تمكنت رواية "أن تحبك جيهان" أن تقدم مشهداً صادقاً لطبقة انهارت بسبب زلزال، فقررت أن تتخلص من سطوة وسط البلد. وتشهد سطور الرواية محاولة الروائي المصري مكاوي سعيد توسيع الدائرة ليقرأ سفراً أكثر تعقيداً من "وسط القاهرة"، فيقدم الدافع للثورة في حين، وسبب فشلها حيناً آخر.
نجاح الرواية نتج عنه إعادة طباعتها أكثر من مرة في عام واحد، لتستحق في رأي النقاد والجماهير أن تكون رواية العام 2015.
قراءة في الرواية
في العام 1992، تعرضت القاهرة لزلزال مدمر أسقط عمارات وقتل حوالي 500 مواطن مصري وعاش المصريون أزمة ثقة في عاصمتهم وفي صمود مبانيها لفترة طويلة، لكن أحمد الضوي بطل رواية "أن تحبك جيهان" فقد مع الزلزال ثقته بنفسه وفي الفن، ورغم ذلك صار معمارياً ربما ليتماهى مع الخوف الذي ولده سقوط المباني.
بعد الزلزال، يبدأ البطل السلبي في مواجهة الحياة بحياد بارد فيعيش يوماً بيوم وكأنه "نفر مياومة"، مع أنه تزوج زيجة مصلحة أنقذ فيها سمعة فتاة وأنقذ نفسه في الوقت ذاته من الفقر وكأنه، أو كأن الراوي مكاوي سعيد، يلمح إلى بناء معماري في الرواية يقوم على أساس هش.
فالبطل المولود لأسرة صعيدية محافظة يتنكر لقيم المحافظة ويرضى بالزواج من فتاه انزلقت إلى الخطيئة، لكنه يوافق على هذه الزيجة التي فتحت له أبواب الثراء وفرصة تأسيس مكتب هندسي. وهنا تثبت القصة أن بعد الاهتزاز أو الزلزال تأتي لحظات من الثبات الكاذب، وهذا ما حدث للبطل وربما للطبقة التي ينتمي إليها.
بعدها يقدم الضوي شهادته عن غرقه في اللذة الحسية مع ريم – البطل الثاني السلبي في الرواية – والتي تعيش أيضاً توابع زلزال نفسي نتيجة لتفكك أسري وأب يأخذها معه وهي طفلة إلى بيوت القمار لترى بنفسها عالم الجريمة ودهاليز الخطأ، وتبدأ في الإعجاب بها شيئاً فشيئاً ليتحول المال إلى هوية لطبقة تصعد من بعد الزلزلة.
تروي ريم تأرجحها بين حلم الفن والواقع وانسحاقها في زواج زائف من رجل تقليدي يسافر إلى الخليج، وتنجب منه طفلة، ثم تحصل على الطلاق وتبدأ في مطاردة حلمها ببناء معهد للفنون تعوض به فشلها في أن تصبح فنانة.
تمثل ريم الجانب الواضح من طموح معاندة الثقة في كل شيء، بينما يمثل الضوي الجانب الضبابي من التأثر بالفشل النفسي وانعدام الثقة وكأن زلزال 1992 كان مأتماً نفسياً له.
جسرٌ بين فشلين
وبين الإغراق في المتع الحسية، حتى المبتذل منها والجامح والذي كاد أن يدفع بالضوي إلى التفكير بالزواج من ريم، يظهر طرف ثالث، ربما يكون جسراً بين فشلين، أو بتعبير آخر، فشل جديد يكمل الثالوث الذي يرسم ملامح طبقة خرجت من تحت أنقاض القيم برؤى شاحبة، وهي شخصية جيهان، رمز المعرفة والطموح السلبي في مواجهة الحياة بواقعية الصورة الفوتوغرافية بدلاً من مغامرة اللوحة أو التمثال فتبني أحلاماً لغيرها أو لزوجها تميم، الذي فشل في تحقيق حلمه الكبير، بأن ينحت تمثالاً يقارن بتمثال نهضة مصر الذي بناه مثله الأعلى مختار.
وبدلاً من التمثال ينجرف تميم الموهوب إلى الأشغال التجارية ليبني ثروة تمنح حبيبته الحياة التي تمناها، لكنه يصاب بأزمة مالية ويفشل تمثاله في الوقوف ولو مرة واحدة، فيدخل موته تدريجياً تاركاً جيهان في حيرة الصورة والتمثال، وحيرة العشق والانسحاب، ومعالجة الحياة بحذر بالغ يجعل من قصة حبها التي تنمو ببطء مع الضوي أو بالأحرى تجعل من عشق الضوي لها قصة لغبار ينمو على مهل ويرفض أن يصبح شكلاً.
وبين هذا الثالوث تمضي الرواية بطريقة الشهادات التي يقدمها كل بطل عن قصته وأزمته وعلاقاته التي تدخل فيها شخصيات أخرى، فمع الضوي نجد ضابط الشرطة القبطي الذي يقدم شخصية مركبة تمثل القوة والانسحاق في آن، والسلطان والطيش الصبياني.
كما نرى أطياف ذكريات الخال الشيوعي الشاعر وإن لم نر قصائده، والجار الشيوعي وحلمه بطباعة مذكراته وكتبه.
ريم.. والعودة إلى الحياة
ومع ريم، نرى أحلام الصناعة التي تريد العودة للطبيعة بعد ازدهارها في تسعينات القرن الماضي وما تلاه. كما نرى شقيقتها وصديقتها الأجنبية وحلم الثراء والحياة في الحي الراقي كنموذج لطبقة مترفة لا تعاني إلا هوسها بالجسد والمال. ويصبح الجسد هوية بحد ذاته، والمال حاجة لتأمين للجسد.
ومع جيهان المتوازنة، قليلاً نرى صديقتين إحداهما تعيش حالة مراهقة دائمة رغم كبر سنها، وتنغمس في قصة حب بائسة لحبيب متزوج. ونرى الكاتبة الكاذبة التي تعيش تناقضاً جوهرياً في حياتها بين الشكوى من زوج يغار من نجاحها وبين طموحها الذي تضحي من أجله بولدها.
وبينما يتقدم السرد نحو تقرير المصير نرى دائماً نكوصاً في كل الملامح، فالضوي يقرر أن يجاهر بحبه لجيهان لكنه يجبن في اللحظة الأخيرة وريم تعود لطليقها العائش بالخليج والكاتبة تعود لزوجها الذي يضربها ويغار من نجاحها.
أحلامٌ لا ترى النور
ومع انهيار أحلام هذه الطبقة بفئتيها المرفهة والميسورة تتداعى الأرض أمام نظام يعيش على أكتاف هذه الطبقة. فتحدث الثورة وتهرب ريم من مصر إلى الخليج، وتحذر الكاتبة صديقتها جيهان من الانخراط في الثورة، التي ينخرط بها الضوي، ربما بسبب حبه لجيهان وربما بسبب التراكم الفني القديم الذي غرسه خاله فيه.
المهم أن الثورة تحدث بأبطال عاديين ينخرط فيها أبناء الطبقة الوسطى كمحاولة لإعادة الأرض إلى ما كانت عليه قبل الزلزلة. لكن الروائي الذي يعشق تقديم شخصيات حرة ويمنحها حرية تقرير المصير، يبدو وكأنه يدفعها إلى الحافة لتنفجر، فإذا به ينهي الرواية بموت البطل تاركاً قصة حب غامضة سواء لجيهان أو ريم أو لكلتيهما أو للصورة أو للبلد. فهو ذلك التعبير المصفى عما وصل إليه المواطن المصري الذي يعيش حالة قدرية سلبية تدفعه إلى حب مستحيل أو إلى ثورة لا تكتمل.
لماذا فشلت الثورة ونجحت الرواية؟! لأن للرواية خطاباً معرفياً اهتدت فيه وبه إلى مشكلة الطبقة الوسطى التي كانت تبحث عن لحظة اتزان فجاءت ثورة ناقصة بلا خطاب وهزت اليقين المرتعش ومنحت الطبقات كلها زلزالاً جديداً أشبه بما حدث في 1992، ولكن هذه المرة بلا مشكلة واضحة أو هدف واسع الانتشار أو قراءة متبصرة للواقع كما فعلت الرواية، وليس ثمة تماثيل منتصبة يمكن أن تهدي الثائرين إلى الطريق.