يقال بأن المعرفة تتضاعف كل خمسة عشر عاماً على أبعد تقدير، ويقال إنه لو قدر للمرء أن يقرأ في حياته ستين سنة وقرأ في كل أسبوع كتاباً، فإنه يكون قد قرأ نحواً من ثلاثة آلاف كتاب، وهو رقم متواضع جدًّا بالنسبة إلى ما هو منشور، وهذا ما دفع العديد من المؤسسات التعليمية لإدخال مصطلح جديد، يسمى "القراءة السريعة"، كنوع من الاستدراك لما يعجز المرء عن إدراكه.
وقد أقيمت العديد من الدورات التدريبية على مستوى العالم ترفع ذات اللواء، استدراك ما فات!
لكن ما هي القراءة السريعة؟ وما جدوى التوجه نحو هذا الأسلوب؟ أليس خياراً متطرفاً نحو دوامة العجلة وهاجس التنافسية الذي يزيد المرء هوساً بمفهوم الإنجاز والنجاح؟ وهل من المنصف إدخال مهارات القراءة والثقافة تحت مظلة التسارع كما كل مجريات العالم الأخرى؟ ألا تتعارض السرعة مع الفهم؟ الاستيعاب؟ الاستمتاع؟
إن مفهوم القراءة السريعة بتعريفه المجرد، يدعو إلى زيادة معدل قراءة الفرد بشكل تدريجي، ويقاس بعدد الكلمات في الدقيقة. ولنبدأ بأبسط نموذج، كم كلمة في الدقيقة يقرأ طفل في الصف الأول؟ كم كلمة يقرأ طالب الصف الرابع؟ السادس؟
بملاحظة بسيطة لأداء أبسط القراء على الإطلاق، وهم متعلمو القراءة الجدد، ترى أن الأداء يتحسن تدريجيًّا مع كل سنة دراسية بشكل بالغ الوضوح، فما ينجزه طالب في الصف السادس يفوق ما ينجزه آخر في الصف الثاني، وهذا يؤكد أن التمكن من مهارة القراءة كمهارة تزداد قوة مع التدريب وتقييمات الأساتذة.
وننتقل إلى المستوى التالي من القراءة -كما يقول "آدلر وفان دورن" في: كيف تقرأ كتاباً- إن بدأنا بالتركيز على التوازن الخاص بين ما يتم قراءته من كلمات وبين الوقت، وتهدف القراءة بهذا المستوى إلى إدراك أكبر مضمون يحتويه النص خلال فترة محددة من الزمن، وتستمر مستويات القراءة بالارتقاء إلى الأعلى -خصوصاً أثناء الدراسة الجامعية، والدراسات العليا- إن بدأنا في إتقان مهارة القراءة المتوازنة نسبيًّا مع الزمن مع ضمان الاستيعاب الجيد والفهم العميق للنصوص وإن ازدادت تعقيداً. ويكمن هنا دور القراءة الفاعلة في المحافظة على التوازن بين المكونات الثلاث.. النص، والوقت، والاستيعاب.
الجدير بالذكر أن نسبة كبيرة من الطلاب في المراحل الثانوية، إنجازاتهم في مستوى القراءة لا تفوق كثيراً ما أنجزه طالب الصف السادس. وقد تجد بعضاً منهم يعجزون عن إعطائك المعنى المطلوب من الصفحة، أي أنهم لم يحصلوا على مستوى أفضل من مستوى الابتدائية "مرحلة الإلمام بقواعد القراءة والكتابة"، وهناك عدد لا بأس به من طلاب الجامعات يواجه ذات المشكلة، وهي إخلال التوازن بين النصوص المقروءة وبين متوسط الزمن المعقول لإتمامها.
وقد يكون على المؤسسات التعليمية الكثير من اللوم في توقف الاهتمام الحقيقي في تطوير مهارات القراءة وزيادة سرعتها على النحو المطلوب، كمن يترك الطفل وهو يحاول إنجاح أولى خطواته، معتبرين أن بقية المهمة تدخل في نطاق مسؤوليته، "لقد تركونا ونحن نحبو على الأرض، وجاء الآن الوقت لنتعلم السير والجري والرقص وحدنا" (توني بوزان)، بل وتثبت الدراسات أن مستوى الراشدين في القراءة يتراجع أيضاً إن توقفوا عن المواصلة.
إن أهمية القراءة السريعة لا يجب أن تهدف إلى تحطيم الأرقام القياسية، وإنما إلى تطوير القدرة على القراءة بسرعات مختلفة وتعلم متى يجب أن تستعمل هذه السرعات أيضاً.
فمستوى السرعة مرتبط بسهولة المادة المقروءة أو صعوبتها، ومعدل السرعة في قراءة الجريدة أو إحدى المجلات الفنية سوف يختلف كثيراً عن قراءة كتاب فكري، أو فلسفي. وكلّما قلّت أهمية الكتاب، أو وجد في طرحه للأفكار سهولة أو سطحية، يصبح استخدام مهارات القراءة السريعة ضرورة لتوفير الوقت واستدراك العمر، وكلما ازدادت النصوص عمقاً وصعوبة، توقف القارئ عندها وقتاً أطول، ولا تغني هنا مسألة السرعة، بل على العكس، تقليل السرعة سيصبح حينها أمراً مفضلاً ومحموداً.
وأحيانا يحوي الكتاب نفسه على الصنفين، فتأتي فقرات تحمل نظريات بحاجة إلى فهم عميق، يتبعها سيل من الجمل والفقرات المساعدة على فهم تلك النصوص، فيصبح التلاعب في السرعة فن له قواعده الخاصة. يقول د.عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- وهو ممن يبرعون في التعامل مع النصوص: "كنت ألخّص لهم -زملائي الطلاب- كل القضايا النقدية والفلسفية، فيما سميته لهم حينذاك (صيغ مترو الأنفاق) Subway formula وهي صيغ نقدية ذات مقدرة توليدية تمكنهم من مواجهة أي نص،.. فكانت الصيغة formula بمنزلة النمط الأساسي أو النموذج الكامن -المهم- أما الـ subway أو مترو الأنفاق، فهذا يعني أن الصيغة يمكن قراءتها واستيعابها بسرعة حتى في أثناء ركوب مترو الأنفاق".
سرعة القراءة مرتبطة أيضاً بالهدف من القراءة، فسرعة القراءة لأجل الاستمتاع، تختلف عن القراءة لنقد نص أدبي، وتختلف عن القراءة لأجل الاستطلاع، وتختلف عن المرحلة الأهم، وهي القراءة لأجل تطوير مهارات التفكير والوصول إلى المعرفة الحقيقة والحكمة. قد تقرأ رواية عدد صفحاتها 400 صفحة بيوم واحد دفعة واحدة، ولا تشعر أنك فعلت شيئاً مكثفاً، لكن لن تقرأ كتاب المستخلص في تزكية الأنفس، أو تهذيب مدارج السالكين، أو غيرها من الكتب التي تهدف إلى تغيير السلوك، دفعة واحدة، لأنك حينها لن تحقق الهدف الذي وضع الكتاب من أجله، وسوف يكون عبثيًّا أن لا تتوقف أمام كل فكرة جديدة.. لتتأمل وتطبّق.
ومع كل ما ذكرناه من اختلاف السرعات وفق نوع المادة المقروءة، تبقى مسألة زيادة سرعة الفرد في القراءة بشكل أسرع مما هو عليه الآن مسألة مهمة وبحاجة إلى قرار وتدريب، وكلنا نمتلك خيارات مضاعفة قدرتنا على القراءة بسرعات أكبر، إن أخذنا قراراً جديًّا بذلك. عملية القراءة بشكل عام مدخلها الأساسي حركة العين، العين ترصد صورة الورقة والكلمات، وتترجم لاحقاً إلى معنى واضح في منطقة الإبصار (الفص البصري) في الجزء الخلفي من الدماغ. إذن المسؤول الأساسي عن عملية القراءة هو الدماغ، وهو الذي يوجه العينين عبر الصفحة لاستقاء المعلومات المهمة، وهذه الجزئية هي أحد أهم مرتكزات برامج القراءة السريعة.
قضية أساسية لتطوير قراءة الفرد تأتي بالتركيز على حركة العين، والقفزات التي تقوم بها بين الكلمات، إذ إنّ العين تسير بقفزات ثابتة، قد تشكل في كل قفزة كلمة أو اثنتين، وأحياناً يصل بعض القارئين إلى سبع كلمات، تتوقف العين بين تلك القفزات للحظة، ويتم التقاط المعلومات ونقلها إلى الدماغ مع كل توقف، عادة يأخذ التوقّف ما بين ربع ثانية إلى ثانية ونصف، حسب الشخص الذي يقرأ، ثم تواصل العين القفز مجدداً لترصد الكلمات. وبالتالي فالفرق بين القارئ السريع والبطيء، هو أن البطيء يتوقف ضعف فترات توقف القارئ العادي، فهو يتوقف على كل كلمة، ويستهلك في التوقف ثانية أو أكثر ليواصل القفز للكلمة التي تليها وهكذا. أما القارئ السريع، فهو الذي تشمل قفزات العين عنده على 3-5 كلمات ذات معنى، ثم يتوقف لرصد المعلومة بوقت قليل -ربع ثانية- ويواصل قفزاته الكبيرة بشكل متلاحق وسريع. ويكون بذلك القارئ سريعاً بمكونين اثنين، عدد الكلمات الملتقطة بقفزة العين الواحدة، وفترة الوقوف بين القفزات، وهذه المسائل قابلة للتدريب والتطوير بسهولة.
إشكالية أخرى يواجهها القارئ البطيء، وهي العودة لقراءة الكلمات عدة مرات في الفقرة الواحدة، لإحساسه بأنه لم يفهم المعنى بشكل جيد، وهذه العادة لا تعطل السرعة فحسب، وإنما تعطل الاستيعاب أيضاً. يقول توني بوزان في كتابه حول القراءة السريعة: "إن كانت كل إعادة تستغرق مجرد ثانية واحدة، وتكرر ذلك مرتين في السطر، فإن الصفحة العادية يضيع فيها من الوقت ما مقداره دقيقة وعشرين ثانية، أي يضيع في الكتاب العادي (300 صفحة) أكثر من ست ساعات إضافية لا قيمة لها".
كلما كانت القراءة تميل إلى السرعة وبدون عودات وخطوات مترددة، كانت عوامل استيعاب النص تكتمل بشكل أفضل، على العكس مما يتصوره البعض. كن واثقاً بأن العين تلتقط المعلومات فعلاً، بالرغم من شعورنا أحياناً بعكس ذلك، وغالباً ما يستوعب الدماغ المعلومة ضمن سياقها بعد الاستمرار في القراءة لعدة عبارات أخرى، وفهمه للكلمة في سياق جملة ذات معنى، أسهل على العقل من فهم الجملة بشكل مفرد وإخالها كلمة كلمة ثم تجميعها معاً. أنت لا تقرأ بعينيك، أنت تقرأ بعقلك، والعقل لا يشبه بقوانينه العين.
يُنصح أيضاً باستخدام القلم أو الدليل أثناء القراءة، وهي مهارة أعترف أنني لم أستخدمها يوماً، بالرغم من كثرة الناصحين بها -ابتداءً ببوزان وآدلر وانتهاءً بـ د.عبد الكريم بكار- لمَ نستخدم إصبعنا عند البحث في القاموس على كلمة معينة، لمَ نلجأ لاستخدامه أيضاً عند البحث في دليل الهاتف؟ لماذا يشعر الطفل بالراحة أكثر عندما يقرأ الكلمة ويضع القلم أسفلها، لم تقلَّ سرعته مباشرة في اللحظة التي نطلب منه فيها التوقف عن استخدام الدليل؟ العين تشعر بالراحة عندما تتبع دليلاً أثناء القراءة ويزيد من سرعة التقاط الكلمات، ونعني بالدليل هنا أي أداة رفيعة وطويلة تساعدنا في المضي دون أن تحجب رؤية بقية الصفحة، كالقلم أو عصا دقيقة أو الأصبع. ويقول بوزان إن الأمر لن يستغرق أكثر من ساعة واحدة حتى نعيد صقل هذه المهارة.
انتشرت ظاهرة الدورات التدريبية الخاصة بالقراءة السريعة، والتي تدخل في بنودها غالباً مهارات خاصة، ليست سرًّا بقدر ما تحتاج إلى تدريب جيد من مدرّب متمكّن، كالتدريب على حركة العين واستخدام الدليل، والموازنة بين السرعة والاستيعاب. لكن أحياناً تشكل هذه الدورات أزمة حقيقية وتتحول إلى دائرة الخداع عندما ترفق في برامجها أفكاراً مبالغة جدًّا مثل القدرة على قراءة صفحة ما بمجرد النظر إليها أو ادعاء أنك بمجرد إنهاء الساعات التدريبية سوف تكون قادراً على قراءة كتاب ضخم بساعة أو نصف ساعة وهذا ما يسمى بالقراءة الفوتوغرافية أو التصويرية. والأكثر مرارة أن نسبة كبيرة من مدربي هذه البرامج لم يعرف عنهم حب القراءة أو سعة الاطلاع، وفي هذا احتيال واستخفاف بعقول عامة الناس. ومن الحكمة إخضاع أي برنامج تدريبي تسجل فيه أو تفكر في الانضمام إليه لحكم المنطق، وحاول أن ترى ما مدى واقعية وصدق الوعود المكتوبة.
إن طلب مني تلخيص المقال بكلمة أو اثنتين لأوجزتها بــ"القراءة بسرعات مختلفة" وإن سمح لي إرفاق جملة أطول قليلاً لقلت: "والسرعة أفضل من البطء"، وإن أردت وضع عبارة ختامية لإنهاء هذا الملف: فأنت مدرب نفسك، خذ قراراً وابدأ بالتدرب بشكل تدريجي مستمر وغير متقطع. نحن نقرأ الآن بهدف البقاء، وليست القراءة مسألة ثانوية لمن يسعى لتوسيع مداركه وفتح آفاق الوعي والحكمة، وإحدى أسلحة القراءة الفاعلة، هي القراءة السريعة، حين تُستخدم بالشكل الذي صممت من أجله.
دمتم بخير
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.