيستجيب الحاكم لأمر القضاء، هذه ليست صورة مثالية لكنها حقيقة تكررت كثيرا.

وإليكم بعضا من هذه الحكايات: أورد ابن عبد ربه الأندلسي في عقده الفريد قال: دخل الأشعث بن قيس على شريح القاضي في مجلس الحكومة فقال: مرحبًا وأهلاً بشيخنا وسيدنا، وأجلسه معه. فبينما هو جالس عنده إذ دخل رجل يتظلم من الأشعث، فقال له شريح: قم فاجلس مجلس الخصم وكلم صاحبك. قال: بل أكلمه من مجلسي. فقال له: لتقومن أو لآمرن من يقيمك. فقال له الأشعث: لشد ما ارتفعتَ! قال: فهل رأيتَ ذلك ضرَّكَ؟ قال: لا. قال: فأراك تعرف نعمة الله على غيرك وتجهلها على نفسك. (العقد الفريد 1/25).

إن الأشعث لم تطاوعه نفسه وهو من هو من القادة والمحاربين أن يجلس مجلسا يتساوى فيه مع شخص عادي من الرعية، لكن القاضي شريحا كان يدري جيدا ضخامة الحمل الملقى على عاتقه، وأنه لكي يكون عادلا فلابد له من المساواة بين المتخاصمين، واعتد بالمساواة الشكلية تماما مثلما هو معتد أساسا بألا يصدر حكما ظالما لطرف على حساب طرف آخر من أطراف النزاع، وهو يدرك كذلك أن استقلاله هو السبيل الوحيد لإصدار حكم عادل، ولم يجعل للعلاقات الشخصية أو لعلاقته بالمؤسسة الحاكمة سلطانا فوق سلطان الحق.

ويُروى عن القاضي أبي يوسف، هذه الحكاية: "قدم خادم من وجوه خدم المعتضد بالله (العباسي) إلى أبي يوسف بن يعقوب في حكم، فارتفع الخادم على خصمه في المجلس، فزجره الحاجب عن ذلك فلم يقبل، فقال أبو يوسف: قم، أتؤمر أن تقف بمساواة خصمك في المجلس فتمتنع! يا غلام، ائتني بعمرو بن أبي عمرو النخاس فإنه إن قدم علي الساعة أمرته ببيع هذا العبد وحمل ثمنه إلى أمير المؤمنين، ثم إن الحاجب أخذ بيده حتى أوقفه بمساواة خصمه، فلما انقضى الحكم رجع الخادم إلى المعتضد وبكى بين يديه وأخبره بالقصة، فقال له لو باعك لأجزت بيعه ولم أردك إلى ملكي، فليست منزلتك عندي تزن رتبة المساواة بين الخصمين في الحكم فإن ذلك عمود السلطان وقوام الأديان. (المستطرف1/ 100).

القضاء العادل كما نفهم من قول المعتضد هو ما تقوم عليه الأمم والدول والأديان، وبدونه لا شك يفسد كل شيء؛ لأنه "إذا اختل أمر القضاء بالدولة اختل حالها" كما ورد في نشوار المحاضرة للقاضي التنوخي، وفي هذه السبيل يروي يقول: حدثني أبو الحسين بن عياش، قال: كان أول ما انحل من نظام سياسة الملك، فيما شاهدناه من أيام بني العباس، القضاء، فإن ابن الفرات، وضع منه، وأدخل فيه قوما بالذمامات (أي أدخل المعارف والأقرباء ونحوهم، واستبعد أهل الخبرة والعلم)، لا علم لهم، ولا أبوة فيهم، فما مضت إلا سنوات، حتى ابتدأت الوزارة تَتَّضِعُ، ويتقلدها كل من ليس لها بأهل، حتى بلغت في سنة نيف وثلاثين وثلثمائة، أن تقلد وزارةَ المتقي أبو العباس الأصبهاني الكاتب، وكان غاية في سقوط المروءة، والرقاعة. … وحتى رأيت في شارع الخلد قردًا مُعَلَّمًا، يجتمع الناس عليه. فيقول له القرَّاد: تشتهي أن تكون بزازًا؟ فيقول: نعم، ويومئ برأسه. فيقول: تشتهي تكون عطارًا؟ فيقول: نعم برأسه. فيعدد الصنائع عليه، فيومئ برأسه. فيقول له في آخرها: تشتهي تكون وزيرًا؟ فيومئ برأسه: لا، ويصيح، ويعدو من بين يدي القَرّاد، فيضحك الناس. قال: وتلى سقوط الوزراة، اتِّضَاع الخلافة، وبلغ صُيُورها إلى ما نشاهد، فانحلت دولة بني العباس، بانحلال أمر القضاء. (نشوار المحاضرة : 1/ 43).

ومن الحكايات التي تستدعي التأمل العميق ما كان في زمن سليمان بن عبد الملك حيث "كان خالد بن عبد اللّه القَسريّ واليًا على المدينة للوليد، ثم أقرّه سليمان، وكان قاضي مكة طَلحةُ بن هَرم، فاختصم إليه رجلٌ من بني شَيبة، الذين إليهم مفتاح الكعبة، يقال له الأعجم، مع ابن أخ له في أرض لهما، فقضى للشيخ على ابن أخيه، وكان متَّصلاً بخالد بن عبد اللّه، فأقبل إلى خالد فأخبره، فحال خالد بين الشيخ وبين ما قضى له القاضي.
فكتب القاضي كتاباً إلى سُليمان يشكو له خالدًا، ووجه الكتاب إليه مع محمد بن طلحة. فكتب سُليمان إلى خالد: لا سبيلَ لك على الأعجم ولا ولده. فقدِم محمد بن طلحة بالكتاب على خالد وقال: لا سبيلَ لك علينا، هذا كتابُ أمير المؤمنين.

فأمر به خالد فضُرِب مائة سوط قبل أن يُقرأ كتابُ سليمان. فبعث القاضي ابنَه المضروب إلى سليمان، وبعث ثيابه التي ضُرِب فيها بدمائها. فأمر سليمان بقَطْع يد خالد.

فكلَّمه يزيدُ بن المهلب، وقال: إن كان ضربَه يا أمير المؤمنين بعد ما قرأ الكتاب تُقطع يده، وإن كان ضَربه قبل ذلك فَعفْوُ أمير المؤمنين أولى بذلك.

فكتب سُليمان إلى داود بن طلحة بن هرم: إن كان ضَرب الشيخَ بعدما قرأ الكتاب الذي أرسلتُه فاقطع يده، وإن كان ضَربه قبل أن يَقرأ كتابي فاضربه مائة سوط.

فأخذ داودُ بن طلحة لمّا قرأ الكتاب خالدا فضربه مائة سوط … ولم يزل خالدٌ محبوسًا بمكة حتى حَجَّ سليمان وكلمه فيه المُفضّلُ بن المهلَّب. فقال سليمان: إنّ خالداً جَرَّعني غيظاً. قال: يا أمير المؤمنين، هبني ما كان من ذنبه. قال: قد فعلتُ، ولا بد أن يَمشي إلى الشام راجلا. فمشى خالدٌ إلى الشام راجلا". (العقد الفريد 2/ 157).

إذن فقد انتصر الخليفة سليمان لاستقلال القضاء وهيئته المتمثلة في القاضي طلحة بن هرم وابنه الذي يساعده – انتصر له من السلطة التنفيذية التي مثلها خالد بن عبد الله القسري، وقضى سليمان على من تجرأ على انتهاك حرمة الهيئة القضائية وتعمد إهانتها بأحكام قاسية بدأت بقطع اليد، لولا تدخل يزيد بن المهلب فجعلها سليمان على أثر ذلك مائة جلدة، وزاد عليها الحبسَ مدة، وعندما قرر العفو عنه بعد شفاعة الشافعين زاده عقوبة أخرى تمثلت في أن يسير ماشيا من مكة أو المدينة إلى الشام.

واستوقفتني مثل هذه العقوبة المركبة، ويمكننا في ضوء الحدث توجيهها كالتالي حسب الجرائم التي اقترفها خالد بن عبد الله القسري من وجهة نظر سليمان: أولى الجرائم كانت تعطيله لحكم قضائي، فكان العقاب الأول – قبل التخفيف – الذي أصدره سليمان على خالد قطع اليد، وهو ما يذكرنا بعقوبة السارق في الشرع الإسلامي، وكأن سليمان نظر إلى تعطيل الحكم القضائي على أنه أشبه بالسرقة لأنه يسلب الحق من صاحبه.

وثاني جريمة لخالد تتمثل في اعتدائه على سلطة أخرى ليس من اختصاصه أن يفرض رأيه عليها، فكان عقابه الحبس. أما العقوبة الثالثة وهي عقوبة المشي راجلا من محبسه في الجزيرة العربية إلى الشام، فهي في اعتقادي ليلقنه درسا قاسيا وهو ألا يتكبر على الناس وألا يعتقد أنه طالما ملك بعض السلطان فهو في مأمن، فكان عقابه المشي، وهو جزاء فيه ما فيه من مذلة ومهانة، ولعل خالدًا رجع إلى نفسه وأدرك الدروس التي لقنه إياها سليمان. هكذا كان حكم خليفة المسلمين الأموي سليمان بن عبد الملك على خالد بن عبد الله لأنه: – منع تنفيذ حكم القضاء. – اعتدى على الهيئة القضائية اعتداء بدنيا لينال من هيبتها. – أخذته العزة بالإثم فاستكبر على رعاياه ونسي أنه أمين عليهم. – جعل للمحسوبية والمحاباة الكلمة العليا ضاربا عُرض الحائط بحقوق الآخرين.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد