الكواكبي ومائة عام من الديكتاتورية

عبد الرحمن الكواكبي، ليس مجرد إصلاحي حائر.. بل فوتوغرافياً محترفاً لكن من النوع الذي يصوّر المستقبل لا اللحظة الراهنة! وفي كتابه "طبائع الاستبداد" ما يشبه الألبوم الذي يجمع تاريخ المنطقة في العصر الحديث.

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/02 الساعة 01:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/02 الساعة 01:09 بتوقيت غرينتش

عبد الرحمن الكواكبي، ليس مجرد إصلاحي حائر.. بل فوتوغرافياً محترفاً لكن من النوع الذي يصوّر المستقبل لا اللحظة الراهنة! وفي كتابه "طبائع الاستبداد" ما يشبه الألبوم الذي يجمع تاريخ المنطقة في العصر الحديث، إنه رجل كرس حياته كلها لمحاربة الظلم والاستبداد بكافة صوره وأشكاله..

الكواكبي عبقري استطاع الإلمام بالاستبداد وطبائعه وحيله في عصر كان الجهل شديداً، ولعل عبقريته تكمن في أنه قد جعله كتاباً عاماً لم يختص به أحداً بعينه ما يجعل القارئ لكتاب "طبائع الاستبداد" يشعر أن محتوى الكتاب صالح لكل زمان وينطبق تماماً على حياتنا المعاصرة، على الرغم من أنه قد كُتب منذ أكثر من 100 عام حيث لا يزال تعريفه للاستبداد صالحاً في عالمنا إلى اليوم، وهو الذي يغلي محاولا الفكاك من هذا الأسر الوجودي الراسخ.

ولا شيء يفسر الحال الذي وصلت إليه منطقتنا اليوم، من عنف، ودمار مقترن بالتغيير، إلا ما عبّر عنه الكواكبي في كتابه، وما خطه قلمه من ربط ما بين الاستبداد والتخلف، أو الاستبداد والهزيمة، إلى أن يقول "وقد يبلغ فعل الاستبداد بالأمة أن يحول ميلها الطبيعي من طلب الترقي إلى طلب التسفّل، بحيث لو دُفعت إلى الرفعة لأبت وتألمت كما يتألم الأجهر من النور، وإذا أُلزمت بالحرية تشقى وربما تفنى كالبهائم إذا أُطلق سراحها، وعندئذ يصير الاستبداد كالعَلَق يطيب له المقام على امتصاص دم الأمة، فلا ينفك عنها حتى تموت ويموت هو بموتها".. إنهم يؤرخون الماضي.. والكواكبي استطاع تأريخ "المستقبل".

السؤال الرئيسي والإشكالي في الكتاب هو: ما أسباب التخلف عند العرب والمسلمين؟ وكيف هو السبيل إلى الترقي والنهوض نحو المدنية؟ وكيف يكون أصل الداء هو الاستبداد ومقارعة الاستعباد هو الطريق نحو العلاج الشافي؟

يبدأ الكواكبي كتابه بأسئلة من قبيل ما هو الاستبداد؟ ولماذا يكون المستبد شديد الخوف؟ وما تأثير الاستبداد على الدين؟ على العلم، على المجد، على الأخلاق.. ليختم بسؤال عن طرق وسبل التخلص من الاستبداد؟ وما بديله؟ ما هو الاستبداد؟
يعرف الاستبداد بشقيه اللغوي والاصطلاحي، فيقول إن الاستبداد لغة هو غرور المرء برأيه، أما في الاصطلاح السياسي فهو تصرف فرد أو جماعة في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف ولا رادع. وقد يُستبدل لفظ الاستبداد بالاستعباد أو التسلط والتحكم وكلها مفردات تعني أمراً واحداً ويوضح أن الاستبداد هو السبب الرئيسي للانحطاط والتأخر في بلاد الشرق، فيملك الاستبداد رقاب العباد ويطغى بجهالة الأمة وإما بالجنود.. فأما الأولى فمردها تغييب التعليم و ابتعاد الناس عن المعرفة. أما الوسيلة الثانية فيرى فيها تجبرا و طغيانا إذ يقول "وأما الجندية فتفسد أخلاق الأمة، حيث تعلمها الشراسة والطاعة العمياء والاتكال، وتميت النشاط و فكرة الاستقلال، وتكلف الأمة الإنفاق الذي لا يطاق.. وكل ذلك من صرف تأييد الاستبداد المشؤوم".. استبداد الحكومات لتلك القوة من جهة، واستبداد الأمم لبعضها على بعض من جهة أخرى، وهو وصف بالغ وإدراك عبقري لتفاصيل الممارسة السياسية زمن الاستبداد والمراوحة بين الترغيب والترهيب.

إن أشد مراتب الاستبداد هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية، وكلما قل وصف من هذه الأوصاف.. خفَّ الاستبداد إلى أن ينتهي بالحاكم المنتخب المؤقت المسئول فعلا. إن الحكومة من أي نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والاحتساب الذي لا تسامح فيه. ويقول "من الأمور المقررة طبيعياً وتاريخياً أنه ما من حكومة عادلة تأمن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمة إلا وتسارع إلى التلبس بصفة الاستبداد، وبعد أن تتمكن فيه لا تتركه، "فالاستبداد هو نار غضب الله في الدنيا، والجحيم نار غضبه في الآخرة، وقد خلق الله النار أقوى المطهّرات، فيطهر بها في الدنيا دنس من خلقهم أحراراً، وجعل لهم الأرض واسعة، فكفروا بنعمة الحرية، ورضوا بالاستعباد والظلم".

ويبحث الكواكبي في كتابه العلاقة بين الاستبداد وشتى مجالات الحياة، فقسم كتابه إلى ستة فصول، تشمل:
1- الاستبداد والدين.
2- الاستبداد والعلم.
3- الاستبداد والمجد.
4- الاستبداد والمال.
5- الاستبداد والأخلاق.
6- الاستبداد والتربية.

الاستبداد والدين
للفكر السياسي عند الكواكبي ثلاثة منابع: في البداية نجد التراث بما يختلط فيه الدين والأدب والأخلاق بالسياسة، ثم الغربي ومنابته الإغريقية والرومانية، وبعد ذلك الذات العربية الممزقة والواقع المأساوي والموقف الحضاري الذي اتخذه رواد الإصلاح.
علمية الخطاب السياسي عند الكواكبي تتمثل في قدرته على تحليل مطلبين مهمين: الأول الكشف الدقيق والشافي عن علل الأمراض وأسباب الانحطاط والتخلف، والثاني هو حفز همم الشبيبة وتحرير العقول من الأوهام والتدرب على الحرية واستعمال العقل بطريقة منهجية. فهو يرى أن سبب التخلف ذاتي داخلي وليس خارجياً.
لقد بحث الكواكبي بحثاً مستفيضاً في علاقة الاستبداد بالدين، فوضّح رأي الغرب، وهو أن الاستبداد السياسي ناشئ عن الاستبداد في الدين، وما من مستبد سياسي إلا ويتخذ صفة قدسية يشارك فيها الله، أو يتخذ له بطانة من أهل الدين يعينونه على ظلم الناس، فيقول ما دام أن الإسلامي اتخذ -وما زال- من الدين مطية يعلو عبرها وعليها لمدارج هرم السلطة، حتى قال الكثير ممن تفكر في تاريخنا العربي الإسلامي إن ما حدث من تسخير للفقيه أو الديني عموماً من طرف السياسي عكس ما تم في التجربة الأوروبية لما كان رجل الدين أو ما عرف بالسلطة الروحية يوظف السلطة الزمانية في خدمة لمصالح الكهنوت القائلين بالوساطة الربانية، أي أن الاستبداد السياسي مسؤول من الاستبداد الديني.

وقد رأى الكواكبي أن الإسلام في جوهره الأصيل لا ينطبق عليه هذا الحكم، فهو مبني على قواعد سياسية تجمع بين الديمقراطية والأرستقراطية، والقرآن مملوء بتعاليم تقضي بالتمسك بالعدل والخضوع لنظام الشورى، مثل قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}، وهو ما كان معمولاً به في أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- وأيام الخلفاء الراشدين، وبعد ذلك تحول الحكم من نظام يعتمد على الشورى إلى الاستبداد، ورضي الناس بالذل، فأضاعوا مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما ترتب عليه عدم نصح الرعية لحكامها، وبذلك تحققت حكمة الحديث النبوي الشريف: "لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، أو ليستعملنّ الله عليكم شراركم، فيسومونكم سوء العذاب". ويتساءل: من يدري من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكام عن المسئولية.. حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا.. وأوجبوا الصبر عليهم إذا ظلموا.. وعدّوا كل معارضة لهم بغيا يبيح دماء المعارضين؟ اللهم إن المستبدين وشركاءهم قد جعلوا دينك غير الدين الذي أنزلت، فلا حول ولا قوة إلا بك.

الاستبداد والعلم
يقول: "كما أنه ليس من صالح الوصي الظالم أن يبلغ الأيتام رشدهم، كذلك ليس من غرض الحاكم المستبد أن تتنور الرعية بالعلم"..
إن الحاكم المستبد يخاف العلم؛ لأن العلم نور، وهو يريد أن يعيش الشعب في الظلام؛ لأن الجهل يمكّنه من بسط سلطانه، وأشدّ ما يخشاه من العلوم.. العلوم السياسية والاجتماعية، ودراسة حقوق الأمم، والتاريخ، ونحو ذلك من العلوم التي تنير الدنيا، وتثير النفوس على الظلم، وتعرِّف الإنسان ماهيّته، وما هي حقوقه، وكيف يطلبها وينالها. ويؤكد أن التأمل في حالة كل رئيس ومرؤوس يرى كل سلطة الرئاسة تقوى وتضعف بنسبة نقصان علم المرؤوس وزيادته.

