“عزازيل” يوسف زيدان.. تشابك المتخيل والتاريخي

هي صرخة الإنسان للحياة والعودة بالدين إلى جوهره في بعث الطمأنينة في داخله، وليس الخوف والرعب أو قسوة الآخر، وبالتالي الرد بنفس القسوة كدفاع حتى تتوازى خطوط الدفاع والهجوم، ويصبح الدين والاختلاف سبباً لواقع قاسٍ ومؤلم نعيشه.

عربي بوست
تم النشر: 2016/04/29 الساعة 01:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/04/29 الساعة 01:54 بتوقيت غرينتش

"نظرت إلى الثوب الممزق في تمثال يسوع، ثمّ إلى الرداء الموشى للأسقف! ملابس يسوع أسمالٌ بالية ممزقة عن صدره ومعظم أعضائه، وملابس الأسقف محلاة بخيوط ذهبية تغطيه كلّه، وبالكاد تظهر وجهه. يد يسوع فارغة من حطام الدنيا، وفي يد الأسقف صولجان، أظنّه من شدّة بريقه، مصنوعاً من الذهب الخالص" (عزازيل ص 146).

يشير عنوان "عزازيل" في اللغة العبرية إلى إبليس، والرواية، كما يسوق المؤلف في محاولة لإقناع القارئ بواقعية أحداثها وشخصياتها، عبارة عن ثلاثين رقاً جلدياً، سجل عليها راهب يدعى "هيبا" مخطوطات مذكراته باللغة السيريانية، ودفنها في صندوق خشبي مغلق منذ القرن الخامس الميلادي، وعثر عليها في آثار "دير سمعان العمود" بالقرب من مدينة حلب، ولمزيد من الواقعية تحكي وصفاً دقيقاً لهذه الرقوق والفترة التي قضاها المترجم في ترجمتها، وتفصيلاً أكثر حول طريقة تحقيق وترجمة هذه الوثائق، وكأنّك أمام وثيقة تأريخيّة حقيقية، والكاتب لم يوضح في أي جزء منها أن الشخصيات والرقوق غير حقيقية، ما شكل التباساً لدى القارئ حول حقيقة الشخصيات والأحداث، وبعد هذه المقدمة تختفي شخصية المترجم، بعد أن اكتمل دورها في المهمة الموكولة إليها بإيهام القارئ بأن ما يقرؤه قد استند الى وقائع تاريخية، ولكي تكتمل عناصر اللعبة، أفسح الفضاء الروائي لحضور شخصية الراهب هيبا؛ لكي يصبح الراوي الأوحد للأحداث.

والمخطوطات تتضمن سيرة انتقاله بين أديرة الإسكندرية وأنطاكية، وصولاً إلى الدير الواقع في أطراف حلب، بما في ذلك الوساوس والإغواءات التي أوقعه فيها إبليس، وهو يحرضه على أن يكتب بصراحة وجرأة مذكراته، ويقول له: "عزازيل الذي يأتيك، منك وفيك".

"هيبا" بطل الرواية راهب مصري يشتغل في الطب، ارتحل من أسوان إلى أخميم في الصعيد إلى الإسكندرية؛ حيث شهد وقائع عنف من غلاة المسيحيين ضد من وصفوا بالزندقة، ثم ارتحل إلى شمال الدلتا مروراً بسيناء والبحر الميت، أقام في أورشليم فترة، ثم انتقل ليستقر في دير شمالي مدينة حلب. هيبا الذي كان مطارداً من عزازيل وهو يتنقل بين البلدان. والجدل والصراع بينهما كان قائماً، عزازيل كان حريصاً على أن يوقظ في داخله رغبات ومشاعر وهواجس إنسانية تتقاطع مع زهده عن الحياة، ويثير في داخله أسئلة تجعله متأرجحاً وقلقاً في إيمانه وقناعاته، فتتولد في داخله شكوك تتعرض لما كان يؤمن به من عقيدة مسيحية اختارها أن تكون طريقاً له في الحياة، بعد أن كان أبوه على دين آبائه وأجداده من الفراعنة، حتى إنه شهد مقتل والده وعمره لم يتجاوز بعد الثانية عشرة، عندما كان برفقته على قارب الصيد، بعدما خرج عليه مجموعة من المسيحيين كانوا قد تربصوا به عند معبد قديم يعتكف فيه مجموعة قليلة من الكهنة الفراعنة، اعتاد والد هيبا أن يجلب لهم، خفية وقبل شروق الشمس، نصف ما يصطاده من السمك كل يومين.

ورواية "عزازيل" حافلة بالتفاصيل عن الدين المسيحي، وصراعات قساوسة الكنائس المختلفة لدرجة التكفير، وما رافق وسبق ذلك من تطرف بعض عامة المسيحيين لدرجة الاعتداء وقتل من اعتبروهم من الزنديقات.

والأعجب من الرواية ذاتها أن مؤلفها الدكتور يوسف زيدان كاتب مسلم، وبالتالي فإن خوضه في ملكوت المسيحية تاريخياً بهذه الدقة والأناة يدعو للاستغراب، خاصة أنه تناول أحد رموز الكنيسة البابا كيرولوس العمود البطرك الرابع عشر للكنيسة، والحملة ضد رجل الدين المنفتح نسطور، والتأريخ للكنيسة في القرنين الرابع والخامس الميلاديين، رغم أن المؤلف بدأ بمحاولة إقناع القارئ بأن كتابه عبارة عن جمع وثائق لعمل غير أدبي لا يد له فيها سوى ترجمتها ونشرها، فإن الجانب التخييلي هو الأهم في الرواية.

لا شك أن الرواية مبهرة وتشكل قفزة فنية وتقنية عالية الجودة، كما أنها كشفت عن المخبآت والمستورات في المجتمع الديني المغلق.. وعن حياة بعض الرهبان في هذا المكان.. وامتدت خيوط السرد إلى المكان المفتوح المتعدد، كالانتقال من الإسكندرية إلى شمال مدينة حلب في سورية، ثم إلى أنطاكية، والمؤلف مزج ضمير المتكلم بين الواقع والتخيل، وبين الكتابة في الزمنين القديم والحديث، ما يعبر عن قدرة الكاتب الفنية على سرد الأحداث بلغة روائية تداخلت فيها الأزمنة في أمكنة متعددة بمصر وفلسطين وشمال سورية، مبيناً أن خط الصراع الثاني هو بين المسيحية والوثنية.

كما يتداخل في الرواية التاريخي بالأسطوري بالواقعي.. فجبل الطير في صعيد مصر يحمل إشارات دلالية أسطورية قديمة، فالطيور تأتي في كل عام وتحطّ عنده وتملأ الأجواء، ثم ترحل فجأة بعدما يضحي طير منها بنفسه، ويدخل رأسه بسفح الجبل ويتلقفه من الداخل شيء مجهول؛ لكنه لا يقتله إلا بعد أن يجف جسمه ويسقط ريشه.. وهذه إشارة واضحة لبقية الطيور تحذرها من الغطس في نهر النيل.. ويتم الرحيل في الليل، والعودة في العام التالي وفي الموعد ذاته.. وهذا مؤشر على قدسية النيل باعتباره إلهاً يهابه المصريون ويقدسونه، خاصة في فترتي الفيضان، ويثير البحر الخوف أيضاً حينما تتلاطم أمواجه.

"عزازيل" رواية تبحث عن إمكانية العيش المشترك بين الجميع بعيداً عن الإلغاء، وتلمس مواطن الجمال والإبداع في كل مرحلة تاريخية من تطور.. حين بدأ الإنسان يبحث عن سر هذا الكون ووجوده كان هناك دافع وحيد هو البحث عن الطمأنينة في اكتشاف المحيط، ومعرفة الكون، وتكوين فكرة عن بدء الخليقة، فكان الدين الذي بدأ بإثراء العالم الروحي للإنسان والارتقاء بوعيه.

إنها دعوة للاستفادة من دروس التاريخ، فالخاسر الوحيد هو الإنسان؛ إذ يعود إلى أكثر العهود جهالة وظلامية وقسوة؟

هي صرخة الإنسان للحياة والعودة بالدين إلى جوهره في بعث الطمأنينة في داخله، وليس الخوف والرعب أو قسوة الآخر، وبالتالي الرد بنفس القسوة كدفاع حتى تتوازى خطوط الدفاع والهجوم، ويصبح الدين والاختلاف سبباً لواقع قاسٍ ومؤلم نعيشه.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد