نحن أمام رحلة جمالية ووجودية نسجها الشاعر والروائي عادل خزام بخيوط من ذهب الشعر ومياه الحكمة. تسير رحلة الأصدقاء الثلاثة في ثلاثة اتجاهات ذهنية منفصلة، لكنها مع ذلك تتقاطع في همومها وشجونها، في آمالها وأحلامها، تبدو كأنها لن تتنافر وتتباعد في الأفكار والمقاصد، لكن سؤال المسير ومجهول المصير ينسج بينها مشتركا ووشائج متينة من الحوار والتفاعل، والدهشة والسؤال، ومن الحيرة والاكتشاف، ومن المعنى واللامعنى، من الجهل والمعرفة، ومن الجنون والحكمة.. هكذا يظهر أن طريقهم أكثر وعورة وبحثهم عن أقاصي المعرفة والإلهام والحكمة تبدو مهمة مستحيلة.
للسرد في رواية "حياة بعين ثالثة" قدرة على إدراك الحقيقة.. حقيقة معرفة العالم، بدءا من الذات وصولا إلى الآخر، ثم الرجوع إلى الذات، لترتد دورة الحياة والحقيقة كاملة شاملة إلى الأسئلة نفسها.. هي في الحقيقة ذات واحدة حائرة متسائلة ومندهشة ترقى في المدارج لتصير ذاتا ملهمة ورؤيوية وتتحول أخيرا إلى ذات متأملة حكيمة، صيرورة الوعي الشقي في أبهى تجلياتها. هذه المحاولة لإعادة اكتشاف الذات في علاقتها بالأشياء والناس والزمن، تمنحنا ثلاثة أصوات هي في العمق تنويع لثلاث سراد، ينسج كل على حدة سردا مختلفا هو "سرد المريد وسرد الشاعر وسرد الحكيم".. وبينهم ينتظم صوت المتكلم وكأنه معزوفة على مقامات ثلاث توحدها هارمونيا واحدة هي الصوت المجاهد المتعطش للمعنى، الذي يبحث بلا كلل ولا ملل عن زهرة الخلود حتى وحفت الرحلة مشقة وأخطار ومهالك ودمار. هذه الذات المنشطرة إلى كواكب تدور في فلك واحد توحدها الرغبة في الارتواء من نبع الإلهام تارة ونبع الحكمة تارة أخرى. ويمكن تقسيم هذه المقامات إلى ثلاثة أصوات سردية:
– صوت المريد وهو سارد شاهد على لقاء غير متكافئ بين الحكيم والشاعر.
كما أنه يريد المعرفة أيضا، قوته تكمن في الحيرة والسؤال، بينما ضعفه، فيكمن في التسرع في إصدار الأحكام.
– صوت الحكيم: يمنح الحكمة والمعرفة، لكنه مصاب بالخيبة من عدم قدرته على تغيير العالم.
– صوت الشاعر: يمنح اللغة المكثفة التي تدفق بوجدان وانفعال الجمال كله في بوتقة واحدة لتصوغ منه جمالا شعريا بديعا.
وقد اخترت توصيف الصوت بدل السارد لأن الرواية في معظمها حوارية تغلب عليها أفعال الكلام: (قال/ سمعت/يقول…) وهي تتكرر بشكل يعزز زعمنا أننا أمام معزوفة تنشدها ثلاثة أصوات في تعامد تارة وفي تساوق تارة أخرى وفي تخاصم حينا آخر. أصوات تنادي الأقاصي المجهولة للحقيقة وتصارع الحدود الوهمية للزمن.
الاغتراب هو أيضا في صلب أطروحة الرواية فكلما تقدموا في المكان وتجاوزوا حدود الزمن ازدادوا حصارا وعزلة يعزز أيضا هذه الفكرة الخيبة الملازمة للأصوات خصوصا بالنسبة للحكيم الذي يجد المظهر ما هو إلا انعكاس للداخل، بحيث إن الصورة ليست هي الأصل بل الغرض منها فإذا أردنا الخير كانت خيرا وإن أردنا شرا كانت شرا.
أما الشعر فخيبته مزدوجة، لأنه يجمل الصورة ويحسن ألفاظها ويسمو بجمالها لكنها في النهاية تتشظى على أرض الواقع الرافض للجمال المتنكر للسمو والكمال. وكلاهما يريد العودة إلى نفسه، ربما ليستر صورته عند الآخر، لم يعد ممكنا أماهما تجميل الصورة بل إنقاذها من الفناء والانقراض.. إذا مات الشعر فني العالم كما قال الشاعر الفرنسي إيف بونفوا وإذا اختفت الحكمة ساد الجنون وانهارت القيم واختفى العدل.
أما الصوت الشاهد فيصطدم بالحيرة والملل والقلق، العاطفة الملتبسة والريبة من الشاعر والحكيم أي الريبة بين الحقيقة والخيال. ربما طابعه الحيادي يدفعه إلى الاستسلام لظنونه وحدوسه بين تصديق وتكذيب، لكنه لا يعبر عن ذلك لفظا بل نسمع هسيسه بين أوردة الحوارات الدائرة بين الحلم والحقيقة، بين الواقع والجمال، حرب عالمة وعليمة بين القلب والعقل.
إن هيكل رواية عادل خزام منفتح يحاكي محاكاة ساخرة بين السرد الواقعي، والسرد الفلسفي، والقول الشعري مما يمنح الكاتب حرية اللعب بالمتناقضات. وكأنه يضيف صوتا آخر إلى المقامات الأخرى، لمزيد من تعرية الواقع وأيضا في سبيل اكتشاف الحقيقة، وعلى العموم فإن الاطروحات الهامة في الرواية،تمنح الكاتب إمكانية التنويع في الأطراف، لتفكيك الأطروحة الوجودية الأساسية أن الانسان وما هو عليه صنيعة طريقة تعامله مع الزمن.
إن تعدد الأصوات ذريعة لتحديد مصير الإنسان بمستوياته الجاهل والعالم الغني والفقير، المتمرد والمسالم، الطوباوي والواقعي.. مصير يقود العالم الآن إلى خليط من الحرية واللامبالاة والخبث والشر وفقدان القيم والجمال.
كان طموح الكاتب في هذه الرواية البديعة يكمن في تجميع أفكار متعددة حول الوجود الإنساني، وقيمه الأخلاقية والجمالية، كما يتجلى هذا الطموح في القدرة على إنتاج المقولات أو مقارنة المفاهيم، ولأن الكاتب أدرك بعمق أن الفهم هو القدرة على إنتاج أو مقارنة التصورات فقد قام بتمثيل هذه المفاهيم على أرض الواقع وجعلها تخوض مغامرة رحلة ذهنية تبرز تجليات هذه المفاهيم لا المفاهيم نفسها. رحلة أنطقت الأشياء وحركت التمثلات واستدعت الانفعالات والتصورات.
ها نحن، على ما يبدو، في صلب جوهر الرواية، إنها رواية بعين ثالثة عن الحياة. هي في المقام الأول رواية ذهنية، تعتمد تصورات فلسفية وجمالية. يمررها الكاتب بوسائط سردية وشعرية للتعبير إجمالا عن المصير الملتبس والغامض للانسان المعاصر. أمام تحديات الحياة. وفي المقام الثاني رواية شعرية لا يكتبها إلا شاعر راكم من الحياة والمعرفة والشعر ما يجعله قادرا على كتابة رحلة ذهنية تضاهي الأعمال السردية الفلسفية العالمية.
ومن باب التذكير، فقد صدر للمؤلف "تحت لساني" ديوان شعر 1993، و"الوريث" ديوان شعر 1997، وفي الضوء والظل وبينهما الحياة "دراسات عن تطور الفنون البصرية" في الإمارات 2000، "والستارة والأقنعة" دراسة استقصائية عن المسرح في الإمارات 2002، "والسعال الذي يتبع الشحك" ديوان شعر 2006، و"مسكن الحكيم نصوب وتأملات" 2010، "والظل الأبيض" رواية 2013، وترجمت قصائده إلى عدة
لغات منها الإنجليزية والفرنسية، والهندية، وله مجموعة شعرية كاملة مترجمة إلى الألمانية.
عن صحيفة عكاظ السعودية
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.