رجاءً، لا تظلمُوا العربيّة !

لم تغربْ شمس اللغة العربيّة إلاّ بعد أن سقط الإنسان المسلم في الأندلس، وبدأت أوربا تخرج من عصورها المظلمة مستنيرةً بالتراث العلميّ الإسلاميّ المكتوب باللغة العربيّة؛ فانتهلوا العلوم من كتب العلماء المسلمين بعد ترجمتها للغاتهم، محاولين طمس بصمات المسلمين في علومهم، ومتناسين لفضل اللغة العربيّة عليهم وداعمين للغاتهم الأصليّة.

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/11 الساعة 04:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/11 الساعة 04:00 بتوقيت غرينتش

إذا ما تعلَّق الأمرُ بالمجتمعاتِ التي يُفترضُ أنّ لغتها الأمّ والرّسميّة هي اللّغة العربيّة، فإنّ كثيرًا من النّاس وحتى بعض الطلاّب والمثقفينَ لايفرّقونَ بين اللّغةِ كعنصر مهمّ من عناصر العمل الأدبيّ، والأدبِ كشكلٍ من أشكال التعبير الإنسانيّ؛ وذلك لانتشار ذلك التصوّر المحيط باللّغة العربيّة خصيصًا؛ إذ يُنظر إليها على أنّها لغةٌ للأدبِ عمومًا منذ القديم، أولغةٌ للتّعبير الفنّي عن مشاعر الإنسانِ، مع الجزم بعجزها عن استيعابِ مُستجدّاتِ العلومِ والتّكنولوجيا المتناميةِ يومًا بعد يومٍ.

بعد ظهور الإسلام، ارتبط بُزوغ فجر اللّغة العربيّة بالقرآن الكريم، ولولا ذلكَ، لما كان للعربيّة شأنٌ وما حَظيتْ بالاهتمام الذي يوليهِ لها كثيرٌ من الباحثين من جميع أقطار العالم؛ فجماليّة اللّغة العربيّة في القرآن الكريم جعلتْ منها محطّ إعجاب الدّارسين، فأخذوا يدرسون أساليب القرآن الكريم ومعانيه مُبرزين مواطن الجمال اللّغويّ فيه، ما أدّى بهم إلى البحث في اللّغة العربيّة عمومًا، انطلاقًا من عصر ما قبل الإسلام أو العصر الجاهليّ. لقد كان بروز اللغة العربيّة من خلال القرآن الكريم سببًا قويًّا في توجّه كثير من الباحثين العرب أو المستشرقين إلى دراسة الشّعر الجاهليّ وتحليله واستنتاج مظاهر البيئة الطبيعيّة والاجتماعية والعقليّة على وجه التّحديد. بعد عدّة دراساتٍ، تبيّن الباحثون المسلمون أو الأجانب أنّ العرب في الجاهليّة لم يعرفوا أيّ مظهر بارز من مظاهر الحياة العلميّة خصّيصًا، وقد اقتصرتْ حياتهم العقليّة في نظم الشّعر وقول الأمثال والحكم نظرًا لطبيعة بيئتهم الفطريّة البسيطة. كنتيجة لذلك، قد يكونُ ما حصل في العصر الجاهليّ من ارتباط للغة العربيّة بالشّعر خصيصًا من أقوى الأسباب التي ساهمتْ في رواجِ التّصوّر الشّائع القائل بأنّ اللغة العربيّة لغة للشّعر فقط، ولاقبلَ لها بالعلوم الدّقيقة. إنْ تحدّثنا عن الجاهليّة، قد يكون هذا المنظور صادقًا لحدّ كبير.

لكنّ التاريخ لم يتوقف في العصر الجاهليّ؛ فبعد ظهور الإسلام، بدأت الحياة العربيّة تتغيّر بشكل جدريّ إذ بدأت تتّسع مجالاتها. بالإضافة لجماليتها الأدبيّة وثرائها اللغوي، ساهم تغيّر البيئة العربيّة في تطوّر اللغة العربيّة خاصة في العصر العباسيّ؛ إذ تحوّلتْ اللغة العربيّة من لغة تقتصر على عمليّة التبليغ الأدبيّ إلى لغة تحتفي بالعلوم وتُنتجها.

لقد ازدهرت حركة التّرجمة في عهد الخليفة المنصور، واهتمّ الخلفاء العباسيّون بتشجيع الحركة العلميّة؛ فأغدقوا على العلماء العطايا والهدايا تشجيعًا لهم وتحفيزًا لهم على الإنتاج العلميّ، فظهر علماء أفذاذ تركوا بصمتهم في العلوم ومازال ذكرهم يعلو في الآفاق حتى يومنا هذا، مثل : ابن الهيثم في الفيزياء والرياضيات، في الجبر الخوارزمي، في الطبّ ابن سينا، في الكيمياء جابر بن حيّان وغيرهم كثير. وقد تُرجمتْ مؤلفات أولئك العلماء إلى اللّغات الأوربيّة واستفيد منها في النّهضة الأوربية الحديثة؛ لذلك كثيرًا ما يُلاحظ أنّ العديد من المصطلحات العلميّة أصلها في الواقع، من اللغة العربيّة فمثلاً كلمة " الجبر " التي وضعها الخوارزمي مازالت ليومنا هذا تُستعمل بشكلها العربيّ في اللّغات الأجنبيّة، ففي الإنجليزيّة الكلمة المكافئة لها هي "Algebra".

ويمكن ملاحظةُ مدى تأثير اللّغة العربيّة على اللّغات الأجنبيّة في مجال العلوم على وجه الخصوص في علم الفلك، نظرًا لاهتمام المسلمين به لارتباطه بحياتهم الدّينية من جهة، ولشغفهم به من جهة أخرى، إذ يقدّر بعض الباحثين أنّ تسعين بالمائة من أسماء الأجرام السّماويّة قديمًا كانتْ بأسماء عربيّة كما تمّتْ تسميتها من طرف العلماء المسلمين ومازالت للآن تُستعمل بذلك الشّكل عبر الجامعات العالميّة ومراكز البحث. لقد كان لكتب الصوفي العالم المسلم الفارسيّ التي كتبها باللغة العربيّة قيمةٌ كبيرة في علم الفلك، فتمّ تكريمه من طرف علم الفلك الحديث بأن سُميّت فوهةٌ قمريّة باسمه. فضلا عن ذلك، مازالت أسماء كثير من النّجوم في السّماء تُستعمل في الجامعات الغربيّة باللّغة العربيّة كما تمّ وضعها من طرف الصوفيّ.

لقد اتّخذ العلماء المسلمون على اختلاف أجناسهم اللُّغة العربيّة وسيلَتهم لطلب العلم وتعليمه، فأصبح كلّ من يريد تعلمّ الرياضيات، الفيزياء، الكيمياء، الطبّ، الهندسة، علم الفلك، عليه أوّلا بمفتاح كلّ تلك العلوم؛ تعلّم اللّغة العربيّة. كما عرف عن العلماء المسلمين حبّهم للغة العربيّة وعملهم الجادّ للارتقاء بها؛ فقد نُقل عن البيرونيّ قوله " لأنْ أهجَى بالعربيّة أحبّ إليّ من أن أمدح بالفارسيّة ".

ولم تغربْ شمس اللغة العربيّة إلاّ بعد أن سقط الإنسان المسلم في الأندلس، وبدأت أوربا تخرج من عصورها المظلمة مستنيرةً بالتراث العلميّ الإسلاميّ المكتوب باللغة العربيّة؛ فانتهلوا العلوم من كتب العلماء المسلمين بعد ترجمتها للغاتهم، محاولين طمس بصمات المسلمين في علومهم، ومتناسين لفضل اللغة العربيّة عليهم وداعمين للغاتهم الأصليّة.

إذًا لم تسقطْ اللغة العربيّة إلاّ بعد أن سقط الإنسان المسلم؛ فبعد أن كانتْ اللغة العربيّة سجينة المجتمع العربيّ في الجاهليّة، انطلقتْ للآفاق بعد ظهور الإسلام نظرًا لارتباطها المباشر به، ماجعلها تنفتح على مجالاتٍ جديدة معلنةً ريادتها في المجال العلميّ على وجه الخصوصِ. لقد اهتمّ العلماء المسلمون بترقية العربيّة بعيدًا عن أجناسهم واختلافاتهم، فجعلوا منها لغة العلم الأولى لقرون، لكنْ هل عجز اللغة مرتبطُ بها أم بمتكلّميها؟ بالنّظر إلى كون اللّغة ظاهرة اجتماعيّة، فإنّ المنتج الرئيس لها هو الإنسان، فإن كان الإنسان منتجًا في المجال العلميّ، كانتْ لغته أكثر ثراءً بمصطلحاتٍ جديدة تواكبُ التّطور العلميّ المستمرّ؛ لذلك فإنّه من السّذاجة اتهام العربيّة بالعجز، ذلكَ أنّ العجز الحقيقيّ يكمن في الإنسان المتحدّث بالعربيّة، فإن كان الإنسان منتجًا في المجال العلميّ كان لزامًا على لغته أن تكون مواكبةً لكلّ جديد.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد