اعتدت في كل مساق أدرّسه أن أسأل الطلاب عن مدى اهتمامهم بالقراءة وعدد من يقرأون كتابين في الشهر كمعدل، فترتفع يدان فقط أو ثلاثة – كل مرة – في قاعة دراسية يفوق عدد حضورها الخمسين. وكنت أستغرب دوماً هذه النتيجة، وما كان يزعجني حقاً ليس فقط عدد الزاهدين في القراءة، وإنما استغرابهم من استغرابي!
لماذا لا تقرأون؟ أثير سؤالي ونتناقش لدقائق حوله، وفي إحدى المرات أتاني صوت من هذه الجموع يقول: ولماذا نقرأ؟ نعم.. لماذا نقرأ؟ هذا السؤال لشدة بساطته لم نسأل أنفسنا عنه؟ لماذا عليك أيها الشاب أن تقرأ؟ ولماذا يقرأ من يقرأ؟
هناك من يقرأ ليستمتع، فاقرأ لتستمتع.. عندما ينتهي النهار ويبدأ الليل وتحتاج قبل نومك لبعض صفحات تسليك وتهمس في أذنك.. امسك بإحدى روايات أ. أيمن العتوم أو رضوى عاشور أو د. عماد زكي.. لتعيش أحداث قصة أنت تراهم فيها ولا يرونك.. تعرف أسرارهم ولا يعرفونك.. تدخل بيوتهم.. وتأكل وتضحك وهم عنك في غفلة.. وترضي فيك فضولاً لا تملك الحق في إرضائه في حياتك العادية.. ربما.
أو أن تكون من مشجعي "الحركة والقوة" فامتط خيلاً أبيض واذهب مع أ. إبراهيم نصر الله وعش لحظات في زمانه.. أو تحن الى صولات المناضلين، فتبدأ بمتابعة بطولات "أمير الظل"، فتزداد المتعة متعة.. وتعوض بقراءتها حلماً تمنيته وأنت في ريعان شبابك.. وقيدتك الحياة بعدها بتفاصيلها ومتطلباتها ومخاوفها.
اقرأ لتكتسب معرفة أو مهارة، جدد حياتك مع الغزالي وأضف إليها بضع رشات من سحر كتاب "السر"، تعرف على أنتوني روبنز وكتبه اللطيفة واعتبرها بمثابة رحلة حول الذات، أو مع توني بوزان في حديثه عن العقل وأسراره، أو ديبونو ونظرياته حول التفكير، وإن لم يتسع صالون المنزل لاستضافة كل الكُتاب البارعين فرفوف المكتبة تتسع، وقد ينطق الكتاب فجأة ويناديك. وقد يغضب لتجاهلك له عدة شهور فيتجاهلك هو الآخر.
وقد تستمع خلسة لحوارات أ. عبدالكريم بكار وأ. غازي القصيبي حول التنمية ومتطلباتها واختلافهم حول جودة انتقاء المراجع وقصد أحدهم مما كتب.. أو تجد سلمان العودة فجأة يخرج لك بطيبة وبساطة وصدق.. يحدثك عن هموم الشباب وآمالهم.. هل تعرف تفاصيل حياة الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام؟ أليس في معرفته أكثر حباً أكبر؟ هل تدرك جيداً أهمية المسجد الأقصى.. اقرأ لتعرف.
اقرأ لترى العالم بمنظور جديد.. لترى حياة الأسرى ومعاناتهم وأزمات التحقيق في السجون الإسرائيلية، وخبث المحتل في "ستائر العتمة" لـ أ. وليد الهودلي، أو تتعرف على نفسية المحققين خارج فلسطين أيضاً، وحجم غرور أحدهم أن ادعى قوة تحكّمه في المحتجزين ووزع نصائحه في عنجهية قائلاً: "اجعل الناس يفعلوا ما تريد".. أو تخرج من الألم والمعاناة وتتذوق طعم الحرية الحقيقية في أوراق المجاهد المفكر بيجوفيتش، ويثيرك تحليله فتذهب معه في جولة أخرى لترى مفارقاته وثنائياته وتعريفاته للفن والجمال والدين والتعليم.
أو تدور في فلك الأستاذ محمد أحمد الراشد يصف لك فقه الدعوة ويغازلها كما أنك لم تعرفها قبل كتبه، أو تعيش جمال معاني القرآن بعيون سيد قطب، أو أهمية الضمير الحي وخطورة غيابه في تفسير المودودي لسورة النور، أو تحلق في سماء العبادة بعد نظرات قليلة في أوراق خالد أبوشادي، تسابقه فيها ويسابقك، منادياً "هبي يا ريح الإيمان".
اقرأ لتولد أفكاراً جديدة تعيد بها صناعة نفسك.. اجلس لتتسامر مع العلامة مالك بن نبي، تفهم على لسانه أن العالم ليس بعالم.. وإنما عوالم ثلاث وابحث أين أنت منها الآن.. أو تذهب في ضيافة د. عبدالوهاب المسيري في رحلته الفكرية.. تعاصر محطاته وأسفاره ومواجهاته الذكية للحياة.. وتكبر معه في كل كلمة.. وتعيد الى عقلك أهميته ومكانته.. وتبدأ تفكر بأسلوب علمي لم تكن تعرفه سابقاً.. تنظم الأمور وتعيد تفكيكها وتصنع لنفسك نموذجاً تحكم من خلاله كيف تسير.. تبني معه صداقة لا تزول.. وتلتاع حين تحين لحظات الفراق وتقترب صفحات كتابه من النهاية.. وربما تبكي عند وصولك الصفحة الأخيرة.
إذن المتعة.. المعرفة.. العمق في الفهم.. أسباب كفيلة لجعلك تغيّر نظرتك حول أهمية القراءة.. أو هكذا أتمنى، إلا أن المسألة لن تقف فقط عند هذا الحد.
فهناك من يقرأ لأنه يحمل همّاً، ويصرخ عقله بعشرات الأسئلة فيلجأ الى الكتب بحثاً عن إجابة طويت في مذكرات مَنْ صنعوا وأنجزوا وأضافوا.. أو لنقل: حاولوا وفعلوا.. يبحث في يوميات مهاتير محمد عن شيء فيه كان مختلفاً.. ودفعه إلى فعل ما فعل.. كيف كان يفكر وهو صغير؟ كيف بدأت همومه تتسع لبلد ضم الملايين غيره؟ أو يمسك بمذكرات لي كوان يو ليعرف أول قرار، وأول إصلاح، وأول عقبة، وأول إنجاز نهضوي، وربما يحادث في مسيرة بحثه صديقيْ أردوغان في كتابهما "قصة زعيم"، ليسألهما عن قوة وشموخ افتقدناهما، أو جرأة في الحق، تلاشت في من حولنا، أو يبحث في أوصافهما له عن سمات قائد مفقود، أو انتصار منشود.
هناك من يقرأ ليتغير ويغير؛ لأنه يفكّر في أبناء جيله وشعبه وأسباب معاناتهم؛ يقرأ لأن "مسؤولية المثقف" تقتضي أن يساعد أمته، ويعمل لأجل نهضتها، كما قال شريعتي في كتابه وكما فعل؛ يقرأ لأنه تؤرقه ساعات الشباب والشابات الهاربة من ميزان المسؤولية، واللاهثة حول شهوات المظهر وقشور الحياة، وتؤذيه حالة ضياع جهود المجتهدين السائرة بلا هدف، وغياب همّة الكسالى، ويبحث لهم في طيات الكتب عن خلاص.
إذن اقرأ لتقود.. لتسود.. لتحرك.. لتتغير وتغيّر.
وإن لم تقنع بكل هذا، ولم تجد في الكتاب ما يمتعك، أو ينير دربك، أو يصنع منك فاعلاً،
فاقرأ كما قرأ العقاد؛ لأن العمر قصير؛ ولأن حياة واحدة لن تكفيك.
ودمتم بخير
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.