الاستبداد والمجد
يعرّف الكواكبي المجد بأنه رغبة الإنسان في أن تكون له منزلة واحترام بين الناس، ويقسّم الكواكبي المجد إلى أنواع، أضعفها هو "مجد الكرم"، وهو إنفاق المال من أجل المصلحة العامة، وأعلى أنواع المجد هو "مجد النبالة" وهو بذل النفس، والتعرّض للمشاق والأخطار في سبيل نصرة الحق.
وعكس المجد هو التمجّد، وهو يعني المجد الكاذب، وهو أن يكون الإنسان مستبداً صغيراً في كنف المستبد الأعظم، بمعنى أن يصنع الحاكم من أحد أتباعه من صغار الظلمة شخصاً ذا هيبة ونفوذ، فيخشاه الناس، فيساعد بذلك المستبدّ الكبير في استبداده، وهذا يزدهر في الحكومات المستبدة؛ لأن الحكومات الحرة تحافظ على التساوي بين الأفراد، أما الحكومة المستبدة فتقتل في النفوس الشعور بالعزة الحقيقية الناتجة عن القيام بالأعمال النافعة، وتخلق نوعاً من السيادة الكاذبة، وتجعل من أولي الأمر سلسلة تبدأ من الحاكم الظالم، وتنتهي إلى الشرطي في الشارع، كل يطأطئ لمن فوقه، ويستبدّ بمن تحته.

الاستبداد والمال
عندما ناقش الكواكبي علاقة الاستبداد بالمال قصد بذلك دراسة أثر الحكومات الاستبدادية على الحالة الاقتصادية للبلاد، فيرى أن العدالة تقضي بأن يأخذ المتعلم بيد الجاهل، والغني بيد الفقير، ولقد حضّ الإسلام على ذلك، ففرض الزكاة التي يعطيها الأغنياء للفقراء، وحرّم الربا؛ لأن الربا عندما ينتشر في مجتمع فإنه يقسّمه إلى سادة وعبيد.
والحكومات الاستبدادية هي السبب الرئيسي في اختلال نظام توزيع الثروة في المجتمع، فهي تعطي رجال السياسة ومن يلحق بهم نصيب الأسد من مال الدولة، مع أن عددهم لا يتجاوز واحداً في المائة من الشعب، بينما يعيش باقي الشعب في شقاء وبؤس، وتيسّر للسفلة طرق الكسب غير المشروع بالسرقة، ويكفي لأي شخص أن يكون على علاقة بأحد رجال الحكومة ليسهل له الحصول على الثروات الطائلة من دم الشعب.

الاستبداد والأخلاق
عن أثر الاستبداد في فساد الأخلاق، يقول: الاستبداد يضعف الأخلاق ويفسدها، ففي ظل الاستبداد تكون الشهامة تطفلاً، والرحمة ضعفاً، كما يسمى الكذب مجاملة، والنفاق سياسة!

الاستبداد والتربية
يعرف الكواكبي التربية بأنها تنمية قدرة الإنسان الجسمية والنفسية والعقلية، وتهتم الحكومة العادلة بتربية الفرد بوضع القوانين التي تنظّم وتسهّل الزواج، وتهتم بالأطباء وبناء المستشفيات، وإنشاء المدارس والجامعات وغيرها من مظاهر التنمية، أما الحياة في ظل الحكومات المستبدة، فتشبه نموّ النباتات في الغابات بدون زارع يهتم بها أو يعالجها مما يصيبها بالآفات، فيعيش الإنسان بلا هدف.

كيفية التخلص من الاستبداد
لرفع الاستبداد يجب توفر الوعي والمقاومة والبديل، وذلك عند شعور أفراد الأمة بآلام الاستبداد ومقاومتهم باللين والتدريج وإعداد البديل ويقترح القواعد التي يجب أن تسير عليها الحكومة العادلة التي تعهد لها الأمة عن طريق الإجماع وليس بالوراثة أو بالتغلب بل وفق شروط الكفاءة ومراعاة المصلحة الجماعية وحفظ الحقوق العمومية حسب الرأي والاجتهاد وبطريقة مقيدة بقانون موافق لرغبات الأمة..

ويطلب الكواكبي من الحكومة أن تظل مخلصة لروح الأمة وموضوعة تحت تصرفها وأن تضمن الأمان على سلامة الجسم والفكر والحريات والعدل والحقوق، ويرى أن الاستبداد لا يقاوم بالقوة، إنما يقاوم باللين وبالتدريج، وذلك بنشر العلم والمعرفة على الأمة والإعداد الجيد للناس عن طريق التربية والتنوير. وأن الأمة ليس لها من يحك جلدها إلا ظفرها ولا يقودها إلا العقلاء ومحسني التدبير..

إن من وسائل مقاومة الاستبداد هي ترقي الأمة في الإدراك والإحساس وهذا لا يحصل إلا بالتعليم والتربية على هذا النحو يجب تهيئة البديل عن الاستبداد قبل مقاومته والإجهاز عليه كما طالب الكواكبي بالشورى الديمقراطية والسياسة المدنية وربطها بالتربية الصالحة والتهذيب الاجتماعي واعتبر أن العافية المفقودة هي الحرية السياسية.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد