أفكار هذه التدوينة مستلهمة من كتاب بعنوان (شؤم الفلسفة) للباحث عقيل يوسف عيدان، الكتاب مقسم إلى فصلين كرسهما الباحث لاقتفاء أثر "الحرب الدينية" في الإسلام على الفلسفة، وموضوعات الكتاب تناقش مسألة شائكة تتلخص بأن الفلسفة -في إطار العقل الجمعي الإسلامي- لم تكن في يوم من الأيام في متن الحضارة العربية الإسلامية وإنما في الهامش.
ظهر الإسلام في القرن السابع الميلادي، وانتشرت تعاليمه بقوة وسرعة في مساحة شاسعة من العالم القديم، ومع أن القرآن الكريم يمتلئ بعبارات وآيات كثيرة تدعو إلى التفكر والتأمل؛ إلا أن القارئ للتراث العربي لن تخطئ عينه تكرار النزاع بين الفقهاء والفلاسفة، ذلك النزاع الذي تطور لعداء مستحكم يصعب احتواؤه.
اختلاف أسس التنظير وتباين منطلقات التفكير بين الفقهاء والفلاسفة دفع كثيرا من رجال الدين إلى استعداء السلطات الحاكمة ضد الفلاسفة، من الأمثلة على ذلك: ما فعله السلطان محمود الغزنوي في خراسان، وما حدث لحلقة أبي سليمان السجستاني الفلسفية في بغداد، وإحراق كتب بعض المشتغلين بالفلسفة في الأندلس.
لاقى الفلاسفة صنوف العذاب منذ أيام الكندي (الذي أحرق المتعصبون مكتبته!) مروراً بالرازي وابن سينا وانتهاءً بالعلامة ابن رشد، بل خصص المؤرخ الموسوعي للحضارة الإسلامية ابن خلدون -الذي عاش في عصر أفول العلوم الفلسفية وموتها في ديار الإسلام- فصلاً كاملاً في مقدمته بعنوان "في بيان إبطال الفلسفة وفساد منتحلها"!
قصة ملاحقة العلامة والفيلسوف الأندلسي ابن مسرة (ت: 319هـ) من بلد إلى بلد؛ حتى اضطر لعقد حلقته الفلسفية في الجبال هرباً من الاضطهاد؛ لدليل على أن الحرب على الفلسفة (وعلوم العقل عموماً) وذمها والتحذير منها كانت ديدن غالبية رجال الدين المسلمين -قديماً وحديثاً- طوال أربعة عشر قرناً.
الأسماء العلمية والفلسفية التي يفاخر بها المسلمون اليوم لم تكن تعبر عن ظاهرة مطردة في الحضارة الإسلامية؛ وإنما كانت مجرد اجتهادات فردية سُـمِّي أصحابها بـ"النوابت" وذاقوا الويلات مثل: تشويه السمعة، وإحراق الكتب، والسجن أو النفي، وأحيانا القتل!
إشكالية الخطاب الديني هو أنه -في الغالب- يستعمل لغة عاطفية، ولا يعترف بمقدرة العقل البشري على خوض غمار مواجهة وجودية، حيث يقوم بقولبته في إطار خاص لا يستطيع أحد مقاربته فضلاً عن تجاوزه، وهذا هو سر جمود الخطاب الديني بمختلف أطيافه مقارنة بحيوية الخطاب الفلسفي بمختلف مدارسه.
الدين يخاطب القلب ويدعو إلى مجرد التصديق ويطالب أتباعه باليقين والخضوع، والفلسفة تخاطب العقل وتدعو إلى التساؤل والشك وتطالب أصحابها بالبحث والتفكير، والتاريخ يعلمنا أن مركزية اللاهوت والتشدد في حماية الموروثات المقدسة كانت السبب الرئيسي للكثير من المآسي والآلام.
الإصرار على رفض محاولات نقد العقائد الدينية -مهما كانت المبررات موضوعية وملحة- يفسر استفحال التفكير "الدوغمائي" المحكوم بمسلمات ماورائية، ومن هنا جزم ثلة من المفكرين بديمومة الشقاء الوجودي لأي نظام يتسلط على الناس باسم الله في صورة الحكومات الثيوقراطية.
وأختم بمقولة للمستشرق الهولندي دي بور -استشهد بها مؤلف كتاب (شؤم الفلسفة) المذكور أعلاه- نصها: "لا ينحصر فضل الإنسان في امتلاكه للحقيقة، وإنما فضله في الجهد الذي يبذله مخلصًا في السعي إليها؛ ولا تنمو مَلَكَات الإنسان بامتلاك الحقيقة، بل بالبحث عنها، وكَماله المتزايد ينحصر في هذا وحده. بل إن امتلاك الإنسان للشيء يميل به إلى الركود والكسل والغرور. ولو أن الله وضع الحقائق كلها في يمينه، ووضع شوقنا المستمر إليها في شماله، وإن أخطأناها دائمًا، ثم خيَّرني، لسارعت إلى اختيار ما في شماله، وقلت: يا أبانا! رحمتك! إن الحق الخالص لك وحدك"
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.